الرئيس والمثقفون (أحمد عبد المعطي حجازي)

أحمد عبد المعطي حجازي

لو كنت في مكان السيد صلاح عبد المقصود وزير الاعلام لأذعت علي الناس صورة كاملة من لقاء السيد رئيس الجمهورية بالكتاب والفنانين المصريين يوم الخميس الماضي, لقد كان هذا اللقاء تجسيدا لقيم ومعان غابت طويلا عن حياتنا وآن لنا ان نستحضرها ونشيع في المجتمع احترامها, وأولها المكان الرفيع الذي تحتله الثقافة في مصر.
الثقافة بالنسبة لنا أصل وفرع ـ استقرار وتمدن ـ خبرة وأخلاق تراث وإبداع ماض وحاضر ومستقبل والثقافة في كثير من اللغات تدل علي معنيين متصلين أو مترادفين! تربية العقل وتهذيبه, وفلاحة الأرض وزراعتها, وهكذا نفهم الثقافة في مصر التي عرفت الزراعة قبل غيرها كما عرفت الكتابة قبل غيرها.
والمثقفون المصريون هم الذين نقلوا العصور الحديثة الي مصر التي ظلت محبوسة الي أوائل القرن التاسع عشر في زمن المماليك والأتراك, وهم الذين فتحوا لها الطريق لتسترد وعيها بذاتها, وتتعلم معني الحرية والديمقراطية, وتطالب بالدستور, وتحترم المرأة وترد اليها حقوقها التي هضمت قرونا وقرونا, وتفهم معني المواطنة, وتدافع عن حرية التفكير والتعبير والاعتقاد والإبداع.. وبدون هذه الثقافة الجديدة كانت مصر ستظل ولاية عثمانية. صحيح أن السلطنة العثمانية سقطت في تركيا, وأن كمال أتاتورك ألغي الخلافة وأعلن الجمهورية لكن الخلافة يمكن ان تسقط في تركيا ويبقي لها اتباع يدافعون عنها في مصر ويسعون لإحيائها وإلحاق مصر بها كما يفعل زعماء الإخوان أمثال مهدي عاكف ومحمد بديع, وإن لم نحمل كلامهم علي محمل الجد واعتبرناه حنينا رومانتيكيا للماضي وبكاء علي الأطلال لأن الزمن تغير, وحلت ثقافة العصور الحديثة وسياستها محل ثقافة العصور الماضية, والدليل علي هذا ان الإخوان الذين ينادون بعودة الخلافة هم أنفسهم الذين يسابقون غيرهم الآن في النشاط السياسي العملي بكل صوره وأساليبه وألاعيبه, ويتحولون من جماعة تدعو للدين وتجتهد في احياء قيمه وتجديد فكره الي حزب سياسي ينافس الأحزاب الأخري ويستخدم أساليبها المقبولة, وغير المقبولة.
بدون الثقافة والثقافة الحديثة خاصة لم يكن شيء مما حدث في مصر خلال القرنين الأخيرين وحتي الآن حدث, لا ثورة عرابي, ولاثورة 1919, ولا ثورة يناير, لا الاستقلال, ولا الدستور, ولا إعلان الجمهورية, ولا تنصيب الدكتور مرسي رئيسا للجمهورية.
القيمة الأخري التي تجسدت في لقائنا مع السيد رئيس الجمهورية هي التي عبر عنها آباؤنا وأجدادنا حين نظروا الي تعدد الآراء واختلاف الفتاوي فقالوا: اختلافهم رحمة! لأن الآراء المختلفة اجتهادات مختلفة في الوصول الي الحقيقة التي لايستطيع ان يصل اليها رأي واحد, فالحقيقة نسبية فيما يري كل منا, كل منا يري من الحقيقة وجها من وجوهها الكثيرة المتعددة, وليس فينا من يملك الحقيقة الكاملة أو المطلقة, والا فامتلاك الحقيقة المطلقة أو ادعاء امتلاكها طغيان يخول لصاحبه ان يستعبدنا ويسكتنا ويسوقنا بعصاه ويمنعنا من التفكير لأنفسنا والنظر في مشكلاتنا والسعي لحلها, كما كان يفعل معنا الطغاة الذين رزحنا تحتهم عقودا طويلة وقرونا عديدة, حتي استطعنا ان نثور عليهم ونسترد حريتنا ونعترف لكل منا بحقه في أن يري ويفكر ويعبر ويختار, لأننا مختلفون متعددون وان كنا جماعة واحدة, الطاقات والعقول والمصالح والميول تختلف وقد تتعارض, فمن حق كل منا ان يعرض وجهات نظره ويدافع عنها ويقابل بها وجهات النظر الأخري, ويمتحن هذه بتلك وهكذا ينتهي الحوار بالجماعة الي رأي مشترك يتميز عن رأي الفرد بميزتين: الاولي تخلصه من الأخطاء ونقط الضعف التي تكشفها المناقشة في الرأي الواحد وتعالجها, والميزة الأخري تمثيله لكل الذين شاركوا في المناقشة ووصلوا اليه وأسهم كل منهم فيه بنصيب فأصبح ينسب لكل فرد منهم, كما ينسب لهم, بعكس الرأي الواحد الذي يفرضه صاحبه بالقوة فلا يقبله الآخرون الا مضطرين, فإذا كان الاعتراف بأن التعدد قانون ثابت, وأن الأول ـ الأنا ـ لايوجد الا مع الآخر الذي يقابله ويكمله, وأننا متعددون فنحن لامحالة مختلفون, وأن اختلافنا رحمة, لأن الاختلاف يحمينا من طغيان الرأي الوحد والوقوع في أخطائه ـ إذا كانت ثقافة التعدد, والاختلاف والاجتماع والتكامل قيمة فكرية واخلاقية مطلوبة في كل ظرف وفي كل حال, فهي قيمة مدنية أو سياسية نحتاج اليها أشد الحاجة وخاصة في الظروف التي تمر بها بلادنا الآن وتنتقل فيها من حال الي حال.
الاعتراف بالتعدد والاختلاف والحاجة للقاء والحوار لنمتحن آراءنا ونصل الي موقف مشترك أو لنعرف علي الأقل فيم نتفق وفيم نختلف هو الشرط الأول لقيام الديمقراطية. ومن هنا أهمية اللقاء تم بين المثقفين والرئيس.
رئيس الجمهورية ينتمي لجماعة الإخوان المسلمين فلابد ان يختلف مع كثير من المثقفين المصريين وأن يختلف الكثيرون منهم معه, لأن الإخوان جماعة دينية محافظة تسحب الماضي علي الحاضر وترجع للدين في كل شيء, والمثقفون المصريون وأقصد المشتغلين بالانتاج الفكري والإبداع الأدبي والفني جماعة تنتمي للعصور الحديثة وتختلف مع الإخوان في أمور كثيرة لم تكن موضوعا للمناقشة والحوار من قبل, وقد تغيرت الظروف وأصبحنا مطالبين جميعا بتحديد مانتفق حوله ومانختلف.
إلا ان المصريين لم يعرفوا من قبل هذه المواجهة المتكافئة بين رجال الفكر ورجال الحكم, وقد آن لهم ان يعرفوها, والفضل يرجع للثورة التي أعطت كل ذي حق حقه, كما يرجع للذين اقترحوا هذا اللقاء من مساعدي الرئيس فضلا عن الدكتور صابر عرب وزير الثقافة.
لكن لقاء الرئيس بالمثقفين لايكتمل إلا بعرضه علي ملايين المصريين, وتوسيع نطاقه, ومتابعة ما دار فيه بلقاءات أخرى.
 
الأهرام المصرية

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى