الفن السابع في مملكة العبث العربي

منذ فيلمه الطويل الأول «النهاية» (2011)، قدم المخرج المغربي هشام العسري نفسه كأحد الأسماء المقبلة بقوة على الساحة السينمائية العربية. وفعلاً، لم يخب ظن المتابعين لتجربة العسري الأولى عند مشاهدتهم أفلامه اللاحقة. هكذا كان حال المخرج المغربي الشاب في شريطه الطويل الثاني «هم الكلاب» (2013 – د 85): مخرج باحث عن أسلوبيته الفنية الخاصة، ليتمكن من تجاوز السائد شكلاً ومضموناً من خلال زج الكاميرا في مناخات المسكوت عنه سياسياً واجتماعياً. أما في آخر أفلامه «البحر من ورائكم» (2014)، والذي عرض في الفترة الأخيرة، إلى جانب الفيلمين السابقين، ضمن «أيام بيروت السينمائية»، يؤكد صاحب الثمانية والثلاثين عاماً أنه صاحب مشروع سينمائي، خاص، خارج عن القوالب المألوفة عربياً.

على غرار خياره الفني في أول أفلامه الطويلة، يقدم العسري شريطه «البحر من ورائكم» بالأبيض والأسود، راوياً من خلاله حكاية ينخر القهر في مجمل تفاصيلها الدقيقة. الأبيض والأسود عند مخرج «وشم العذاب» (2002) ليس هاجساً جمالياً خالصاً بمقدار ما هو نفي متتال لتضادات الثنائية ودلالاتها، ذلك بغية الابتعاد عن حمى التأويلات الجاهزة. الاشتغال السابق لن يكون إلا اللبنة الدرامية الأولى للانطلاق في عوالم «البحر من ورائكم» (إنتاج مغربي إماراتي – فرنسي). في المدينة التي تدور فيها حكاية «البحر من ورائكم»، اختفت الألوان، في شكل كامل، وذلك نتيجة تلوث المياه نتيجة إصابتها بوباء «البق». إلا أن إعلان الفيلم منذ بدايته عن الكارثة العامة لن يكون مدخلاً للتعرف إلى حجم النكبات الشخصية التي تفاعلت وتمازجت مع بعضها، فغدت اللوحة العامة على ما هي عليه من بؤس وفاقة.

إعلان مبدئي

يعلن الفيلم عن نفسه منذ اللحظة الأولى، من دون يحاول أن يخفي بعضاً من خيوط حبكته، فيظهر بطل الفيلم طارق (مالك خميس) متأملاً البحر أمامه وهو معطياً ظهره للعالم، مترافقاً مع مرور العبارات التالية على الشاشة: «في مكان آخر، في بلد بدون ألوان، حيث تقطع أيادي اللصوص، عالم يعتبر فيه الإنسان حيواناً، والحيوان عدماً، وقعت ظاهرة غريبة، تلوث الماء وأصابت العدوى كل شيء… إلخ». بطل الفيلم طارق، هو نفسه من سيكون جسده ممدداً وسط الشارع، يتلقى الركلات عليه بقوة، والدماء تسيح حوله، كل ذلك أمام لا مبالاة المارة أو مراقبتهم العاجزة في أفضل الأحوال. بعد ذلك، يظهر طارق ويداه مقيدتان في مركز الأمن الوطني. رويداً رويداً سنتعرف إلى طارق: رجل يرتدي زي الراقصات، يضع المكياج، ويرقص فوق العربة التي يجرها حصان اسمه العربي.

في كل ثانية، يتراكم داخل بطل «البحر من ورائكم»، وبمقدار التساوي، كل من الذل والهزيمة. يتلقى الإهانات والشتائم من دون أي رد فعل يذكر، إلى درجة أنه يشرب قهوته التي اختلطت بها قطرات من دمه في شكل طبيعي (كما في أحد المشاهد). كل ذلك لن يزيد إلا من عجزه عن الفعل أو البكاء، حتى أمام رجل المخابرات لطفي (صلاح بن صلاح)، أي الشخص الذي دمر حياته تماماً، أغوى زوجته واحتل بيته وقتل أطفاله. الذل الذي يتعرض له طارق لا يتوقف عند ما سبق فحسب، فيتعرض، بسبب شكله وولعه بالرقص، للتحرش الجنسي من رجل خليجي، كما يقع في حبه رجل مثلي على رغم وضوح هويته الجنسية لطارق منذ بداية الفيلم.

العربي حصان يجر العربة التي يرقص عليها طارق، يظهر مريضاً منذ بداية الفيلم، غير قادر على المشي إطلاقاً، يتجمع الذباب بكثافة حول برازه وذيله. لكن الأب لا يزال مفتوناً بالحصان ومتوقعاً أنه سيعود يوماً كما كان في سابق الأيام. من عنوان فيلمه، وبالعلاقة مع المقولة الشهيرة لطارق بن زياد، يتخذ العسري موقفاً نقدياً ممن يتوسلون التاريخ ويعبدونه. على هذا النحو يظهر طارق بن زياد مرة وحيدة في الفيلم: بعد أن يضرب طارق من جانب عنصر الأمن، يغمى عليه، فيضعه الثاني في صندوق سيارته. في هذه الأثناء، يظهر فاتح الأندلس، فينشأ حوار بينه وبين طارق المعاصر، حوار يستمد واقعيته من عبثيته، والعكس صحيح أيضاً.

لا يقدم هشام العسري عنف الأفراد في فيلمه على أنه الأساس في المآلات الكارثية فقط، بل يذهب إلى ما هو أبعد من الرؤية التي يتماهى فيها السلطوي مع النخبوي، مقدماً إياه على أنه نتيجة لبؤس الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي. الخلاص الفردي عنده ضرب من ضروب المستحيل ما دامت هذه البيئات التي تولد العنف سلوكاً وفكراً ترفض، وبإشراف السلطات، إعادة النظر بالمنظومة الأخلاقية التي تشرعن سلوكياتها تحت مسميات عدة. الأمر السابق، برعت الصورة، التي رسمها العسري، في إيصاله، لتفصح عن رؤية صاحبها التي تشير إلى أن جميع السلطات في هذه البلاد تعتاش على السياسة نفسها: سحق الفرد وجسده.

وفي السياق السابق نفسه، تبدو عشوائية الأمكنة وعدم رتابتها، قادرة على الحفر في دواخل الشخصيات، وهذا ما يظهر جلياً بالأماكن التي جالت فيها كاميرا الفيلم، من المسالخ والمزابل والضواحي الفقيرة والأمكنة المهجورة، مروراً بالحظيرة التي يقيم فيها شاب علاقةً مع حمار، وليس انتهاءً بمركز الأمن الوطني.

إدارة الظهر إلى العالم

في نهاية الفيلم، بعد أن يخرج طارق من مركز الأمن، يدير ظهره للعالم، كما كان يفعل في أول الفيلم، كأن الفيلم هو الوقت الذي قضاه بطل الفيلم في مركز الأمن الوطني. الوقت السابق هو الزمن الدرامي للفيلم الذي يختصر زمناً يزيد عن زمن حكاية طارق. عدم اكتراث الناس بمراد (الشاب المثلي) المرمي أرضاً في الشارع وسط دمه، ومن ثم موت الحصان المحتضر، والأكثر إلحاحاً فجائعية ما استعاده بطل الفيلم في سجنه من مشاهدات خاصة، تصبح مقولة طارق المعاصر، والعازم على الرحيل هكذا: «البحر من أمامكم، والعدو من ورائكم».

صحيفة الحياة اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى