المثقّفون العرب والسياسة

عند المُقارنة بين الكتابات الفكريّة-الثقافيّة للدكتور إدوارد سعيد وكتاباته السياسيّة المُباشرة التي كان يكتبها في الصحف، يُلاحَظ انخفاضٌ كبيرٌ في المستوى في الثانية بالقياس إلى الأولى. لا يُلمس هذا التباين عند ياسين الحافظ، مثلاً. ويتمثّل الجواب على الأرجح في أنّ ياسين الحافظ كانت له تجربة سياسيّة عمليّة تنقَّل فيها بين ثلاثة أحزاب :الشيوعي، البعث، حزب العمّال الثوري العربي، فيما لم يدخل الدكتور سعيد في السياسة العمليّة.

هذه التجربة السياسية العمليّة لا تقتصر على الأحزاب بل يُمكن أن يعطيها جهاز سلطة الدولة، وهو ما يُمكن ملاحظته عند محمّد حسنين هيكل، أو عند شخص مرَّ بالتجربتَين، مثل عزيز الحاجّ، الذي تزعَّم الحزب الشيوعي العراقي- القيادة المركزية بين أيلول(سبتمبر)1967 وشباط (فبراير)1969، ثمّ أصبح مُلحقاً ثقافيّاً بالسفارة العراقية في باريس، أو غسّان تويني الذي عاش تجربة حزبيّة في الحزب القومي السوري الاجتماعي ثمّ حصل على مناصب عليا في الدولة اللّبنانية.

هناك تجربة يُمكن أن تساعِد على مُقارَبة هذه الفكرة: عندما أصدر محمّد جمال باروت كتابه “حركة القوميّين العرب” في العام1997، قال كثُرٌ من أصحاب التجربة الحَرَكية في ذلك التنظيم إنّ الكِتاب “لايقول شيئاً” تقريباً، ومنهم قياديّون، لأنّه اعتمد أساساً على الوثائق في تأريخ الحركة، فيما التنظيم السرّي يقوم على الشفويّ، ولا يعرف اللّوحة الكلّية إلّا صفوة القادة. على هذا الصعيد، فإنّ المتمرّسين بالسياسة العمليّة كلّهم يعتبرون كِتابات الأكاديميّين في (العلوم السياسية)، أو الكتّاب المستقلّين أو الأدباء والفنّانين عندما يكتبون كِتابات تحليلية سياسية، خارج مضمار الملعب. هذا يعود إلى أنّ هذه الكِتابات تنطلق من رؤية ثقافيّة للسياسة عندما تعتبر الأخيرة تطبيقاً عمليّاً لمقولات ثقافية، أو من رؤية أخلاقية للسياسة لا تفترق عن نظريّات الدراما حول الصراع بين الخير والشرّ أو الحقّ والباطل، بينما انبنت السياسة عمليّاً على أربعة في العصر الحديث: مكيافلّلي، توماس هوبز، كارل ماركس، وليام جيمس مؤسِّس المذهب البراغماتي، وهُم عملياً قاموا بالتأطير الفكريّ لماهيّة السياسة، ما كانت عليه من قبلهم، وماهي عليه الآن عند اليمين واليسار العالميَّين.

عند هؤلاء الأربعة، فإنّ المبادىء السياسية لا تُقاس بذاتها ولا بمضمونها أساساً، بل بالقوّة التي يتمتّع بها حامِلها الاجتماعي، وبالمصالح التي وراءها. كما أنّ الأساس ليس المقدّمات والمضامين في الأفكار بل النتائج العملية التي تنتج عنها والمصالح التي تخدمها. الأربعة يتّفقون على عبارة هوبز:”الانسان ذئب”، وعلى أنّه من أجل ألّا يأكل الجميعُ الجميعَ، هناك حاجة إلى احتكار القوّة، سواء من سلطة الدولة الممثِّلة لقوّة القانون أو الحزب الذي يسعى إلى الوصول السلطة عند الماركسيّين.

من المؤكّد أنّ الأربعة لا يعترضون على عبارة ستالين الساخِرة التي قيلت في شباط (فبراير) 1945 في مؤتمر يالطا لمّا أخبره تشرشل بأنّ دولة الفاتيكان أعلنت الحرب على هتلر:” كم دبّابة عند البابا؟”. فمن دون هذا الفهم للسياسة، لا يُمكن تفسير صمت المجتمع الدوليّ على العبارة التي أُطلقت في الكنيست الإسرائيلي من قبل أفيغدور ليبرمان، المُهاجِر اليهودي من مولدافيا، ضدّ أحمد الطّيبي ابن العائلة ذات الجذور في فلسطين لأكثر من ألف عام:”اخرج من وطني”، وبالتالي تواطؤ هذا المجتمع الدولي وقبوله بدولة مهاجرين تقتلع أصحاب الأرض، ما يدلّ على أنّ العلاقات الدولية غابة من الذئاب والحقّ يُقاس بالقوّة فقط وليس بغيره.

الغريب هو أنّ العرب، في التحليل السياسي، ما زال يسودهم التفسيرُ الأخلاقيّ للسياسة، على الرّغم من الدرس الإيضاحي الكبير المُعاكس عن “ماهيّة السياسة” الذي اسمه “إسرائيل”:هذا التفسير، فضلاً عن التفسير الثقافي للسياسة، لا ينطلق من أنّ “السياسة هي مَملكة الأفعال الموضوعية”، وبالتالي فإنّ مجال الذّات السياسية هو”إدارة المُمكنات” فقط، وفق منظورها السياسي وسعيها لتحقيق أهدافها عبر توازن القوى ومنطق القوّة ومنطق المَصالِح، بل تحكمهما نظرات إرادويّة أخلاقية. لذلك تتردّد كثيراً في هذَين التفسيرَين للسياسة العبارات التالية:”ينبغي، يجب، إنّي أرى، إنّي أعتقد، كان من الواجب فعل كذا، أو “كان بالإمكان تفادي كذا…”.

من هنا نجد في كتابات المثقّفين العرب التحليلية السياسية غياباً كبيراً للمعلومات المُستخدَمة في عمليّة التحليل بالنصّ، حيث نجد محاولةً لتفسير الفكرة بالفكرة، ما يجعل النصّ بمثابة تراصف أفكار، بحيث يُمكن ألّا تجد في نصٍّ من ألف كلمة اسم عَلَم ولا معلومة ولا رقم ولا تاريخ، بعكس الصحافة الغربية حيث يكون النصّ السياسي مؤلَّفاً من طوابق: منهج التحليل، المعلومات، النتائج والأفكار المُستخلَصة من تلاقح الأوّل مع الثاني. يمكن أن تكون النتائج والأفكار المُستخلَصة قبضاً معرفياً على الوقائع السياسية القائمة، ويُمكن أن تكون تلمّساً معرفياً توقّعياً بالوقائع القادمة. عند الكتّاب السياسيّين العرب، الآتون من التجربة السياسية العمليّة في الأحزاب وفي جهاز سلطة الدولة، هناك قرب أكثر من الصحافة الغربية التي يجتمع يمينيّوها ويساريّوها على أنّ السياسة ليست تطبيقاً محضاً للكُتب أو لمقولاتها الثقافية، وأنّها ليست صراعاً أخلاقيّاً بين الخير والشرّ أو الحقّ والباطل، وأنّ هناك على الأرجح عدداً كبيراً من الكتّاب العرب الذين لا يتجرّأون على نشر كتاباتهم مؤرَّخة بوقت صدورها لكي لا يظهر مدى فواتها التفارقيّ عن مُقارَبة الوقائع السياسية.

من الضروري تفسير هذا التفارق بين “المثقّف” و”السياسة”: فمثلما أنّه لا يُمكن تعلّم حرفة النجارة في الثانوية المهنية بل في مشغل النجّار، فإنّ السياسة لا يُمكن تعلّمها في كلّيات العلوم السياسية بل في المطبخ العمليّ للأحزاب أو لمؤسّسات سلطة الدولة. وكما يقول مونتسكيو أيضاً: “المهنة تقوم بخلق ذهنيّة خاصّة”، حيث تقوم مهنة الثقافة على محوريّة ذات المثقّف وفرديّته، فيما تنبني السياسة على المؤسّساتية سواء في سلطة الدولة أم الأحزاب. وهذا هو الذي كان يؤدّي إلى غربة المثقّف التنافريّة فيهما، إلّا إذا استطاع تحويل نفسه عبر الاندماج بالمؤسّسة إلى سياسي يتغلّب عنده “العامل السياسي” على “الثقافي” ويستتبعه، مثل غرامشي، وهو ما لم يجعله مثقّفاً بل “مفكّراً سياسيّاً” و”مفكّراً ثقافيّاً”، وذلك إذا ما أخذنا بعَين الاعتبار تعريف المفكّر على أنّه: “مَن يُنتج أفكاراً جديدة، أو يشرح أفكاراً قديمة بطريقة جديدة”، بينما يظلّ المثقّف يدور في شرح الأفكار والمقولات عبر العرض النصّي أو التحليلي. كانت الأحزاب والسلطات تحلّ هذا التنافر مع المثقّفين من خلال تكليفهم بمهمّات في المؤسّسات الإعلامية والثقافية بعيداً عن دائرة صنع القرار.

على الأرجح إنّ هذا التفارق بين “المثقّف” و”السياسة” هو الذي يعطي الدلالة على أنّ كلّ تزعُّم للمثقّفين لساحةٍ سياسيةٍ، كما في ساحة المعارضة في تشيكوسلوفاكيا 1977-1989 وفي سورية 2000-2001، كان يحوي دلالة على أنّ هناك حالة تصحّر في الحياة السياسية. في سورية (2000 -2001) احتوى طرْح شِعار “المجتمع المدني” من الدلالات الثقافية ما هو أكثر من الدلالات السياسية، ما جعل من السهل تفكيكه معرفيّاً من قبل أنصار السلطة، وهذا لم يكُن مُمكناً لو طُرِح شعار “الديموقراطية” فقط. وكان من الواضح أنّ هذا الشعار المُلتبس لا يُمكن أن يطرحه سياسي عمليّ أو متمرّس، حيث إنّ هناك الكثير من الصحّة في ذلك القول العائد إلى الجنرال ديغول عن السياسي الماهر: “ينبغي ألّا يكون لديه سوى أفكار بسيطة قليلة، والأفضل أن تكون الأكثر بساطة، ولا يجب عليه أن يشرح، ولا أن يُبرِّر. إنّ التعقيدات تعود إلى السياسيّين المتوسّطي المستوى”.

كخلاصة: السياسة هي مكثّف لجوانب “الاقتصاد” و”الاجتماع” و”الثقافة”، وهي في الوقت نفسه قاطرة القطار الذي يضمّ هذه العربات الثلاث. لا يُمكن للسياسة أن تُقاد بغير منطقها العَمليّ، وإلّا سقطت في اللّافعاليّة واللّاإنتاجيّة.

نشرة أفق (تصدرعن مؤسسة الفكر العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى