المثقّفون وحُلم التغيير: إضاعة الفُرص أم تحوّل في الأدوار؟

يُمكن اعتبار المثقّفين بمثابة النخبة التي تشتغل بالفكر والثقافة والمعرفة والفنّ إنتاجاً وترويجاً واستهلاكاً، والتي يؤهّلها رأسمالها المعرفي إلى حمل مشعل التغيير والتجديد. وإذا كان هذا الأمر متوافَقاً حوله نسبيّاً على الصعيد النّظري، فإنّه على صعيد الواقع والممارسة ليس بهذه البداهة والبساطة، حيث تلتبس العلاقات والأدوار وتتداخل الوظائف والرهانات بين المثقّف وغير المثقّف، وبينه وبين والمجتمع والسلطة والسياسة والإعلام والإيديولوجيا…

يُلاحِظ المتتبّع أنّ أداور المثقّف بدأت في التراجع وغدا بريقه يخفت، وأصبحت تغلب على انشغالاته البرغماتية والخدماتيّة لمصلحة تحالف المال والسلطة والإعلام… وقد بدأت مظاهر هذا التراجع تتجلّى أكثر خلال العقود الأخيرة، بفعل السيل الكثيف من الهجمات- ومن جهات متعدّدة- على الفكر النقدي التحرّري وعلى الاستقلاليّة الفكريّة.

فهل لهذا التغيير في الوظائف علاقة بالتحوّلات التي وقعت في العالَم خلال العقود الأخيرة وكان من نتائجها تبخيس قيمة الثقافة والفكر بعامّة؟ وهل له علاقة بالتطوّر التكنولوجي الذي جعل عملية التعلّم والقراءة وإنتاج الأفكار والمعلومات وتداولها عملية سريعة ومتواترة ولانهائية وغير محصورة في أجهزة ثقافية ورمزية بعينها، وغير مجسَّدة في مؤسّسات وشخوص تحتكر إنتاجها وترويجها؟

يمكن القول إنّ التحوّلات التي شهدها العالَم العربي خلال العشريّتَين الأخيرتَين كانت قد أدّت إلى بروز مفارقة كبيرة في تصوّر أدوار المثقّف وعلاقاته بالفكر والسياسة والدّولة والثورة والتغيير.

فمن جهة أدّت بعض الوقائع التاريخية إلى تراجع المثقّف العضوي والثوري من خلال استثمار نظريّات المجتمع المدني والانتقال الديمقراطي؛ ومن جهة أخرى أدّت وقائع أخرى لاحقة إلى بعث الأمل من جديد بإمكانية عودة الثقافة والفكر إلى سابق مجدهما، وإمكانية نهوض المثقّف من جديد بأدواره التنويرية في التفكير والإبداع والنقد ومعانقة قضايا مجتمعه المصيرية.

لقد تجسَّد العنصر الأوّل لهذه المفارقة في ما يُمكن أن نسمّيه بالولادة التدريجية للمجتمع المدني وعَولمة ثقافة حقوق الإنسان والمواطنة، وذيوع مطالب الانتقال الديمقراطي؛ أمّا العنصر الثاني، فتمثَّل في اندلاع الحراك الجماهيري الثوري المعروف باسم “الربيع العربي”. فهل استطاع المثقّف خلال هذه المحطّة استعادة أدواره النقدية بعد أن تخلّى عنها من خلال دفاعه عن المجتمع المدني والدمقرطة؟

أ- لقد شكَّل انبثاق المجتمع المدني في العالَم العربي، والذي ظهرت بوادره منذ تسعينيّات القرن الماضي واستمرّ في التطوّر والتراكم إلى اليوم، فرصة بالنسبة إلى المثقّف للقيام بنقدٍ ذاتيّ ومراجعة نظريّاته وأطروحاته الثورية السابقة. حيث بات ذلك مناسبة غير مسبوقة للاندراج في مسرح الحركية التاريخية من منظور جديد غير ثوري وغير نقدي، وسمح للمثقّفين كشريحة اجتماعية محورية بتبنّي المشروعات المجتمعية الديمقراطية وصوغها وتدبيرها والدّفاع عن المواطنة وحقوق الإنسان…

وعلى صعيد الوعي بالذّات وبالوظائف التي يشغلها المثقّفون، شكّل المجتمع المدني مناسبة للتحرّر من التبعية الكبرى للفاعل السياسي- سواء أكان دولةً أم حزباً- والذي كان قد ارتهن له المثقّف لعقود طويلة بشكل جعل منطق السياسة وأولويّاتها يغلب داخله على منطق الثقافة والفكر والنقد.

لقد افرز فضاء المجتمع المدني مساحات أكبر للحرّية والاستقلالية لم تكن متوفّرة في السابق لمفاهيم وإيديولوجيات ثورية ظلّت تؤطِّر سنوات الاستقلالات الى حدود الثمانينيّات من القرن الماضي. لكن في الواقع لعب توظيف المجتمع المدني أدواراً “تعويضية” أو “استبدالية”، وشكَّل مناسبة للعودة إلى الذّات ومُساءلتها بعد أن انقشعت غيوم الأوهام و”الحكايات الكبرى”. لقد بدا “كملاذ أخير” يُمكِّن من استئناف النضال من أجل المشروعات والأفكار التحرّرية تحت مسمّى جديد، وبآليات نظر فكرية وتنظيمية جديدة، وذات صيت إيجابي، ومحبَّذة على الصعيد الداخلي والخارجي، بخاصّة بعدما كشفت تجارب التحوّل الديمقراطي في العالَم الأدوار الفعلية التي لعبها المجتمع المدني، وطليعته الممثَّلة في المثقّفين العضويّين، في مواجهة الأنظمة الشيوعية والتوتاليتارية والعسكرية في أوروبا الشرقية وأميركا اللّاتينية، وفي الدَّفع في اتّجاه الديمقراطية وحقوق الإنسان.

إنّ هذه الدلالات والوظائف التي عكسها المجتمع المدني قد تلقّفها المثقّف وانخرط فيها تنظيراً وممارسةً؛ ففي المغرب، وابتداء من التسعينيّات، بدا واضحاً رغبته في استثمار هذا الحقل الواسع من الفضاء العامّ لما يَعِد به من إمكانات واسعة للتأثير في المجتمع من خلال قنواته التنظيمية والتواصلية والتحسيسيّة… لقد كانت مساهمة المثقّف بادية للعيان سواء في الحقل الجمعوي أم الفنّي أم الثقافي بعامّة، فتناسلت الجمعيات المدنية والحقوقية والمُدافعة عن النساء والنوادي المسرحية والتربوية… وشهدت الحركة الثقافية انتعاشة ملحوظة، وأسهمت المؤسّسات الثقافية في هذه الحركية كاتّحاد كُتّاب المغرب وبيت الشعر والصالونات الأدبية..إلخ. وشكَّلت تجربة “التناوب التوافقي” التي كان لليسار دَورٌ أساسيّ في تشكيلها فرصة نادرة لإعادة ترتيب علاقة الثقافي بالسياسي في اتّجاه تكريس استقلاليّة الأوّل عن الثاني، وكان الأمل كبيراً في إعادة الاعتبار للشأن الثقافي من خلال تعيين شعراء وكُتّاب مرموقين على رأس وزارة الثقافة. إلّا أنّ الأمل سرعان ما خفت حيث العكس هو الذي حدث، إذ انبرى المثقّفون، سواء في وزارة الثقافة أم في المؤسّسات الحزبية أو الفكرية أو الأدبية، للدفاع عن منطق السلطة ورهاناتها وعن إكراهات التناوب والمغالاة في البحث عن التوافق والتراضي ومقاربات الإصلاح. فضاعت الثقافة في هذا الخضمّ، ولم يسعَ المثقّفون، باختلاف أطيافهم، إلى تغيير هذا الواقع بل استسلم له أغلبهم، وبعضهم رضي بفتات السلطة ومكرماتها، بينما قبع البعض في الزاوية العلمية والأكاديمية الضيّقة.

عموماً، لقد أفضى الدّفاع عن النضال من أجل المجتمع المدني والدمقرطة والإصلاح تدريجيّاً إلى تغيّر وظيفة المثقّف، وانسحاب المثقّف العضوي أو الثوري تاركاً المجال لأصنافٍ هامشية من المثقّفين.

ب- أمّا العنصر الثاني من هذه المفارقة، فقد تشكَّلت ملامحه لحظة حدوث الحراك العربي، والذي بشَّر بعودة المثقّف إلى سابق أدواره… إلّا أنّ هذا الحدث، في فجائيّته وعدم قدرة المثقّف على رصده أو توقّعه أو التبشير به، جرى في وقتٍ كان قد تخلّى فيه المثقّف عن ثوريّته بتعديل مفاهيمه وتصوّراته ورهاناته لكي تتوافق مع طبيعة الواقع بتعقيداته وإكراهاته.

لذلك ظهرت أدوار المثقّف خافتةً أكثر من اللّحظة السابقة، حيث اختفى أغلب المثقّفين عن ساحات الحراك، وعن توجيه الأحداث الكبرى.

فقد انقسم المثقّفون المغاربة والعرب إزاء أحداث الربيع العربي إلى ثلاثة أصناف، أوّلها، وهو الغالب، صنف المثقّف “المُتقاعِس” الذي بدا عاجزاً عن توجيه الأحداث أو التّأثير عليها، و غير المبالي بما يقع حوله من صراعات، إمّا تبخيساً للشعب أو إيماناً بحتميّة الاستبداد وقوّة أجهزة هيمنته المادّية والإيديولوجية؛ وثاني هذه الأصناف هو صنف المثقّف “المتسرّع” الذي يستسهل استصدار الأحكام والتقييمات الذاتيّة (إمّا بالتفاؤل أو التشاؤم ) من دون جهد أو تمحيص موضوعي، والذي أصبح يحتلّ واجهة الإعلام ويُنتِج المعلومة والتحليل بالسرعة القصوى والآنيّة خدمةً لمنطق وسائل الإعلام العَولميّة. أمّا ثالثها فهو الخبير أو المهندس الاجتماعي، بلغة بورديو، الذي تجسَّد في صورتَيْن متجانستَيْن: الخبير الذي يشتغل في الظلّ ويُعِدّ البرامج والوصفات التقنيّة بالاعتماد على لغة الأرقام والإحصائيّات الرياضيّة والتجريد والصَّورنة. والمُستشار المختصّ في التواصل، الذي يقوم بتوظيف رأسماله الثقافي الذي اكتسبه من اشتغاله الأكاديمي والجامعي لخدمة الطبقات المُهيمِنة، وتكريس الوفاء لطقوس الرأسمالية الإمبريالية العالمية راجع: (La Nouvelle Vulgate Planétaire, Bourdieu P et Loic Wacquant, Le Monde Diplomatique, Mai 2000)

وللأسف الشديد فهذا النوع من المثقّفين في تكاثر مستمرّ، وهو ما يدلّ على نجاح مالِكي وسائل الإنتاج والإكراه في تبخيس دَور المثقّف وتحويله إلى مجرَّد موظف تنفيذي يدور في فلك السلطة.

في المقابل، كشفت مآلات “الربيع العربي”، التي أتت ببعض التنظيمات الإسلامية إلى سدّة الحكم عن طريق آلية الاقتراع العامّ، التباس بعض أصناف المثقّفين العلمانيّين، وأظهرت عدم اقتناعهم بثقافة الديمقراطية إلّا حين تكون نتائجها لصالحهم، مبرّرين ذلك بكون الجماعات الإسلامية توظِّف الديمقراطية كتكتيك فقط لبلوغ السلطة، وبأنّ إطارها المرجعي هو الحاكميّة لله. إنّ هذا الصنف من المثقّفين اكتفى باستصدار الأحكام من دون أن يبذل أيّ جهد فكري من أجل محاورتهم ومناقشتهم على قاعدة الحجج والبراهين العقلية والمنطقية. بل انبرى جزء منهم للتحالف مع الدّولة التسلّطية باعتبارها الدرع الواقي ضدّ الدولة الدينية اللّاهوتية.

أمّا مثقّفو التنظيمات الإسلامية، فقد انخرطوا أيضاً في هذا التقاطب الإيديولوجي، وسخَّروا إمكاناتهم لشَيْطنة المثقّفين الحداثيّين وقذفهم جميعاً في سلّة واحدة. وبقينا ندور في حلقة مفرغة من الاتّهامات بالتكفير والتغريب والعدمية والتخريب… وفي خضمّ ذلك فقد الجميع البوصلة، وازدادت حظوظ انحطاط الثقافة والفكر.

لقد كشفت الأحداث والوقائع اليوم تراجعاً واضحاً في أدوار المثقّفين، وقد يكون لذلك جملة من الأسباب منها ما هو موضوعي، ومنها ما هو ذاتي، نلخّصها كالتالي:

التغيّرات التي حدثث في الألفية الأخيرة، وعلى رأسها العَولمة وانتصار اقتصاد السوق… فقد عرَّت هذه التغيرات واقع المثقّف، وكشفت تراجع مكانة الثقافة والقيَم أمام إغراءات الرأسمال. حيث جَعَل منطق الترهيب والإغراء العديد من المثقّفين يتخلّون عن وظائفهم النقدية والتحريرية ليتحوّلوا نحو مقدّمي الخبرة والهندسة الاجتماعية.

الانتشار الواسع لتقنيات التواصل الحديثة التي أدّت إلى تراجع مكانة المثقّف. فقد عملت على منافسة المثقّف في عقر داره جاعلةً إنتاج تداول المعارف والمعلومات غير خاضعة لسلطة الإبداع والعلمية، فتعدَّدت صُور المثقّفين وأشباههم والدّعاة الجدد الذين حاولوا استثمار الإمكانيات الكبيرة التي تمنحها هذه الوسائط للتواصل مع جمهورٍ عالمي وإغراق السوق الثقافية بأفكار الانغلاق والتحجّر من جهة، وبقيَم السوق والفردانية المفرطة من جهة أخرى.
تغيّر مفهوم المثقّف نفسه فلم يَعُد هو المثقّف العضوي المنخرط في الصراعات الدائرة بين القوى المجتمعية، ليصبح مهتمّاً أكثر بحقله المعرفي وتخصّصه الضيّق، باحثاً عن الموضوعية والحياد الأخلاقي. لكنّ هذا الحياد كثيراً ما أدّى إلى نتائج عكسيّة، حيث ساعد الآلة التسلّطية على مواجهة شعوب لا تمتلك القدرة على المواجهة بسبب افتقارها إلى المعرفة والعِلم والتفكير النقدي الحرّ.

نشرة أفق (تصدر عن مؤسسة الفكر العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى