الموسيقى فنّ الزمان والمكان الدائمَين


صدق من قال إنّ الموسيقى هي لغة الشعوب والأُمم جميعاً. كلٌ يفهمها كما يريد ويُؤوّلها حسبما يريد. تدخل الموسيقى مشاعر الإنسان فتؤثِّر في شبكة مشاعره وصحّته البدنيّة والنفسيّة والعقليّة؛ فبعد سماعها (بخاصّة الموسيقى الكلاسيكية) يتمكّن الدماغ البشريّ من إفراز مادّة كيميائية يسمّيها الطبّ الحديث بـ”الأندروفين”، ومن وظائف هذه المادّة خفض التركّزات الثقيلة في الدماغ لإراحته وتهدئته وتنشيطه بنعومةٍ ولا أسلس. كما تُعزّز من مناعة الإنسان ضدّ كثير من الآلام الحادّة، المنظور منها وغير المنظور، وتدفع بالإنسان إلى التعبير عن نفسه بصيغة حرّة ومتحرّرة من أيّ قيد، حتّى ولو فرض هذا القيد نفسه مباشرةً عليه.

تؤثّر الموسيقى عميقاً أيضاً في الحيوانات والنباتات، فتذكي من نموّها و”مزاجها” في هذا النموّ. جُرّبت إحدى السيمفونيّات للموسيقار الفرنسيّ برليوز مثلاً على الأبقار في بعض الحقول الهولندية.. وكانت النتيجةُ زيادةً في كميّة الحليب في ضروعها، وتبدّلاً في هيكليّتها البدنيّة، كما لوحظ أنّ هناك تخلّصاً تدريجيّاً من الترهّل والتباطؤ والبلادة لتصير الأبقار معه أكثر نشاطاً وأرشق حركةً وحراكاً.

كما جُرّبت الموسيقى السيمفونية في بعض حقول الشوفان في الولايات المتّحدة، وكانت النتيجة مذهلة وغير متوقّعة،
جعلت موسمها السنويّ يزدهر بالأغلال أضعاف ما سبق من مواسم، وباتت النبتة الواحدة من الشوفان أصلب عوداً وأشدّ مناعة ضدّ غزو العديد من القوارض لها، علاوة على الحشرات الصغيرة التي لا تظهر إلّا ميكروسكوبيّاً.

ونظراً إلى أهمّية الموسيقى والحاجة الماسّة إلى وظيفتها ودَورها في الارتقاء بحياة الإنسان، فقد عرفتها الشعوب والحضارات منذ القدم، وخصوصاً في مصر وبلاد الرافدين واليونان والصين والهند، فاستخدموها عزفاً وغناءً وإنشاداً في معابدهم وقصورهم، فضلاً عن مسارات حروبهم وميادين أفراحهم وأتراحهم. كما عالجوا من خلال الأمداء الموسيقية مرضاهم من الأطفال والشباب والشيوخ، وكانت أغلب العلاجات فعّالة ومُستدامة في وقتها، وخصوصاً في مصر الفرعونية والصين الكونفوشية. من جهة أخرى، عرفت الحضارات القديمة الزاهرة، وخصوصاً الحضارة المصرية القديمة “كلّ فصائل الآلات الموسيقية التي نعرفها اليوم، سواء أكانت آلات وَتَريّة أم آلات نفخ أم آلاتٍ إيقاعيّة باستثناء الآلات الوتريّة ذات القوس، أي التي تُصدر الصوتَ بمرور القوس على الأوتار، فلم تعرفها الحضارة المصرية” على حدّ تعبير الأكاديميّ والخبير الموسيقيّ المصري خيري إبراهيم الملط في كتابه “المجتمع والموسيقى في مصر القديمة”، والذي يعرض فيه لأهمّ الأماكن والمؤسّسات في المجتمع المصريّ القديم التي لعبت الموسيقى فيها أدواراً أساسيّة. كما يتناول الموضوعات التخصّصية كالموسيقى والغناء وحياة الموسيقيّين والمُنشدين والآلات الموسيقية لدى قدماء المصريّين.

الموسيقى فنّ العقل والحواس

وللموسيقى أربابها في التأليف وفي التذوّق على السواء، لكنّ التأليف يظلّ محصوراً طبعاً في دوائر المؤلّفين، ونادراً ما يهتمّ بلغة التأليف الموسيقيّ غير المتخصّصين فيه. وإنّ مَن يستعرض الكُتب التي تبحث في مُجمل التاريخ الحضاريّ لعصرٍ من العصور، أو لبلدٍ من البلدان، يجد أنّها تبيّن العلاقة بين التاريخ الاجتماعي والفنون؛ ولكنّها، إما أن تترك الموسيقى كلّها جانباً، أو أنّها تخصّها ببعض الفقرات التي تعالجها معالجة مقتضبة. ويرجع السبب في هذا الموقف غير الودّي من الموسيقى إلى الطبيعة الفذّة التي يتّصف بها وجود هذا الفنّ. فروائع الأدب والفنّ والفنون الجميلة سهلة المنال، وهي ملقاة على الطريق لكلّ مَن يروم مشاهدتها أو قراءتها، ولاسيّما في عصرنا هذا، عصر الطبعات الفخمة. غير أنّ كُتب النوتات الموسيقية تقبع صامتة خرساء، لا يعي السواد الأعظم من الناس شيئاً منها. إنّها تحتاج إلى مُترجم يُترجِم الرموز الموسيقية إلى نَغَم، ولا تتحوّل الموسيقى إلى تجربة فنّية، إلّا بعد أن تمرّ خلال المرحلة الثانية هذه. لهذا تبقى الموسيقى دائماً بعيدة عن متناول الناس المباشر بخطوة واحدة، وهي بهذا – بخلاف اللّوحة الزيتية أو الرواية مثلاً – لا تستطيع التحدّث عن نفسها.

هكذا فالموسيقى بطبيعتها الخاصّة لا تدع مجالاً للمُقارَنة بينها وبين باقي الفنون مُقارنةً مباشرة. إنّها فنٌّ زمنيّ يجب أن يُعاد إبداعه دائماً في الزمن. إلّا أنّ الحاجة إلى إعادة الإبداع هذه، إن هي إلّا سبب واحد فقط من الأسباب التي وَضعت الموسيقى في هذا الوضع الفريد. هناك سبب أهمّ من ذلك، وهو ما يدعى بـ”التخلّف الحضاريّ” بين الموسيقى والفنون الأخرى. لنأخذ مثلاً روائع الفنّ المعماريّ في القرون الوسطى. لقد أصبحت الكاتدرائيّات من أهمّ ما يجتذب السائح، وهو يشعر بالزهو إذ يتعلّم خلال ترحاله أن يميّز بين الأسلوبَين الروماني والقوطي. ولنفرض الآن أنّ هذا السائح، وهو في وقفته يتطلّع إلى أحد الأعمدة السامقة في فناء الكنيسة، يجد نفسه وجهاً لوجه أمام موسيقى ذلك العصر، فلا شكّ أنه سيشيح بوجهه متبرّماً مرتبكاً. إنّ الموسيقى الغنائيّة التي كانت تُنشد في القرون الوسطى في كنيسة نوتردام باريس أو في “الدومو” في فلورنسا، ما زالت محفوظة فعلاً، وهي بطريقتها الخاصّة، لا تقلّ عن الفنّ المعماري شموخاً وأهمّية، إلّا أنّ المُستمع العادي لا يقرّ بذلك حقّاً بعد سماعه إيّاها للمرّة الأولى؛ فهو لا يدرك أو “يرى” مَواطن الجمال في هذه الموسيقى بالسرعة التي يدرك بها جمال فنّ البناء، فهو لهذا يخلص إلى إحدى النتيجتَين: إمّا أنّه سيظلّ إلى الأبد خارج حلقة تلك الطبقة المُختارة، لأنّه يفتقر إلى “الحسّ الموسيقي” اللّازم، أو أنّه يقول في نفسه: “أنا لا أعرف عن الموسيقى شيئاً، لكنّي أعرف ماذا أحب”. وينتهي به الأمر إلى أن يقصي موضوع الموسيقى عن ذهنه غير مكترث لها.

هذان الموقفان يلخّصان إلى حدّ بعيد الشعور السائد لدى عامّة الناس تجاه الموسيقى، إلّا أنّهما على الرّغم من شيوعهما مضلّلان. إنّ الفكرة القائلة بأنّ على الشخص أن يكون حائزاً على تلك الموهبة الغامضة التي تُدعى “الحسّ الموسيقيّ” لكي ينفذ إلى ما في الموسيقى من سحر، لهي مُبالَغة لحقيقةٍ معروفة؛ فنكراننا مع ذلك لمقدرة المُستمع العادي على تعوّد الإصغاء الواعي، حتّى من دون أن يحتاج في ذلك إلى موهبة فطرية عالية، إنّما يشبه قولنا إنّه لا حاجة به لأن يتعلّم القراءة، لأنّه لا يقرض الشعر. فكما أنّ القراءة هي من الأشياء التي يُمكن أن يتعلّمها مَن ليس بأديبٍ، كذلك الموسيقى، يُمكن أن يتعلّمها مَن ليس بموسيقيّ. إنّ الثقافة هي في الحالتَين الشرط اللّازم لتفّهم الأعمال الفنّية العظيمة. ويجدر بنا أن نتذكّر أنّ كلمة “قوطي” كانت إلى ما قبل حقب قليلة، تُستعمل للحطّ من قدر الأعمال الفنّية. والواقع أنّنا لم نكتسب الفهم اللّازم للفنّ القوطي في الفنون المَرئية إلّا من زمن قصير.

أمّا في الموسيقى، فلم نبلغ هذه المرحلة بعد؛ ما تزال الموسيقى تتعثّر في “المؤخّرة” وتسبِّب هذا “التخلّف الحضاري” بينها وبين الفنون الأخرى.

أمّا الموقف الثاني، موقف “أنا أعرف ما أحب”، فإنّه يقنع بأنّ هذا التخلّف شيء أزليّ محتوم، ويرفض داخل نفسه فكرة التهذيب الموسيقي. إنّ موقف القنوع الانهزاميّ هذا، يهبط بالموسيقى إلى مستوى التسلية الضحلة. والنتيجة الطبيعية لذلك، أنّ نظرة الناس إلى الأشخاص الذين اتّخذوا من الموسيقى مهنة لهم، هي أنّهم في الأساس مطربون. ويحدث أن يكون بعضهم أكثر اندفاعاً من الآخر، إلّا أنّهم مع ذلك مطربون بأجمعهم.

فنحن باختصار، إذ بلغنا مرحلة من الوعي في الأدب والفنون الجميلة الأخرى، فإنّنا ما نزال نستكمل النضج بالنسبة إلى الموسيقى؛ وهذا ما حال بينها وبين أن تحتلّ مركزها الثابت بين دراسات الأنشطة الإنسانية.

لكنّ هذا كلّه لا يمنعنا من القول إنّ الموسيقى أصبحت تجربة جمالية أشدّ تركيزاً بفضل تفهّمنا لها، ذلك التفهّم الذي لا ينتهي عند الاستجابة العاطفيّة المستعذبة، وإنّما يتغلغل في العقل. الموسيقى فنّ يستجيب له العقل، فضلاً عن الحواس. وبعبارة أصحّ، الموسيقى فنّ ينفذ من خلال الحواس إلى العقل. والسبيلان اللّذان يؤدّيان إلى رحاب الإحاطة الشاملة بالموسيقى هما: التركيب والأسلوب، وهما أمران يرتبط أحدهما بالآخر ارتباطاً وثيقاً. فأولئك الذين يعتقدون أنّ المؤلِّف الموسيقي يظهر إلى الوجود، لأنّ هناك غريزة غامضة تدفع بالموسيقار إلى أن يسكب قلبه المُفعم على الورق المسطّر، لا يعلمون أنّ التأليف الموسيقي هو وليد “عقل” الموسيقار، وأنّه يضمّ بين جوانحه موقفاً محدَّداً تجاه الجمال المعبَّر عنه بالصوت، موقفاً مميّزاً لعصره، وأنّ له بناءً داخلياً يجب تفهّمه كأيّ شكلٍ من أشكال التعبير الفنّي.

نشرة أفق (تصدر عن مؤسسة الفكر العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى