النص المتشظي.. مقاربة نقدية لمشروع أدونيس الشعري

تجديد الخطاب من الفكر الديني إلى الطرح الشعري

منذ سنوات يمكن التقاط عددها على أصابع اليد الواحدة بزغت عدة دعاوى مفادها تجديد الخطاب الديني لاسيما في الدول التي مرت عليها نسائم الربيع الثوري مثل مصر وسوريا واليمن وليبيا وإن كانت مصر على وجه الاختصاص والتحديد هي التي لجأت إلى ممارسات رسمية وسيادية لتجديد هذا الخطاب الديني بما يتواكب مع متغيرات العصر الآني وتأرجح الأيديولوجيات المتزامن مع فعل الثورة ذاته.

وتبارى علماء الدين ورجال الفكر ورواد التنوير والاستنارة في تحديد معالم هذا الخطاب الذي ينبغي أن يعي ثمة متغيرات جديدة على تلك المجتمعات ولا يزال هذا الاجتهاد قائما حتى وقتنا المعلوم.

وفي صدد الحديث عن خطوات إجرائية تستهدف تجديد الخطاب الديني الذي يسعى إلى تفكيك الخطاب الموازي له والمتمثل في خطاب العنف والتطرف والإرهاب، قلما نجد أصواتا تتعالى أو مؤتمرات تتهادى بتوصياتها لتعلن ضرورة تجديد الخطاب الشعري، أو بالأحرى الطرح الإبداعي المتمثل في ديوان العرب أعني القصيدة وأقصدها.

وبرغم دعوات كبار نقاد الشعر المعاصرين من ضرورة الاهتمام بالشعر العربي لأنه يعاني بعض العثرات الأمر الذي دفع بالرواية لتكون ديوان العرب الجديد ورايتها المرفرفة على الاستدامة والدوام، إلا أنني أتيقن من انتفاء أية دعوات أو صيحات نقدية تتعلق وترتهن بحتمية تجديد الطرح الشعري وتطوير القصيدة، وهذا ليس بقصور في أدائهم النقدي، بل لأن ثمة شعراء استطاعوا أن يقتنصوا وحدهم حداثة القصيدة وإحداثياتها المتمثلة في ثورة الشكل والمضمون، الأمر الذي دفع بهم أولا للوصول بالقصيدة إلى مراحل استباقية نتيجة روافد متعددة منها استلهام التراث لاسيما النصوص الصوفية المتمثلة على وجه التحديد في نصوص الحسين بن منصور الحلاج، ومحي الدين بن عربي، وعبدالجبار النفري، وعمر بن الفارض نظرا لنصوصهم الموغلة في الرمزية والإغراق في المضامين الغامضة وهي السمات التي تميز بها معظم شعراء الثورة الشعرية التي انفرجت في ستينيات القرن المنصرم.

ومن الروافد أيضا كفاءة الشعراء في الاطلاع الجيد والدقيق على التجارب الشعرية الرائدة في العالم الغربي (أوروبا على سبيل المثال )، وهذا الاطلاع الواعي مكن هؤلاء الشعراء في إنتاج طرح شعري جديد يبدو مغايرا للحالة الشعرية السائدة آنذاك.

ومن هؤلاء الشعراء الذين أحدثوا الثورة الشعرية القائمة بالفعل على أيامنا الراهنة أنسي الحاج ومحمد الماغوط وأدونيس، هؤلاء وغيرهم مما يصعب حصر أسمائهم وسردها هم أصحاب ربيع الثورة الشعرية في ديواننا العربي المعاصر، وبغض النظر عن تقييم تجاربهم الشعرية التي لو عاصرها أمير الشعراء أحمد شوقي وحافظ إبراهيم وعباس محمود العقاد لأصيبوا بانتكاسة لغوية وفنية لا لخلل النص الشعري عن رواد الحداثة العرب؛ بل لأن تلك النصوص الشعرية التي هي في مظانهم الأدبية تسمى قصائد شعرية حسب ما تعودوا منذ أشعار امرئ القيس ولبيد وطرفة بن العبد وعمرو بن كلثوم، وأن ما يسمى بالنص أو الخطاب هو بالفعل ثورة إبداعية وخطاب جديد لا يحتاج بالضرورة إلى تجديد، اللهم سوى تغيير في المعالجة المعاصرة للشعراء الحاليين الذين لم يستطيعوا بالفعل الفكاك من الشَّرَك النصي لشعراء الحداثة الرواد.

في مواجهة ديكتاتورية النص

عندما يتعامل المرء ناقدا متخصصا كان أم قارئا مهتما بالشعر فهو يخضع للعرف الشعري السائد رغم إبادته أكاديميا بأنه شريك أساسي في النص، وأنه بالفعل لم يعد متلقيا سلبيا لتفاصيله التي شكلها الشاعر، بل يضيف من ذاكرته إحداثية في مشهد شعري أو لقطة تصويرية معينة ما يرتبط بتفاصيل أوردها الشاعر حسب تجربته الخاصة، وهو أيضا يقوم بدور القاضي أو ممثل الادعاء الجنائي الذي يسعى للإيقاع بالمتهم عن طريق التناص الشعري أو بأية ملامح شعرية مشتركة بين النص الحالي ونصوص شعرية مشابهة إما من ناحية المضمون أو الصورة الشعرية بألفاظها وتراكيبها.

لكن في ضوء الشاعر الدمشقي علي أحمد سعيد المعروف بصياغته النهائية بأدونيس فأنت محكوم طوعا أو كرها بديكتاتورية نصية لا يمكن الفكاك منها أو الوقوع في شراك شعرية أخرى غير النص الموقع باسمه.

هذا ليس من باب المبالغة بل من سبيل المغالبة التي امتلكها أدونيس واحترف أدوات شعرية وتقنيات أسلوبية فريدة ومتنوعة تتسم بالأصالة أي الجدة والمرونة بقدر ما استطاعت نصوص أدونيس الشعرية أن تتفرد بعدم التكرار، وكأن أدونيس نفسه تجربة شعرية لا تقبل التكرار، هذا الانفراد هو الذي كشف العشرات من الشعراء الذين حاولوا أن ينتهجوا مسلك أدونيس الشعري فكتبوا على نهجه لكنهم لم يتمكنوا من تقنياته وأدواته الشعرية فكان سقوطهم حتما مقضيا.

وإذا كان الشاعر المصري صلاح عبدالصبور تستطيع أن تتناول قصائده بمناهج نقدية قديمة ومتداولة بحكم وضوح نصوصه التي لم يلجأ فيها إلى التضمين الغامض، وأيضا الشاعر أمل دنقل المعروف بشاعر الرفض يمكن للقارئ العادي أن يتناول شعره في ضوء معطيات حاكمة مثل استحضار الشخوص التاريخية والرموز السياسية مع لغة خطابية كاشفة، أو على سبيل المثال نزار قباني الذي يكاشفنا بصورة سهلة ويسيرة للشعر بغير مقاومة نقدية تلقي بعقدها الأكاديمية على شعره، فإن نص أدونيس الذي يحمل عمقا فلسفيا في الطرح اللفظي وبكارة متجددة في اللغة الشاعرية وباعتباره ثورة إبداعية عصية على المراس والتكرار فإن حضور النص في وعي المتلقي يمثل ديكتاتورية نتيجة جفاف توقع القارئ لما يفجؤنا به أدونيس.

وشعراء عصر أدونيس أنفسهم يمتلكون الشجاعة في الإعلان والمصارحة بصعوبة فك شفرة النص الأدونيسي لما ينتاب هذا النص من قلق مستدام ومتزامن لحالة الشاعر سواء الإبداعية أو السياسية ونظرا لأنه يمثل أحد رموز التنوير الفكري في عالمنا العربي المعاصر فإن التنوير من أبرز سماته القلق المستمر طمعا في التجويد والإتقان ومواكبة متغيرات العصر الفكرية والفنية.

وقبيل الولوج في تفكيك نص أدونيس الشعري ومشروعه الإبداعي يمكن تفسير ديكتاتورية نصه الشعري من خلال زوايا ثلاث؛ كونه في الأصل أكاديميا امتهن العمل بالتدريس الجامعي فترة من الزمن مكنته من التقعيد اللغوي والاعتماد على مواضعات لغوية رصينة تختلف عن لغة الشعر عند نزار قباني أو محمود درويش وسميح القاسم على سبيل المثال ، فضلا عن كونه أيضا رساما تشكيليا لم يعد مضطرا ليشرح ويفسر للرائي لوحاته لأن الفنان التشكيلي يماثل البحر الذي لا يضطر لتفسير موجه ودواماته المائية.

والزاوية الأخيرة التي تفسر لنا ديكتاتورية النص لدى أدونيس أنه منذ البدايات يسعى ليؤسس امبراطورية شعرية استثنائية خاصة به، واستطاع مجتهدا أن يستحيل من دور الشاعر تدريجيا إلى أدوار أخرى منها المنظر والمفكر والتنويري كل هذا داخل منظومة واحدة وهي القصيدة أو حسب المصطلح النقدي الذي يناسب طرحه الإبداعي المعروف بالنص أو الخطاب.

إحداثيات شعرية جديدة

حينما يطالع القارئ أو الناقد ـ فلا فرق بينهما وهما بصدد نصوص أدونيس ـ مشروع أدونيس الشعري فإنه بالضرورة يقف عند ثمة علامات وملامح تشكل مجمل هذا المشروع الشعري الطويل الممتد قرابة الأربعين عاما، ويمكن تحديد أولى العلامات في الصوت الشعري المتفرد؛ حيث إن أدونيس دوما يعبر بخصوصية شديدة عن كونه مفكرا ومنظرا وفي بعض الأحايين مؤرخا دون ضوابط تحكم عملية التأريخ لديه، هذا الصوت رغم أنه يشترك مع غيره في تلك التيمة الإبداعية إلا أن أدونيس يسعى ألا يشاكل أحدا فيه، وخير دليل على ذلك ديوانه الموسوم بالمطابقات والأوائل، والذي تتصدر صفحة غلافه عبارة “صياغة نهائية” بجوار اسمه، وكأنه يريد تقعيد الاسم الذي اختاره لنفسه أولا، ثم يدعمه كأحد رواد شعر الحداثه كما جاء في ثنايا الديوان بصياغة نهائية للقول الشعري ذاته.

يقول أدونيس معبرا عن الصوت الواحد في قصيدته الطويلة “قصيدة ثمود”: “يحدث أن أتقاطع مع ميدان / كاعرش / ومع خلفاء / مع عمال للخلفاء وأنصار / وأرى كيف يكون التاريخ جليدا / أو زرنيخا ، يحدث أن أتحول / أحيا / نسغا بريا / أمشي في حشد”.

وبرغم أن تفاصيل المشهد الشعري يبدو جماعيا إلا أن حضور أدونيس الفرد يظل طاغيا بدلالة فعل المضارع الذي يتسيد القصيدة بأكملها وليس هذا المقطع رغم أن القصيدة في عمومها تتناول حدثا تاريخيا قديما إلا أن ارتكاز أدونيس على الفعل الماضي لا يأتي اعتباطا أو من قبيل الاستخدام اللغوي الطارئ، بل هو اعتماد على دلالة حاضرة واستشرافية تمكنه من الحضور الشعري المستدام.

يقول أدونيس: “ولهذا / يتغير شعري كالأشياء / ولهذا / أسكن زوبعة الأشياء / يحدث أن أستسلم للطرقات / فأهبط في قيعان / وأجاور أغصانا ، أو أتعب مثل رماد / بحثا عن أشباهي”.

وتبدو أن تقنية الاعتماد الشعري على الفعل المضارع بوصفه معادلا موضوعيا للاستشراف الذي يمتلك صكه الشاعر منفردا هي فكرة معرفية في الأساس، وهي الفكرة التي اعتمد عليها الكثير من المتصوفة في الإسلام وهذه الفكرة مفادها باختصار هي ما أشار إليه الغزالي بقوله: المشهد هناك لمن يريد أن يراه.

وما دمنا قد تطرقنا إلى تخوم الحديث عن التصوف والمتصوفة فلا يمكن التغافل عن رافد رئيس وأساسي يشكل المصدر الملهم لنصوص أدونيس الشعرية حتى هو أفاض في ذلك وسطر كتابا بعنوان الصوفية والسريالية وكأنه لا يريد أن يدفع بتهمة التأثر بالرافد الصوفي في كتاباته الشعرية أو النثرية على حد سواء.

الرفد الصوفي في نص أدونيس

مكن الرافد المتمثل في الطرح الصوفي نصوص أدونيس الشعرية استثنائية خاصة، بحيث أصبحت القصيدة لأول مرة في تاريخها أحد الأنساق المعرفية وليس فقط صورة أدبية إبداعية فحسب، وتمثلت تجليات الطرح الصوفي في نصوص أدونيس ودواوينه في علامات أيضا منها استخدام الحرف بديلا عن إيقاعات الخليل المكرورة، هذا الاستخدام منح للنص جرسا موسيقيا وقنصا لغويا بارعا، يقول في قصيدته “بابل”: “أعلو وأفكر في التشبيه وأنأى / لا أحتاج إلى ذروات / شغفي أن أتواطأ مع أمواج مع كلمات / لا أملك إلا أن أقتلها / في عادة وجهي”.

وقراءة أدونيس العميقة للتراث الصوفي منحته فرصة التعلق بمداراته، وهذا جعل من القصيدة لدى أدونيس إما تجربة أو مغامرة، وكلتيهما حالة استثنائية يستخدم فيها الشاعر تقنياته التي اصطنعها لنفسه، وهذه المغامرة هي التي منحت لأدونيس ونصوصه مصطلح القصيدة الومضة، أي الولع بمشهد قصير يحمل نسقا معرفيا يمكن الإطالة في تأويله وتفسير مضامينه وهي السمة المعروفة في الطرح الصوفي بالرمزية المعقدة .

يقول أدونيس في قصيدة “أول الصدق”: “قافلة لوحت وغابت / وانطفأت بعدها البيوت / لنعترف أننا نموت . ويقول في قصيدة أخرى بعنوان ” أول الفضاء ” : جسد الأرض يستنبئ النار / والماء أقداره المرجأه / ألهذا تصير الرياح نخيلا ؟ / ألهذا يصير الفضاء امرأه ؟”.

والقصيدة الومضة هي سر شغف الكتابة الذي يتمتع به أدونيس ولا يزال، وهو السر الذي يجعله دوما في حالة خصام مستمرة مع التراث مثلما كان الطرح الصوفي دوما، ولعل أدونيس يتشابه إلى حد كبير من خلال نصوصه الشعرية مع نصوص المتصوفة في أن كلا النصين يقفان على الشاطئ الآخر من الأبجدية التداولية، فإذا كان معظم أقطاب الصوفية في التاريخ الإسلامي لديهم ثمة اعتراضات على كتابات السلف الفقهية، فإن أدونيس أيضا يقف معارضا لسابقيه، فهو يقول عن أحمد شوقي ومحمود سامي البارودي وحافظ إبراهيم “أضافوا إلى القديم قديما “، هذا التشابه والتماثل وتلك المشاكلة هي التي جعلت علاقة أدونيس باللغة علاقة احتمالية تقبل النحت اللغوي وتكرس لثقافة الاشتقاق غير الخاضع للقياس أو السماع اللغوي المعتمد عند العرب.

إذن يمكننا الفصل في القول بإن الرافد الصوفي لشعر أدونيس أمكنه باقتدار وريادة تحرير المفردات اللغوية، وأيضا أصيب بالداء الذي أصاب النصوص الصوفية أيضا وهو إغراق النص في السردية، وتتمثل السمات السابقة التي تم ذكرها مجتمعة في قصيدته “قبر من أجل نيويورك”: “كنت لا أجد فرقا بين جسد برأس يحمل أغصانا نسميه شجرة، وجسد برأسٍ يحمل خيوطاً رفيعة نسميه إنساناً. واختطلت عليَّ الحجرة والسيارة، وبدا الحذاء في الواجهات خوذةَ شرطي والرغيفُ صحيفة توتياء. مع ذلك، ليست نيويورك لغواً بل كلمة. لكن حين أكتب: دمشق، لا أكتب بل أقلّد لغواً. دال ميم شين قاف… لا تزال صوتاً، أعني شيئاً من الريح. خرجت مرةً من الحبر ولم تعدْ. الزمن واقف حارساً على العتبة يسأل: متى تعود، متى تدخل؟ كذلك بيروت القاهرة بغداد لغوٌ شاملٌ كهباء الشمس… شمس، شمسان، ثلاث، مئة… (استيقظ فلانَّ وفي عينه اطمئنانٌ يمتزج بالقلق. يترك زوجاته وأبناءه ويخرج حاملاً بندقيته. شمس، شمسان، ثلاث، مئة…ها هو كالخيط مهزوماً ينزوي تحت نفسه. يجلس في المقهى. المقهى يمتلئ بحجارةٍ ودُمىً نسميها رجالاً، بضفادعَ تتقيأ الكلام وتوسخ المقاعد. كيف يستطيع فلانٌ أن يثور وعقله مليءٌ بدمه، ودمه مليءٌ بالسلاسل؟”.

وأدونيس نفسه المعروف بالتحرر والتنوير لم يستطع الفكاك من أثر الصوفية وأقطابها في نصوصه الشعرية، فنجده يفرد قصائد كاملة تحمل عناوينها بعضا من أسماء هؤلاء الأعلام، مثل قصيدته “مرثية الحلاج” التي يقول فيها: “ريشتك المسمومة الخضراء / ريشتك المنفوخة الأوداج باللهيب / بالكوكب الطالع من بغداد / تاريخنا وبعثنا القريب / في أرضنا ـ في موتنا المعاد”.

أدونيس وتأسيس المرجعية الشعرية

يبدو أن أدونيس مصرًّا على مخالفة مقولة المؤرخ العالمي أرلوند توينبي في كتابه مختصر دراسة التاريخ التي تقول بإن أحد أسباب انهيار الحضارة هو إخفاق الطاقة الإبداعية في الأقلية المبدعة، وهذا التحدي الذي يحمله أدونيس منذ أكثر من أربعين سنة قوامه أنه لم يكن مثل معاصريه الذين وقفوا عند حدود أسئلتهم صوب الحداثة ولم يتعدوها أو لم يتجاوزوها بحق ،لكنه امتاز بمزيتين يمكن أن يشترك فيهما معه الشاعر أنسي الحاج، الأولى هي ديمومة الأسئلة التي لا تنتهي وهي في الغالب أسئلة معرفية بإمكانها إضعاف الذهنية العربية وإرهاقها بالبحث عن أجوبتها مما أتاح لأدونيس أن يكون بوصلة قصيدته، والثانية أنه موعد دائم باللقاء الحميم بين الشعر والطرح الفلسفي الذي يكفل لأي نص البقاء وإمكانية التأويل وتنوعه.

وأدونيس ها هو ذا دائم الاستدامة والاقتناع بأن النص الشعري يمكنه استيعاب كل المنطلقات المعرفية على توصيف القصيدة بأنها لم تعد الشكل الإبداعي الذي يرتكز فقط إلى الخيال بهدف إثارة المشاعر وتحفيز الوجدان، بل هو خطاب معرفي في الأساس يمكن الإخبار من خلاله بمزيد من المعارف والمعلومات والطروحات النظرية، وهو ما فعله حقا في قصيدته “مقدمة لتاريخ ملوك الطوائف”، إذ يقول في مطلعها: “وجه يافا طفل / هل الشجر الذابل يزهو ؟ / هل تدخل الأرض في صورة عذراء؟ / مَنْ هناك يرجّ الشرق؟ / جاء العصف الجميل ولم يأت الخراب الجميل/ صوت شريد”.

“كان رأس يهذي يهرج محمولاً ينادي أنا الخليفة / هاموا حفروا حفرة لوجه عليّ/ كان طفلاً وكان أبيض أو أسود، يافا أشجاره وأغانيه ويافا.. / تكدسوا، مزقوا وجه عليّ/ دم الذبيحة في الأقداح، قولوا: جبّانة، لا تقولوا: كان شعري ورداً وصار دماء، ليس بين الدماء و الورد إلا خيط شمس، قولوا: رماديَ بيت وابن عبّاد يشحذ السيف بين الرأس والرأس وابن جَهوَر مَيْتُ”.

وحلم أدونيس في تأسيس مرجعية شعرية تستند على السردية لم يعد فكرة أو ظنا ، بل هو واقع آني لدى النقاد ومهمومي الشعر المعاصر، هذه المرجعية لايمكن تأويلها بعيدا عن فكرة المرجعية الدينية التي يعترف بها بعض الطوائف والتيارات الدينية لاسيما الحديثة التي كانت تنادي بفكرة الإمام، وفكرة الإمام هنا في القصيدة هي حضور الشاعر بنفس درجة احتجابه، فالمستقرئ لنصوص أدونيس يكاد يجزم بأنه لا يستطيع اقتناص ملامح حياة خاصة للشاعر نفسه، اللهم سوى بعض الأمكنة التي ارتادها أو ترتبط في وجدانه الجمعي الذي يشترك فيه مع ملايين من العرب.

ورغم هذه الإسقاطات التاريخية أو المكانية إلا أن أدونيس يتحرر دوما من قضبان الإمساك بتفاصيل شخصية تنبئ بها قصائده ، فهو يقول في قصيدة “مرآة لمعاوية”: “شعرةٌ تقرأ في الرياح / ملكها في تفجر البركان / في زفير الأمواج والزمن الهائم بين الإعصار والربان”.

ويقول في قصيدة “السماء الثامنة رحيل في مدائن الغزالي”: “يجيئنا في كوكب / تحضنه نساؤنا / تصوغ من بهائه/ لثياب والأحلام واللآلي / يبتدئ السقوط في مدائن الغزالي / يستنزل الفرقان واللسان / وتعلق الجباه بالغبار، في مدائن الغزالي”.

وفي صدد الحديث عن تأسيس أدونيس للمرجعية الشعرية الجديدة، تغدو الأسئلة الشعرية/المعرفية التي يطرحها في سياق نصوصه الشعرية الملمح الأبرز لاسيما وأنها لم تعد أسئلة سلبية كالتي طرحها الثنائي المصري صلاح عبد الصبور وأمل دنقل عبر مشروعهما الشعري، لكن هي أسئلة لا تتسم بالاقتضاب بالقدر الذي تسمح فيه بمزيد من شحذ الذهن وإعمال العقل بل وأحيانا محاولة الجري وراء أدونيس للإمساك به من أجل اعتراف نهائي بإجابات تلك الأسئلة، والأسئلة في عرف الفلسفات القديمة والمعاصرة هي أداة المعرفة، وهي الوسيط الذي يدفع السائل أو القارئ إلى عوالم ثقافية لا نهايات لها، والتأويل النقدي قام في أساسه على افتراضات مفادها أسئلة توجه ناحية النص أو الخطاب اللغوي بغرض تفكيكه وتفتيت مضامينه وبحجة إشراك القارئ في النص الذي يتناوله.

والأسئلة الأدونيسية كما قلنا سالفا هي معرفية تحتاج إلى رصد من ناحية القارئ لبدايات القصيدة نفسها، وإن لم يتمكن من التقاط العلاقة بين السؤال المعرفي الذي يطرحه أدونيس فبالضرورة يلجأ عادة ـ القارئ ـ إلى عنوان القصيدة الذي قد يفي باحتياجات القارئ لمعرفة الإجابات.

يقول أدونيس في أسئلته الشعرية/المعرفية: “هل أقول، إذن: ضاع وجهي؟ /هل أقول: ابتكرت الرماد؟”، ويقول أيضا: “هل الزهرة ماء أو شرار؟/ ولماذا تلد الشمس الغبار؟”.

ومن أبرز السطور الشعرية التي تكفي النقاد من أجل تأصيل فكرة تأسيس المرجعية الشعرية المعاصرة على يد أدونيس ما طرحه أدونيس نفسه من تساؤل فريد، يقول في قصيدته “البهلول”: “ماذا يقدر أن يفعله الشعر، ورجلاه قيود/وعلى عينيه أسوار الظلام؟”.

فاصلة

في الختام لا يمكن الادعاء بأن أدونيس هو رائد الشعر المعاصر لوجود أصوات وقامات شعرية أخرى تنافس على الريادة بقوة وشراسة أيضا، لكن التنبؤ بأن أدونيس يعد فاصلة مهمة في تاريخ الشعر العربي يعد أحيانا كثيرة من باب الرهان على اليقين، لاسيما وأن مشروع أدونيس الشعري لم يقتصر على عتبات بعينها، بل يبدو شاعرا رومانسيا حينا، وشاعرا معرفيا حينا آخر، ويستهل علينا بوجوه وأقنعة تاريخية في أوقات متباينة عبر دواوينه مثل عمر بن الخطاب، ومهيار الدمشقي، وبشار بن برد، وأبي حامد الغزالي، والحلاج، ونوح، وأبي نواس، وهو كذلك يغدو على ديوان الشعر العربي بمحطات تاريخية مهمة تحمل أشجانا وشجونا أيضا، مثل تاريخ ملوك الطوائف، فضلا عن تناوله قضايا معرفية شائكة مثل البعث من خلال قصيدته “البعث والرماد”، إذن فأدونيس الشاعر الدمشقي الذي يمزج الرسم بالكلمات حسب عنوان ديوان مواطنه نزار قباني أراد أن يخلق لنفسه فضاءً شعريا مغايرا للتيمات السائدة منذ ظهوره شاعرا بسوريا، وظل حتى وقتنا الراهن يداعب قراءه بأسئلته المعرفية التي تسعى إلى التحريض الذهني ليس مكتفيا بدغدغة المشاعر والعواطف وإثارة الانفعالات.

إن أدونيس يبدو كما كتب عن نفسه أو عن الأسطورة التي تحمل اسمه في قصيدة بعنوان “أدونيس” يقول فيها: “قال: هذا الشجر/لايزال، كما كنت، في سنوات الصغر/الدروب إليه كتاب/والحقول الصور”.

ميدل ايست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى