بغداد عاصمة الثقافة العربية يحتلها الخوف والقلق… والخراب الأهلي (هاشم شفيق)

 

هاشم شفيق

يُفاجأ زائر بغداد بعد عشر سنين على سقوط النظام، بهذا الحجم الهائل من الخراب والدمار والتآكل الذي ينخر في شكل ممنهج ومنظم، مفاصل الحياة العامة ومرافقها في عراق الاحتلال من القوى الغاشمة، عالمية وإقليمية، ومن السدنة الجدد الذين يلعبون بمصير المواطن العراقي المظلوم والمحاصر في قلاع الإسمنت والفساد والتنكيل اليومي، عبر مفارز التفتيش ونقاط الحراسة والدهم المتواصل للبيوت والجوامع والجامعات… يُفاجأ الزائر بعد طول غياب بهذا التقهقر المستشري في الجامعات والمؤسسات العلمية والبحثية والثقافية وخصوصاً الحقل الأخير، وهو حقل العلم والتنوير والإبداع.
من هنا، فبغداد اليوم ليست عاصمة للثقافة العربية 2013، بل عاصمة للكراهية والإقصاء والخوف والقلق والسرقة والدم والبغضاء، ثمة يد خفية تعمل في العراق لتحطيمه والحط من مستواه ومكانته عبر نهب ثرواته، والوسيط يد عراقية، وعلى الحط من مستواه الحضاري والتاريخي وتدمير بنيته العربية، والوسيط يد عراقية، وعلى بث السم الطائفي، والوسيط يد عراقية، وعلى تخريب المعالم الأسطورية والمواقع الأثرية للتراث الرافديني والعباسي، والوسيط كالعادة يد عراقية، هي من تقوم، بالنيابة، بتفكيك الجسم العراقي وتحويله بشتى الطرق والأساليب جثة هامدة.
ولئلا نستطرد في حجم الدمار الذي لحق بالبنى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فإننا سنقصر الحديث عن بغداد عاصمة للثقافة العربية.
منذ سنوات والقائمون على الشأن الثقافي العراقي يتحدثون عن التحضيرات لهذا الحدث الثقافي الكبير الذين يرونه من زاويتهم الخاصة التي لا تعرف المشهد العام للثقافة العراقية ولا تقدّر أنه سيعيد لبغداد بعضاً من وهجها الثقافي والريادي والحضاري المفقود منذ أكثر من عقدين. وتحت هذا الضوء، رصدت لبغداد عاصمة للثقافة العربية موازنة هائلة بلغت أكثر من نصف مليار دولار، وهي بالضبط سبعة مليارات من الدنانير العراقية، فماذا حدث لهذا المبلغ الطائل وأين صُرف وعلى من؟
باختصار، لم يُصرف على نشاطات وندوات ودعوات في سياق بغداد عاصمة للثقافة العراقية إلا أقل من خمسة ملايين دولار، ثلاثة منها ذهبت لاستئجار خيمة تركية في حفلة الافتتاح التي أقيمت في حدائق الزوراء. والخيمة المستوردة يقال انها كان من المفترض ان تكون مجهزة بكل المواصفات الحديثة لإراحة الضيوف، من حمامات ودورات مياه وغرف نوم وصالات سينما وتلفزيونات مصاحبة للحدث، لكنها جاءت وفق من رآها خالية من كل ادوات الراحة هذه، وكانت تكلفة إيجارها لليوم الواحد مليون دولار. ولكي تتم عملية السرقة في شكل عقلاني، دعي بضعة مثقفين عراقيين من داخل العراق، قرابة الـ 25 معظمهم من بغداد، وبعضهم الآخر جاء من محافظته ليعود في اليوم التالي اليها. وهنا لا نريد أن ندخل في أهمية الأسماء المدعوة وقيمة منجزها الثقافي، سواء كانت من الخارج، وهي ايضاً قليلة ولا تتعدى الرقم الآنف الذكر، او العربية والأجنبية التي ساهمت في العروض المسرحية. فنحن لم نشاهد أي عربي جاء الى المقاهي البغدادية وأطل على الأدباء الفقراء والشرفاء ممن مُنعوا من الوصول الى فندق الشيراتون الذي يقيم فيه بعض الضيوف، ولا رأيناهم في شارع المتنبي يتسوّقون الكتب ويختلطون بالأديب والشاعر والكاتب العراقي، ولا رأينا أحدهم يدلف الى مكتبات ساحة التحرير أو يزور معارض ومراكز الفنون وقاعات عرض الفن التشكيلي المتاخمة لأكاديمية الفنون الجميلة. وفي المحصلة، السؤال المطروح هو: هل كان المدعوون العرب كوكبة من شعراء وأدباء وباحثين وموسيقيين ورسامين ونحاتين وروائيين وقصاصين وإعلاميين كانت تغص بهم أروقة المراكز الفنية والثقافية والقاعات الكبرى والأندية والشوارع والمقاهي البغدادية؟
إنها كذبة كبيرة، أن تكون بغداد عاصمة للثقافة العربية، فالثقافة الآن هي في أيدي أناس يجهلون كلمة الثقافة ومعنى دور المثقف. إن من يتحكم بدفة الثقافة العراقية الآن هم ثلة من الحزبيين الاصوليين الذين جاء بهم الاحتلال والأحزاب الدينية المتطرفة الموغلة في حس النبذ والإبعاد لكل ما هو تقدمي ومتنور وحضاري… وحادثة طرد مدير دائرة السينما والمسرح بسبب عرض مسرحي، إذ أوجب الدور على الممثلة الألمانية من اصل ياباني أن تتعرى في ختام المسرحية، ومحاسبة الفنانين عليه تدل على المسعى المتخلف الذي كنا في صدد الإشارة اليه.

معرض للكتاب الدولي؟

أما معرض بغداد للكتاب، فكان جزءاً من كل، ومشمولاً بالصيغة ذاتها، كان المعرض مخيّباً للآمال، ليس للشارين ولا للقائمين عليه بل للمشتركين من الناشرين الذين تكلفوا عناء المجيء والمخاطرة بحياتهم الى بلد ليس آمناً وتحفّ به المخاطر من كل ناحية وصوب. فالمعرض وهو في دورته الثانية بعد الأول الذي أُقيم قبل عامين، صاحبه تدنٍّ ملحوظ في القدرة الشرائية لزائر المعرض. وقد تجلى ذلك في غياب القارئ العراقي المعروف بنهمه للقراءة ومتابعة الإصدارات الجديدة عراقياً وعربياً وعالمياً. كان المعرض يبدو معزولاً عن الحياة، على رغم الموقع الذي يتمتع به لكونه يقع في قلب بغداد وفي الجانب النضر منها. ذهبت الى هناك وتجولت في الأروقة الخالية والكئيبة والموحشة، فلم أجد إلا صدى لبضع خطى تتردد فيه. كانت الساعة قرابة الخامسة، وهي ساعة حسنة ليوم ليس فيه دوام، لم أصادف مثقفاً عراقياً واحداً، حتى ولو من باب الفضول، يستعرض الكتب والواجهات. ربما هو الخوف من حادثة ما، أو نازلة قد تقع، ما أبعده عن هذا الترف الذي يراه غير ضروري وليس من مستلزمات يومه في عراق يقع فريسة بين ساعة وساعة لعملية تفجير تودي بالعشرات من الأبرياء الذين لا ذنب لهم سوى كونهم عراقيين ذاهبين الى مشاغلهم ومتاعبهم اليومية.
ما لفتني في المعرض هو جناح دار «المأمون» التابعة لوزارة الثقافة، وهي دار ذائع صيتها في نشر الكتب الإبداعية المترجمة من روايات وقصص ودراسات وبحوث الى العربية. كانت هذه الدار في السبعينات والثمانينات والتسعينات من العقود المنصرمة تطبع الآلاف من الروائع الأجنبية، المنقولة عبر مترجمين عرب وعراقيين، يرفدون الدار بالجديد والمدهش والمثير من الأعمال الإبداعية الصادرة في العالم. أما ما شاهدته في المعرض لهذه الدار وقد صدمني حقاً، فهو عرض الكتب المترجمة لمدير هذه الدار فقط ومساعده. وأنا خارج من المعرض انتظر سيارة أجرة تقلّني، لحظني أحد الخارجين من المعرض وكان يبدو عليه انه احد العاملين والمشرفين في المعرض، من خلال الشارة التي يحملها، فعرض عليّ ان يوصلني الى مكان قريب من المكان الذي اسكن فيه، فذهبت معه، كان شخصاً دمثاً، وحديثنا طوال المشوار كان يدور حول معرض الكتاب. والنتيجة التي استخلصتها منه كانت أن المعرض في دورته الثانية لم يكن في مستوى المتوقع، وأشار الى ان الإقبال كان خفيفاً جداً على شراء الكتب الدينية ولهذا دلالته. فالحزب الشيوعي العراقي في الانتخابات الأخيرة حصل على ثلاثة عشر مقعداً مقارنة مع الانتخابات السابقة التي لم يحصل فيها حتى على مقعد واحد في عموم العراق.

اتحاد الأدباء

اعتبر اتحاد الأدباء العراقيين جزءاً من تكويني الشخصي ورفاقي. لقد نشأنا فيه ونحن لم نزل فتية في مطلع العشرين، قرأنا فيه وتجادلنا وأكلنا وشربنا وحتى نمنا في حدائقه الكبيرة آنذاك في مطلع السبعينات
من القرن المنصرم. كان الاتحاد في ما مضى مكاناً يزخر بالفتنة والنزاهة واللمعان. وكان يتوجب عليّ بسبب الحنين المريض وغير المبرر، أن أمر به. لم تطل جلستي فيه، لأنه أصبح مكاناً غير مقبول البتة، بسبب الفساد الذي تسرب اليه كعدوى أو مرض ينتقل في الهواء، وبسبب الانعدام التام للنظافة. هذا المكان العريق بتاريخه الطويل وبما له من مكانة أدبية وإبداعية كان من المحتمل أن يزوره ادباء عرب وأجانب لكونه صرحاً ثقافياً قديماً، تأسس في ستينات القرن الفائت، ولكونه مشمولاً بلا شك ببغداد عاصة للثقافة العربية. مقهاه مهمل ومترب ورث، وغير لائق باستقبال ضيف عربي حتى لو كان من اهل الدار، فكيف بأجنبي. أما مطعمه فمهلهل، وكراسيه من حديد غير مريحة، ولدى تحريكها من موضعها لتجلس تصدر صوتاً يخدش الحس. الشراشف متسخة ومبقعة بالزيوت والمشروبات ودورة المياه الخاصة بالاتحاد،، وهنا الطامة الكبرى، خالية من أي مادة للتنظيف، كورق التواليت والصابون وسوائل التنظيف الأخرى، هذا ناهيك عن محن لا أستطيع سردها هنا، في بلد المليارات من الدولارات.
المكان الوحيد الذي تستطيع أن تجد نفسك فيه وتجد البهجة ايضاً في بغداد هو شارع المتنبي. انه مكان ساحر، والسبب الرئيس في ذلك هو عدم خضوعه للدولة ولا لأية مؤسسة حكومية، ولو كان كذلك لانتهى دوره واصطرع عليه الطامعون وسارقو الكحل من العين. انه مسكون هكذا بشذى التاريخ وسحره السري الخاص، ويديره أناس طيبون همهم الأساس الحروف والورق والأبجدية البديعة النائمة في بطون الكتب، تلك التي تملأ شارع المتنبي فرحاً ودهشة وجمالاً، وتعطيه مع شاي المقاهي الدائر فوق المجامر، طعمه العباسي الأول.

معرض أربيل للكتاب

وتشاء الصدف ان أكون في معرض الكتاب في أربيل. وهو كان في يومه الأخير، حين زرته مع عائلتي. بدا لي معرض اربيل في تلك اللحظة لا يقل مستوى عن اي معرض عربي وعالمي. معظم دور النشر العربية كانت هناك، فضلاً عن توافر الكتاب الفرنسي والألماني والإنكليزي والكردي والفارسي والتركي. الدور كانت كثيرة، والتقيت اصدقاء ناشرين من سورية ولبنان والأردن. كانت المنافسة حامية بين الدور التي تعرض جديدها من المطبوع، والحسوم أيضاً كانت كثيرة لكون المعرض في يومه الأخير.
في طريق العودة الى السليمانية حيث كنت أقيم، يتحتم علينا المرور بكركوك، مدينة النفط بامتياز والمدينة الإثنية المتشظية الطوائف والمذاهب… انها اليوم بؤرة للتناحر والاصطراع والتقاتل المستمر على الشعلة الأزلية التي ما زالت تضيء قلب كركوك، هذه الشعلة التي لم تخبُ أو تنطفئ منذ آلاف السنين وفق العلماء والمؤرخين، فهي ما زالت متوهجة تبعث بلهبها المتعالي الى سموات العراق. من أجل هذه الشعلة الدائمة الاشتعال، يصطرع العراقيون وليس من أجل البعد الثقافي والحضاري لكركوك المدينة التاريخية، فهي اليوم متجهمة وعبوس وترفض اليد الطولى والنفوس الجشعة والأمّارة بالسوء، تلملم نفسها منطوية على جراحها، منتظرة أن تنهض مرة أخرى محتضنة شعلتها الابدية.
في السليمانية التقيت بشاعرها الكبير والصديق القديم شيركو بي كه س، لا يزال يعمل مديراً لدار سردم، وهي دار كبيرة للنشر وتصدر مطبوعات كردية، ومن ضمنها مجلة ضخمة تصدر باللغتين العربية والكردية. شيركو شاعر كردستان العالمي تجاوز السبعين عاماً لكنه لا يزال كما كان، شاعراً منتجاً ومبدعاً.

صحيفة الحياة اللندنية

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى