حكايات أهل الشام : وقائع ماجرى في جامع الورد ! (3)

كان ذلك في سوق ساروجا، عندما التقيت بذاك الرجل العجوز في جامع الورد، كان العجوز يأتي قبل صلاة المغرب، ويتوضأ من ماء البحرة وكأنه يحن لأيام زمان عندما كان الماء يتدفق في أنحاء المدينة ويفيض عنها..

بعد أن يتم الوضوء، يخرج من جيبه محرمة بيضاء، ويقوم بتنشيف بقايا الماء عن وجهه وذراعيه، ثم يتجه إلى القبلة، ويصلي ركعتين ويجلس في الجهة الشمالية لصحن الجامع لقراءة القرآن الكريم، إلى أن يحين أذان المغرب .

في صحن الجامع تتراءى مئذنة جامع الورد في الزاوية الجنوبية الغربية، ومنها تقوم العصافير بتوديع نهارها بصخب رائع، فتطير من المئذنة إلى الصحن، ومن الصحن إلى المئذنة، إلى أن يتخافت ضجيجها وهي تنكفئ إلى جحورها الموزعة بين الأعمدة الخشبية القديمة، فتنام مع أول ركعة من الصلاة حيث تبدأ العتمة بغطائها اليومي لسماء الشام!

أثارني هذا الرجل العجوز بهدوئه والسكينة الواضحة في عينيه، وكنت أجمع أشياء خاصة تتعلق بفيلم تلفزيوني عن سوق ساروجا، لذلك توقعت أن حوارا مع عجوز من هذا النوع لابد أن يكون مفيدا، ولابد أن يجيب على أسئلتي عن المكان، لأكتب عما لم أجده في الكتب..

قلت له محتجا وأنا أريد إثارة الحديث:

ــ عجيبة هذه المنطقة التي اسمها سوق ساروجا.. هناك حارة الورد وحكر الورد وجامع الورد ولم أر ولا وردة واحدة فيها!

فعلتْ كلماتي فعلها في نفسه، فأوقعته في الفخ!

رمقني العجوز بنظرة احتجاج معاكسة غيّرتْ ملامح السكينة في عينيه، وقال :

ــ كانت الشام جنة متصلة بالبساتين والحدائق وقنوات المياه العذبة، وتغص بالفواكه والخضراوات والورد العطرة والرياحين، كل شيء طار..

وسألني ساخرا:

ــ ألا تعرف أن كل شيء طار أم أنك من بلاد السند والهند!

جاء ردي باستفزاز آخر:

ــ إذا هي الشام .. تغيرتْ ..

هزّ رأسه بحركة ساخرة، ثم اقتربَ وجهه مني ليرد عليّ وكأنه يبوح بسر خطير:

ــ تغيّرت النفوس يا ابني !

مطّ حروف الكلمة الأخيرة، ثم عاد إلى القرآن الكريم يقرأ منه بخشوع!

***

في اليوم التالي، قصدتُ جامع الورد من جديد، أتيت في وقت أبكر من المعتاد، فشاهدته، ورميت السلام عليه.. رد تحيتي وكأن تعارفنا قبل يوم واحد جعلنا أصدقاء. اقتربت منه أكثر. وجدته ودودا يريد أن يحكي شيئا ما في نفسي ..

توقعت أن يحكي عن الورد والماء والبساتين والحياة والناس، وهذا ماحصل، وكأن شيئا تدفق في داخله أو أن كلماتي أشعلت حريقا في ذاكرته، فإذا به يمضى نحو عشر دقائق وهو يتحدث عن الشام، فهو كما قال، يأتي من العمارة إلى هذا المكان الذي يحبه، يصلي المغرب والعشاء ثم يعود، وغالبا ما يأتي نهارا ليتجول في سوق ساروجا وحاراته، وباح لي بقناعة في نفسه، وهي أن هناك حكاية في كل شبر من أرض الشام، ولا أعرف ما الذي دفعني لطرح سؤال مكرر مازح ، حاولت فيه البحث عن تبرير ولعه بهذا المكان:

ــ لعلك كنت تحب إحداهن في حارة الورد أيام زمان ، ياحاج!

رمقني باستنكار، إلا أنه لم يحتج، ولم يغضب، بل عاد وابتسم. ووجدته يحكي شيئا ما لا يخطر في البال:

ــ في حارة الورد قصة عن الحب تجعلنا نظن أنه بلوى !

ــ من؟!

ــ الحب !

ــ كيف ؟!

عادت السكينة إلى عيني العجوز، وقال :

ــ قليلون يعرفون القصة ، فقد كان صاحبها يسكن هنا، في حارة الورد، كان شابا باسم الوجه، طيب القلب، وكان يعيش مع أهله في بيت واسع مليء بالورود والأزهار، التي كانت شغله الشاغل، ففي بيته أشكال وألوان من الخبيزة والمحكمة والشاشا وشب الظريف والريحان والياسمين والهرجاية، وغيرها.

وصلتْ سمعتُه إلى حي العمارة حيث أسكن، وكانت النسوة يعرفنه، وتتفاخر كل من زارت البيت بأنها زارت بيت الأستاذ، أو أن رائحة بيتها مثل رائحة بيت أبو الورد، كما كن يسمين الشاب.

وأضاف العجوز:

ــ كان أبوه أستاذا يُدرّس الأطفال في مدارس الشام، أنجبتْ له زوجته ثلاث إناث وولدين أحدهما هو أبو الورد نفسه.. ويقولون إن عينا أصابت أبو الورد، فتغيرت حاله، ووصلت أخباره إلى أغلب حارات الشام القريبة..

وفي قصته مايذهب العقل فعلا، فقد تغيرت حالُه، وتغيرتْ سمعته، بل إن اسمه تغير أيضا، فصار فيما بعد (المغضوب)!

سألتُ العجوز، وقد أسرتني تفاصيل حكايته :

ــ من (أبو الورد) إلى (المغضوب).. كيف ؟!

فرد العجوز :

ــ شيء ما غيّر حياته.. قيل إنه الحسد، أو أنه أغضب أمه ذات يوم، عندما ضرب مائدة الطعام بقدمه فوقعت أطباق الطعام على وجهها ثيابها، فغضبت عليه ودعت الله أن يعاقبه على رفس النعمة في وجه أمه، ولم يكن الدعاء من قلبها، إلا أن الله استجاب الدعاء !

ــ ماذا كان في دعائها ؟!

ــ طلبت من الله أن يحول الورود بين يديه إلى شوك، وأن يموت بحسرة من يحب!

وأضاف العجوز :

ــ ماتت الأم بعد أسابيع، وسريعا بدأت الحياة تتغير في البيت عندما تراجع تدفق المياه في بحرة أرض الديار، ثم جفت تماما، وصارت الجرذان تخرج من القناة التي تصل المياه إليها وتبحث عن طعامها في زوايا البيت.

ذبلت ورود بيت الأستاذ، ولم يعد أبو الورد يهتم بأحواض الزريعة. كان يذهب من الصباح ولا يعود إلى بيته إلا في المساء. كان يذهب إلى العمارة ومن هناك يتجه إلى حارات الشام، فيمضي فيها من حارة إلى أخرى تائها كمشرد ضاعت أسرته، إلى أن صادفته شام ..

ــ من هي شام ؟!

تلك هي اللعنة الأخرى التي أصابته ..

ارتفع صوت أذان المغرب ، وتوقف العجوز عن سرد القصة، فنهض للصلاة، وقبل أن يبدأ صلاته ، عاتبني قائلا :

ــ الله يسامحك يا ابني شغلتني عن قراءة القرآن .. غدا سأتم لك قصة المغضوب .. ولن أدعك بعدها تعطلني عن عبادتي!

ورفع يديه ، بعد أن ردد النية في الصلاة، وقال :

ــ الله أكبر !

وشرع في صلاته ..

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى