حكايات أهل الشام :(2) من كتب “اذكريني دائما” على صخرة الربوة ؟!

دمشق ــ تحقيق خاص ببوابة الشرق الأوسط الجديدة

سألتُ البستاني :

ــ من كتب “اذكريني دائما” على الصخرة؟

كان البستاني مقرفصا أمامي، وقد فاضت حبات الصبار عن الحد الذي تتسعه السلة، فوجدته ينهض بعنفوان، وكأنه كان ينتظر سؤالا من هذا النوع عن العبارة التي أرّقت كثيرين في معناها وقصتها، وليس هناك من يسأله عنها !

نظرتُ في القامة التي نهضتْ أمامي، اكتشفتُ أنه أطولُ مما توقعتْ، فالشروال الذي يرتديه، والشال الذي يلفه على رأسه، وحاجباه الكثيفان، وشارباه الطويلان شكلا صورة أوحت لي أنه قصير مربوع القامة، فإذا به فارع الطويل يحمل وجهه ملامح تذهب بين حزن والحزم والرقة!

لم يكن البستاني قصيرا. كان كهلا يزيدُ طولُه عن مئة وثمانين سنتميترا، برقتْ عيناه وهو ينقلُ نظراته بين وجهي الطفولي الفضولي الذي ظل ينظر إليه باستغراب، وبين الصخرة التي حملت العبارة اللغز التي أسأل عنها ببراءة سأظل زمنا طويلا أستعيدها .

قال البستاني :

ــ قارب عمري الستين سنة، وأنا أطل على هذه الصخرة، لم أرَ أحدا يرمي نفسه منها. قال لي أحد شبان المدينة إن رجلا رمى نفسه من فوقها، لأنه أحب فتاة جميلة رفض أهلها طلب الزواج منها، وهذا كلام غريب، فالرجل، في بلادنا، لا ينتحر من أجل امرأة، هذا عيب وحرام!

ثم نظر في وجهي ، وكأنه يستجدي رأيا يؤيد قناعته ، فأعدت السؤال إليه:

ــ وماهي حكاية الصخرة إذن ؟!

لم يهتم لسؤالي . تابع حديثه عن الانتحار والنساء:

ــ على الرجل أن يبتعد عن فتاة لايريد أهلها زواجه منها، فمن العار أن يبقى في انتظارها، ومن العار أن يخطفها، لأن في بلادنا أعرافا وتقاليد عن احترام بنات الناس!

وقال أيضا:

سمعت أن الفتاة دمرانية وليست شامية ، وأنها تزوجت في الشام، وأن ذاك الرجل الذي أحبها كان يعرف أنها تزور أهلها كل أسبوع، ولابد أن تمر من الربوة في طريقها إلى دمر، ولذلك أرادها أن تتذكره كلما زارت أهلها!

بدتْ القصة، التي يرويها البستاني، عادية باردة، لم ترق لي تفاصيلها، وكنت أود أن تكون على غير هذه النهاية ، وسريعا سألته مستفسرا:

ــ هل أحببت أنت ؟!

بُهت الرجل من سؤالي. لم يتوقعْ أبدا هذا السؤال. تغيرت ملامحُ وجهه إلى درجة أخافتني. في البداية أحسست أنه طفل يريد أن يحكي، وبعد لحظات تغير الطفل، فتراقص حاجباه الكثيفان وهو يرفع طرف الشال الذي يغطي رأسه، ثم حمل سلة الصبار وأفرغ محتوياتها في الأرض ورفع شرواله بطريقة مضحكة، وصاح بي ، وقد عدت لأراه قصير القامة:

ــ أتريد أن تعرف كل شيء عني لأني أبيعك سلة صبار ؟

وارتفع صوته :

ــ هيا خذ سلتك وامض.. هيا !

أثارت عودتي بخفي حنين اهتمام حارتنا في الجسر الأبيض، وكان اسمها حارة المؤيد العظم، ولم أبح بما حصل معي إلاّ لأبي، كانت تلك المرة الأخيرة التي أتجه فيها إلى حواكير الصبار في المهاجرين، وبخاصة عندما ربتَ أبي على كتفي وهو يسمع القصة ، ويقول :

ــ هل تريد أن تعرف حكاية صخرة ” اذكريني دائما”؟!

فقلت بلهفة وشوق :

ــ نعم ، قل لي يا أبي، ماهي قصة هذه الصخرة ؟!

هز أبي رأسه، وكأني به يريد أن يضع الأمور في نصابها لحكاية مجهولة التفاصيل، رغم أنها من أجمل الحكايات، كان أبي قد تجاوز الأربعين سنة من عمره، وكان قد عاصر أيام الاستعمار الفرنسي. جاء إلى دمشق ليتعلم في مدرسة أهلية معروفة اسمها “دار الحديث” وقد تخرج منها بشهادة شرعية ، فعُيّنَ أستاذا في قريتنا ، ثم عاد إلى دمشق موظفا..

قال أبي يحاول إرضاء فضولي:

ــ هذه العبارة كما قال لنا الشيخ بديع في دار الحديث، كتبها يوسف العظمة، ثم جاء آخرون وصاروا يكتبون أسماءهم تحتها!

فسألته :

ــ هل كان يوسف العظمة عاشقا ؟! هل انتحر من فوق الصخرة ؟!

ضحك أبي، وسألني ساخرا :

ــ شو قصتك مع العشق؟ احذر أن تكون قد وقعت فيه.. عمرُك عشر سنوات.. بكيرْ.. بكيرْ..

وضحكتُ أنا، وسمعتُ ضحكة أمي القريبة منا، ثم تعليقها: ” لاتستغرب يارجالْ.. ففي كل مرة أفتقده فيها أجده في بيت الجيران حيث تسكن رنا!!”، فابتسم أبي، ولم يجاريها في حكاية الجارة الصغيرة، بل استدرك حالة الارتباك التي أصابتني، وعاد ليكمل لي تفاصيل الحكاية التي سمعها:

ــ الفرنساوي يا ابني كان يطمع ببلادنا. يريد أن يسرقَ مالها ويذل أهلها.. وفي سنة العشرين، وقبل أن أخلق أنا بعدة سنوات بعث الجنرال غورو إنذاره الشهير إلى الملك فيصل وفيه يهدد بالحرب أو تستسلم الشامْ ..

لم يكن لدينا جيش مثل العالم والناس، وهناك من قال إن الاستسلام أفضل وتبنت الحكومة الفكرة فسرحوا ماعندنا من جنود وضباط، ومع ذلك، ولأن الرد تأخر نصف ساعة فقط عن موعده قرر غورو احتلال الشام !

وأضاف أبي، وكأنه يستظهر درسا أمام التلاميذ كرره عشرات المرات:

لم يكن أمام أهل الشام إلا القتال، وهبَّ الشعبُ للتطوع دفاعا عن بلادهم، وكان يوسف العظمة وزيرا للحربية، فقرر أن يرفع اسم سورية عاليا في لحظة تاريخية ويقاتل حتى الموت، ولأن المتطوعين لم يكونوا مدربين كفاية على مواجهة جيش غورو، كانت المعركة غير متكافئة. كانت المسألة مسألة كرامة وشرف ، ولذلك ذهب الجميع إلى ميسلون واثقين بالاستشهاد..

ويقال إن يوسف العظمة، وكان الوقت ليلا انفرد عن جنوده الذين تجمعوا عند الربوة، وصعد وكتب تلك العبارة لتتذكره مدينة دمشق، ولأن الله يحب الشام، ظلت الكلمة حتى الآن وكأنها حرز يحميها!

****

أسعدتني الحكاية التي حكاها أبي، فنشرتها بين أولاد الجيران وأضفت عليها من خيالي الكثير.. حكيت لهم عن يوسف العظمة كيف صعد إلى الصخرة وكيف شاهده صاحب حاكورة الصبار، فخاف منه، وقلت لهم إن يوسف العظمة طويل جدا وعضلاته مثل عضلات “هرقل الجبار”، وإنه قَتَلَ العشرات من الفرنسيين قبل أن يموت!

عاد الهاجس إليّ بعد سنوات طويلة، وكانت القصة تتردد على ذاكرتي ولا تغادرني، تذهب وتعود، وكلما مررت في الطريق عبر فج الربوة استعدتُها، واستعدتُ أسئلة وفضولا جديدين يشتعلان في داخلي، فهل كتب يوسف العظمة فعلا هذه العبارة إلى مدينة الشام؟ وهل كان يتوقع أن الشام ستتذكره فعلا؟ ولماذا غضب البستاني مني؟!

لم أجد في أي كتاب أو مقال قرأته ما يشير إلى هذه القصة. بعض من حدثتهم عنها أيدوا هذا الاحتمال، وقال أحدهم: “يجب أن يُبنى صرح كبير فوق الصخرة ليوسف العظمة، وأن ينقل قبره من ميسلون إلى قاسيون”، وقبل سنوات، أي بعد أن مضى على تلك القصة نحو خمسين عاما، أخبرني رجل عجوز بحكاية أخرى عن الصخرة. حكاية هزتني من داخلي، فأشعلت جوارحي، وأعادتني طفلا يود لو يذهب إلى الماضي، فيركب “الترين” إلى آخر خط المهاجرين وينزل في الحواكير بحثا عن البستاني الذي أفرغ سلتي في الأرض وطردني، لأن ماعرفته عنه جميل، جميل إلى درجة الدهشة !

((يتبع))

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى