رتيبة الحفني.. كاهنة الأوبرا وعالمتها (محمد شعير)

 

محمد شعير

لم يكن لرتيبة الحفني سوى وصية وحيدة.. أن تخرج جنازتها من دار الأوبرا المصرية. وهذا ما تحقق أمس بمشاركة العديد من الفنانين والمسؤولين الثقافيين. الحفني التي ولدت عام 1931 غادرت عالمنا أول أمس بعد رحلة كفاح فنية وثقافية، خاضتها بمفردها في مجتمع ذكوري.. لم تكن ترى الفن الكلاسيكي والأوبرا برجاً عاجياً ممنوعاً الاقتراب منه إلا للمهتمين، بل حاولت أن تجعل منه فناً متاحاً للجميع. لم تفعل ذلك فقط في مؤلفاتها التي تناولت فيها سير الموسيقيين المصريين عبر عشرات الكتب في النقد الموسيقي، بل في برنامجها التلفزيوني الأسبوعي الذي كانت تقدم فيه مقطوعات كلاسيكية وأوبرالية شهيرة، وتعرضها وتحللها بأسلوبها السلس، ما جعل أجيالا تدرس الموسيقى على صوتها، فضلا عن اهتمامها الخاص بالموسيقى العربية والتأريخ لها.
تنتمي الحفني إلى أسرة فنية موسيقية، فوالدها هو محمود أحمد الحفني، الذي تزيد مؤلفاته على 45 كتابا عن الموسيقى، كما كان أول من أدخل دراسة الموسيقى في المدارس المصرية. أما جدتها لأمها الألمانية الأصل فكانت مغنية أوبرا شهيرة. وقد بدأت الحفني العزف الموسيقي في الخامسة عندما تعلمت العزف على البيانو.
رغم عشقها للموسيقى إلا أن والدتها أجبرتها على الالتحاق بمعهد الموسيقى العربية، كانت تتمنى أن تكون "طبيبة" تعالج المرضى، والفقراء، لذا ظلت ثلاثة شهور في بكاء متواصل احتجاجا على قرار الأسرة. بعد ذلك اكتشفت أنها في المكان الصحيح.. بل إن الموسيقى هي "دواء الروح" الحقيقي للمرضى.
كانت أصغر متخرجي المعهد، فأستاذها في العود هو محمد القصبجي، وبارعة أيضا في العزف على العود، لكنها بقيت في البيت بلا عمل، حتى جاءتها منحة إلى ألمانيا لاستكمال دراستها، في ميونخ اكتشف الأساتذة جمال صوتها وأقنعوها بالغناء الأوبرالي لمادة إضافة إلى العود، وبعد شهور قليلة اختارت أن تكون الأوبرا هي الأساس، ودراسة البيانو هي المادة الإضافية. بعدما عادت إلى القاهرة شاهدها جمال عبد الناصر في إحدى الحفلات، وكان ثروت عكاشة يبحث عن بطلة لأوبرا "الأرملة الطروب" عام 1961، تذكر عبد الناصر رتيبة وقال لعكاشة: لمَ لا تأخذون هذه المغنية لذلك الدور! وهكذا حصلت على أول بطولة وأول وقفة على خشبة مسرح دار الأوبرا كبطلة لتلك الأوبرا، وكان المخرج وقائد الأوركسترا من النمسا، وقد أذيعت مقتطفات من تلك الأوبرا في فيينا، ومنذ ذلك اليوم بدأت رحلتها مع الشهرة العالمية. وكانت أول سيدة ترأس دار الأوبرا المصرية، كما تولت منصب عميد معهد الموسيقى العربية، ثم أسست ورأست مهرجان الموسيقى العربية، الذي قدمت من خلالها مجموعة من أهم وأجمل الأصوات العربية. كما رأست المجمع العربي للموسيقى التابع لجامعة الدول العربية، وحصلت عام 2004 على "جائزة الدولة التقديرية في الفنون" من المجلس الأعلى للثقافة.
كانت الحفني ترى أن للموسيقى العربية هوية خاصة بها، ينبغي الحفاظ عليها من دون تعصب لها، إلا أنها لا ترفض التأثر بالغرب، لكن بأسلوب عربي. كتبت: "يمكن استغلال الآلات الموسيقية الغربية لكن علينا ألا ننسى تلميع (الأنتيك خانه) الأصيلة مع الحفاظ على القوالب العربية القديمة، مراعين تلك الصلة بين المولود والأجداد.. لا بد من الحفاظ على الهوية واستنباط ما هو جديد، فالعصر يتغير ونحن نتغير أيضاً".. وكان رأيها أن: "القرآن" هو القادر على الحفاظ على موسيقانا العربية، فكل كلمة فيه تشكل موسيقى بإيقاعها ورنينها.. حين نسمع القرآن نشعر بالنغم الجميل حتى إن لم يجوّد، ولتلاوة القرآن مقامات، فهي تحافظ على المقامات العربية، وتحافظ على العنصر الإيقاعي المهم في الموسيقى العربية.. هذا هو ما يبقي على الموسيقى العربية، وتلاحظ الحفني أن "كل من عزفوا الموسيقى قبلاً – غناءً وتأليفاً وممارسة – كانوا من المشايخ ثم دخلوا عالم الغناء".

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى