رحلات الى المستقبل من خلال بحر الماضي

تبدو الإطلالة المميزة للفنان الجزائري – الفرنسي ناصر الدين بن ناصر المعروف باسم «ناصر» في غاليري مارك هاشم (ميناء الحصن – لغاية أواخر شهر تموز – يوليو) في بيروت، بعنوان «رحلات الى المستقبل من خلال بحر الماضي»، على مستوى كبير من التفاعل مع القضايا المعاصرة التي تجاوز بعمق مسائل الهجرة الجماعية إلى ما وراء الحدود، وأزمات التمييز العنصري والاقتلاع، ومجازر الحروب والنزوح، من خلال وسائط بصرية تقدم شهادات من الحاضر مبنيّة على رؤية عميقة تستنبط الماضي من زوايا هشّة وحميمة ومتصلة بأركيولوجيا الذاكرة.

يطرح ناصر أسئلة كثيرة إزاء التطور التاريخي الجذري لعلاقة الحضارات والثقافات من جهة، والغموض الذي يكتنف أيديولوجيا الخطاب السياسي، التي من شأنها التلاعب بأقدار الشعوب وتفجير الصراعات والأزمات وخلق النزاع من جهة أخرى. وناصر يختبر امتداد تلك الأزمات على أنها من مخلفات الاستعمار ونتائج الحرب العالمية الثانية، ومن ثم علاقتها بعصر العولمة وما خلفته من إثارة للعنصرية والتطرف والإثنيات وصراع الأديان.

 لذا، فهو يقوم بالمزج بين أنواع التقنيات والحوامل، إذ يتنقل ما بين الرسم والتلوين التقليديين الى النحت والرسم على البلكسي غلاس فضلاً عن الأعمال الإنشائية وتجهيزات الفيديو والتصوير الفوتوغرافي، بما يتناسب مع الفكرة التي تلامس الحنين الى أرض الطفولة وما تبقى من قمصانها وأثاثها ومخلفاتها وعطور تقاليدها التي لم تندثر بل ما زالت تخفق في القلب. وثائق ورسائل من قعر المحيط ومن تضاريس جغرافيا الألم، يفتحها أمام مشاهديه: كرسالة الشاب العراقي علي التي تقول: أنا لست نكرة، انا ابن بابل، العالم الذي أعطاه أجدادي الكثير، لم يشكرنا بل تخلى عنا، لهذا الغرق الذي دام لسنوات، لم يعد صوتي يجدي نفعاً، مع ذلك أصرخ من قوة ألمي وغضبي، «أنا علي المسلوخ الحي… أنا بغداد». هكذا تحضر بغداد في رسوم ناصر مثل جبل أو كومة من ضباب وغيوم رمادية تتلاشى مع الريح، في سلسلة رسوم نفّذها بتقنيات مختلطة على الورق الياباني، هي من أجمل أعماله التي تخاطب هوية الكائن المأزوم.

يسترد ناصر قطعاً من ماضيه ينطلق منه إلى القضايا الإنسانية العائمة على بحر متلاطم، لا سيما قضايا العالم العربي. ثمة دوماً أشياء مُخترقة بين الخاص والعام، بين مشهدية الجماعة والصور التذكارية التي تخرج فجأة من حقيبة ذكرياته، لتتبدى لنا مسألة الذاكرة الشبيهة بأوراق ممزقة من فرط التداعيات والحنين واللوعة.

 وفي كل مرة، يجد ناصر منصة للوجع عالية شبيهة بأبراج بابل المشيدة بمادة الخيال، التي سرعان ما تأتي عليها النيران تغزوها لتمحوها من الوجود. والوجود ما هو إلا حركة هائجة لاصطفاق أجنحة في سماء قليلة حيث الطيور المهاجرة الى المجهول. ولعل المعنى المباشر للرحلة إلى المجهول تتبدى في تيمة ضحايا الغرق في البحر بحثاً عن اللجوء، إذ يتم تعرية الواقع من خلال رمزية سترات النجاة، خصوصاً القارب الجنائزي المصمم على هيئة تابوت خشبي أسود، يحتوي على تكاوين حلزونية شعائرية (من حبال النيون) ذات أبعاد أسطورية لكنها تشير الى الديمومة والاستبطان.

هل انسحاب الكائن وانطوائه على نفسه سيكون محرّكاً لقصة متكررة وغير قابلة للتغيير؟ هذه الجدلية التي لا مفر منها ستبرز في عمل تجهيزي آخر، عبارة عن نص مرسوم بلطخات الأسود والأبيض

 يتدلى كلفيفة ورقية مأخوذ من رسالة مؤثرة كتبها مهاجر على وشك الغرق – كهدية الى العالم المتحضر – يقول فيها: «أنا آسف يا أمي لأن السفينة غرقت بنا ولم أستطع الوصول الى هناك، كما لن أتمكن من إرسال المبالغ التي استدنتها لكي أدفع أجر الرحلة. لا تحزني يا أمي إن لم يجدوا جثتي، فماذا ستفيدك الآن إلا تكاليف نقل وشحن ودفن وعزاء. أنا آسف يا أمي لأن الحرب حلّت وكان لا بد لي أن أسافر كغيري من البشر، مع العلم أن أحلامي لم تكن كبيرة كالآخرين، كما تعلمين كل أحلامي كانت بحجم علبة دواء للكولون لك وثمن تصليح أسنانك، أنا آسف يا حبيبتي لأني بنيت لك بيتاً من الوهم… آنا آسف يا منزلي الجميل لأنني لن أعلّق معطفي خلف الباب، أنا آسف أيها الغواصون والباحثون عن المفقودين، فأنا لا أعرف اسم البحر الذي غرقت فيه. اطمئني يا دائرة اللجوء فأنا لن أكون حملاً ثقيلاً عليك. شكراً أيها البحر الذي استقبلنا من دون فيزا ولا جواز سفر، شكراً للأسماك التي ستتقاسم لحمي ولا تسألني عن ديني وانتمائي السياسي… أنا لست آسف لأني غرقت فقد ارتحت وريحت».

تبصيمات الباستيل الأسود على الورق الأبيض بأسلوب «الفروتاج» كنوع من حوار الرؤية، هكذا تبدو الرسوم التي تقول الكثير عن علاقة الأسود والأبيض، من بينها تلك التي تجسد لحظة انبثاق النار من فم «قاذف اللهب» بتضاد شبيه بخيال الظل، الذي يتراءى أيضاً في حركة الحشود وتماوجها أثناء الطواف حول الكعبة في آن واحد عكس حركة الزمن في دوران يرتقي نحو السماء، في سفر روحيّ حيث تذوب الأجساد والأعراق والمشارب في تماوجها المداري كلفيفٍ من البقع والظلال حتى تمسي مشاهد تجريدية، تكرس لغة قائمة بذاتها، لغة المظاهر الغيبية والضباب النوراني في مشهدية الصورة.

وناصر يتقن صناعة المشهدية مع ترميز العناصر التي تتحول مادة للإيحاء والتعبير بكل ما تحمله الفكرة من صراع محتدم بين ظاهر الفكرة وخفاياها، لا سيما اشتغاله على العلاقة بين الخارطة الجغرافية والخارطة السياسية. فالحدود والجدران الفاصلة والعذابات الإنسانية للشعوب تتبدى كتيمة وجودية ملحّة تتمثل بمعاناة الحصول على تأشيرة للسفر، ليتذكر بدوره معاناته الشخصية حين هاجر من الجزائر إلى باريس أوائل تسعينات القرن الماضي، وكان رساماً عصامياً استطاع أن يكسب قوته من ترميم اللوحات والقطع الفنية والوثائق الأثرية، بما في ذلك الشجرات العائلية، التي أثارت لديه تساؤلات كثيرة حول مسألة الاقتلاع من أرض الأجداد والذاكرة المشتتة التي يطويها النسيان.

 

صحيفة الحياة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى