سعيد عقل في مجرّة الشاعر الأيقونة

لا وجود للكلام الحاسم في سعيد عقل. كل ما ندوّنه مجرد خربشات. تلاوين من محاولات. تمارين على الزقزقة. وشوشة في فناء المفردات. أو هو ربما فرجة على الكلمات حين تنغمس في سيرها، نصغي ورعين الى إيقاعها لحظة تمسّ أرضا شعرية خصبة، تُنبت ألف موسم، وتفجّر ألوف الينابيع. ليس ثمة كلام معدّ سلفا في سعيد عقل المفتتن بفكرة لبنان العالق في حلقة من ضوء، كأنه مجرّة تنثر رذاذ حلم على كوابيسنا السرمدّية. ورّطنا سعيد عقل في حكاية اللّبنان المحمّل كبرا، المجافي للواقع والمنافي للجغرافيا. وطن يصطاد المستقبل بينما الواقع فريسة. إتكأ على ما كانت حكايته ليتصوّر كل ما يحتمل أن يكونه.

لا لبس في أن سعيد عقل يستسلم من أعلى أعوامه الأربعة بعد المئة، إلى شعور مُلحّ بأنه شاعر مارد لم يلده الفتى الذي كانه. نتصوّره، من دون الحاجة الى أن نبصره، مدهوشاً أمام مجمل ما حقًقه وغير آبه، ومشدوهاً إزاء ما تحقق. كأنه لا يهاب أخذ مسافة من واقعه سائلاً عن احتمال نيله حياة لم يملكها، وملكته على الأرجح. غذّى هذا النسق من الإستفهام شعره ومسرحه (او مرسحه) وبحثه أيضاً، فدفع به لكي يجعل من اليقين الدرب اليتيمة الى الحياة.

تكاد الصورة المتداولة عن سعيد عقل تطغى على كل محاولة لتحديده. ذلك أن الشاعر الرمزي لم يلبث أن صار الشاعر- الرمز المرصود مبكراً الى الأسطرة، فباتت تجربة الشخص جزءاً من الشخص – التجربة. سعيد عقل الذي نقّب في إرث فينيقيا ووهج ميثولوجيا الإغريق والتاريخ الفرعوني، والذي أؤتمن على جماليات الفصحى قبل فتنة “اللبنانيّة”، كلمة سمعناها مبكراً تخرج من حنجرة النقاء الخالص فيروز. تجلّى سعيد عقل خلاصة الهبات الروحانية والأبعاد الشعرية بين القديم والجديد والتفتق الحداثي أيضاً، فصار بهذا المعنى مشروعاً لغوياً لا يكاد ينتهي من فرط ما يختزنه.

أنصت الشاعر سعيد عقل الى الفرنسي بول فاليري يهمس أبياتاً في ذهنه، فلبّى وترسّم خطواته الى ضواحي الرمزية. غير أنه، وعلى نقيض الشاعر الملعون بول فيرلين، الرمزي الآخر، أمعن يغضّ الطرف في سبحة قصائده، عن تلاوين القدرية. أغفل سيادة السلطات الحتمية وظلّ شعره خاوياً من نفير المصادفة. تجاهل أيضاً إلماحات الهذيان وهفهفاته، بغية أن يؤخذ بمزاملة قدرة أعمق، وأكثر جبروتاً. طمع بأن ينهمك في مشاركة الله، ذاته، “في انتاج الجمال”. ذلك أن سعيد عقل، وببساطة، يعجز عن رؤية مصدر جاذبية في أدبيات اليأس. تشرّب الشاعر إيديولوجيات القرن العشرين وفلسفاته المضمخة أفكاراً. اعتنق بعضها عند بزوغها وصار نبيّها، فعل ذلك كله قبل أن يشاهدها تنكسر، في حين لم تكسر فيه شيئاً، ولم تخلّف جرحاً. امتشق سعيد عقل الشعر، كما يمتشق آخرون السلاح، وشهره في وجه مترقبي الإيحاء الوافد على صهوة المباغتة. وكان أن صار بحركة عفوية، حاملاً لواء شعر دأب على محاباته، ذلك أنه تأمّله طويلاً ليدرك أريستوقراطيته التي لا يشاطره فيها أحدهم. عرف سعيد عقل أن في وسعه السموّ بالكلمة العادية الى مصاف “الكلمة – الإلهة”.

الغبطة الشعرية

سعيد عقل أحد أسماء الغبطة الشعرية وصل الى إكسير السعادة وتذوّق طعم نقاط الإلتقاء. والحال أن الضمر لم يكن يوما من شيم قصائده، وليس كذلك خور القوى أو الاستضعاف أو التخفّي. في حيّزه التأليفي، أستُثني سلفاً، الحياء في الإدراك. ضجّت مسيرة سعيد عقل باشتغال على الهيام المعرفي، في مستوى فائق العناية. استنبط من فينيقيا واللاهوت والقومية اللبنانية، وارتفع بكل ما وجده الى دلالات شتى. نقرأه يهيم في لبنان بل ينخطف به، كأنه المثال الأوحد، فيكتب: “من أين يا ذا الذي استسمته أغصان/ من أين أنت فداك السرو والبان؟/ إن كنت من غير أهلي لا تمرّ بنا/ أو لا فما ضاق بإبن الجار جيران!/ ومن أنا؟ لا تسل. سمراء منبتها/ في ملتقى ما التقت شمس وشطآن./ لي صخرة علقت بالنجم أسكنها/ طارت بها الكتب قالت: تلك لبنان!”.

في جلّ ما ألّفه، خُيّل إلينا أن سعيد عقل حام حول سياج الإرث الشاهق الآتي من مخلّفات ما شيّده آنفاً مواطنو مهاجع الشعر والفلسفة. لا شك في أن سعيد عقل افترض منذ البدء أنه يخاطب قارئاً يعرف ويعلم ويعي مرماه. ترك لهذا السبب على الراجح، العنان لنزوة استقدام الإلماع في البوح، على حساب كل تبخيس محتمل للمفردة في شرك الكلام المجاني الفاقع والقاموس المتداول الى حدّ الإجهاد. فها إنه يكتب في الوطن أيضاً في مطلع “لبنان إن حكى”: “هنا تحت كل ترابه/ مفاتن مجد/ هنا الله شرع بابه/ وضمك ضمة وجد/ هنا جبل لا الأساطير أشهى/ ولا الشمس أبهى/ أحايين يغري سهوله/ بفل وورد/ أحايين يلعب يغري البطوله/ برمية نرد”.

جعلتنا قصيدة سعيد عقل، تدريجاً، نتخلى عن ميل فينا الى مقارعة الصبر، ذلك أنها جعلتنا نستسلم الى وضعية وثيرة، مؤمنين بأن ثمة في مطرح ما، على متن المركب الشعري، ربّاناً عارفاً يدرك على وجه تامّ، في أي وجهة يمضي. نقع مصادفة على كمشة كلمات بصوت الشاعر، فندرك مجدداً الى أيّ حدّ استحال عليه أن يخون التفاصيل. كأنه بدأ قصيدته عند مفصل النهاية، فصار المقام الأول للمقام الأخير.

يأخذنا الحديث عن سعيد عقل الى مسألة المركزيّة التي باتت سمة الثقافة في الراهن. في حين بيّنت تجربة سعيد عقل في خضمّ الستينات والسبعينات من القرن المنصرم كيف يسع مدينة طرفيّة، وإن كانت بحجم زحلة وثقلها ومكانتها في نطاقها الجغرافي، أن تصنع مرحلة أدبية برمتها. كانت ضفة البردوني في زحلة البقاعية سرير سعيد عقل، أما الوادي فجاره الأوّل. من كنف زحلة ولدت تجارب على ألق، لم تحتج إلى أن تكون، في المرحلة الأولى في الأقل، مدموغة بختم العاصمة لتحمل شهادة استحقاقها.

تقول الحكاية الشخصيّة إن سعيد عقل وبعدما انقطع عن الدراسة الثانوية على إثر رحيل والده، استكمل نهمه الى المعرفة في رحاب الفلسفة والعلم والفن واللاهوت، فغدا “فخر الدين” و”قدموس” ولبنان جيرانه اللاحقين، وأتباعه الآنفين. في ألبوم سيرة سعيد عقل، يبيّن أن بيروت في حقبة الإنتداب، في الثلاثينات من القرن المنصرم، شكّلت بالنسبة اليه، محترف التجربة الصحافية على نحو جدّي. في العاصمة، نشر ومارس تدريس الآداب وتاريخ الفكر اللبناني واللاهوت، ووسط تلاطم الأمزجة الأدبية أتمّ إمرار الرمزية الغربية الى محيطه وقصّ روايته معها.

بين الوعي والحالة الشعرية

في مقدمة “المجدلية” النقدية عاين العلاقة الجدلية بين الوعي والحالة الشعرية: “أرى أن اللاوعي هو رأس حالات الشعر. ورأس حالات النثر الوعي. قبل إبداعي الشعر، بل في ذروة إبداعي، لا أكون واعياً في ذاتي ولا واحداً من الأشياء الواضحة. والثابت (…) أنّ لا أثر فكريّاً ذا قيمة، رياضياً كان أم سياسياً، موسيقياً أم شعرياً، تحقق في الضوء”. غير أنه يزيد في المقدمة عينها: “لا مناص من الإقرار بأن الوعي هو نثر اللاوعي. فالفكرة إذن، شأن الصورة والعاطفة، نثر الحالة الشعرية، تعبير عنها، باهت مخفف، يدينها من أذهان الذواقة المحدود.” في هذا النص الاستهلالي، أفاض في شرح مذهب سيكوّن عصبته الى جانب أديب مظهر ويوسف غصوب، ويكون نجم ذاك المناخ الضبابي المتكئ على مقايضة الحواس. بغض النظر عن تفاوت منسوب الرمزية في تجربة كل صوت من الأصوات الثلاثة، تكفّلت مقاربة سعيد عقل “الترسّلية” ترسيخ موقف ضدي منها في إطار نبذ إيقاعي للموجة الرمزية. هكذا فعل الشاعر الياس أبو شبكة، وليد الرومنطيقية وأحد مجايلي عقل. في بحثه “روابط الفكر والروح”، لفت الى تأثير الرمزية السيئ على توجيه الشعر في بلادنا واعترض على انتزاعها الحسّ من القلب ووضعه في الدماغ والعين. رصد كذلك الشاعر الرمزي يسقط القلب الى المرتبة الثانية، ليهجره بعدذاك بنتيجة انهماكه في التفكير والزخرفة. وإذا كانت الأناقة المغردة والمركّبة تهمة عقل وحظيته فلأن القصيدة في عرفه، تبرعم من ذاك التردد المزمن بين مستويي المعنى والصوت.

ربما لا يكتب سعيد عقل الشعر الضروري في معناه الطارئ المؤتمن في ثناياه على نتيجته، لكنه يجعله يختال في طبيعة بلاغية نقية، في وسط كلمات تترفع في الإجمال، عن التلقين الفكري أو العاطفي، وإن عرَّجت أحياناً في بعض القصائد على دمغة إيديولوجيّة. ها إنه يكتب في قصيدة “أحبّه”: “أحبه أنا ولا يدري!/ ولي كرامتي، فلا أبوح/. ماذا ترى تفعل، يا زهري؟/ تكف؟ .. لا تميل، لا تفوح؟/ من مخبري أين غدا دربي؟/ تقول اختي أن سأنساه/ حقا! .. وما أصنع بالقلب؟ قلبي أنا، النسيان يهواه!”.

شعره أداة تفاؤل في إمكان تحويل العالم، يبحث كما في “نهر الذهب” عن علاقة وشيجة مع النفس، عن تملّك للأشد حميمية والأشد دقة. نقرأه: “حلمت وكان الضحى لم يفق/ بأن وسادك زندي القلق،/ وفوق محياي، شعرك نهر/ من الذهب المندري المندفق،/ أهي مرة، ومرارا أضيع/ كما وردة في العبير العبق./ هويناك، يا حلم، هذا المساء، ستقسو، وبعد غد سترق…/ أنا مرّ أسبوع عمر ولمّا/ أمرّ بدارتها أسترق/ إلى حسنها، قلتني بلبل الأيك/ شرده عندليب نزق،/ تجيء الفراشات محلوليات/ إلى حيف شباكي المنغلق”.

لم يسع سليلو قصيدة النثر الإنتظام العفوي في نادي هواة قصيدة سعيد عقل. ولأن الودّ بالمثل وليس بالتراضي، تأتى من تلك الاصطفافات الحادة شدّ متبادل شغل، ولا يزال أحياناً يشغل، الحواشي الأدبية. توزّع الجدال بين المتمسكين بالقوافي والوزن وبين الساعين الى تجريب يدنو من تفجير القصيدة وجعلها تتشظى من بواطنها. عن تلك المساءلة الشعرية المخدّرة في حين والمتيقظة في حين آخر، إنفضّت مفارقة دقّت إسفيناً بين أتباع قصيدة النثر وأتباع النمط “الدماغي” كما دأب يمارسه سعيد عقل، في تصميم وافتتان، منذ منتصف ثلاثينات القرن الماضي.

خلال أعوامه الوافرة، أهرق سعيد عقل ما يفوق سبعين عاماً، ملقى في براثن الكتابة، بدءاً من دراميته الشعرية “بنت يَفتاح”، وأتى بالتاريخ في أسطرة جزئية. منح قصيدته زخماً وحصّنها بالصقل وبمعادلات تكاد تكون رياضية، منطلقاً من شيء من تلازم بين القيمة والعمل ومن التزام التقليد الموروث. كان يكتب ويرقب في الوقت عينه دُرجة صارت رويداً لازمة، أصبح فيها التجديد، في أحيان كثيرة، ندّاً لجاهزية الشاعر فحسب. بيد أن تلك الفروق المفهومية، بين ما هو إصلاح وما هو فوضى، لم تنفِ اعتراف أكثر من جيل تكوّن من أصوات شعرية تبلورت ذائقتها بدءاً من أواسط القرن المنصرم، باستلهامها عقل. لا يتكتم الشاعر أدونيس مثلاً على تأثره به في “قصائد أولى” (1957) من حيث الجنوح نحو خيار اللغة المصفّاة فنياً. في حين لا يجامله في شأن التشبّث بالوزن بما فيه من استعادة وتنميط في رأيه، وفي ذلك توأمة مع حراك مجلة “شعر”. يذهب أدونيس بعيداً في بحثه “زمن الشعر” ليعتبر سعيد عقل “صائغاً بارعاً” وينزع عنه سمة الخلق الفريد. على ما يتراءى، من الصعوبة أن يترك رجل من قبيل سعيد عقل وارثي غواية الشعر في منأى عن شاعريته، أكانوا مؤيدين لها أم متحفظين عنها. والحال أن مجافاة سعيد عقل لقصيدة النثر لم تنسحب على مجمل دعاتها وقد عمد الى اصطفاء الشاعر محمد الماغوط في سبعينات القرن العشرين ليمنحه الجائزة التي أعطاها إسمه، وليغدق عليه لقب “الشعر شخصاً” ويجد في قرقعة أقدامه دويّا سيرنّ طويلاً بعده.

من جوار الفصحى الأنيقة الوافية للموروث قدِم صاحب “رندلى” و”لبنان إن حكى” و”أجراس الياسمين” الى تخوم تراكيب الشعر العامي اللبناني منشئاً مدرستها الجديدة في رفقة ميشال طراد ابن مدينته، فأضاف لؤلؤة الى صوت فيروز المحفوف حنيناً. وكانت “يارا” (1961)، أشعار دفق من شعر وحب وبوح وأسرار. ثم أتت تجربة مجموعة “خماسيَّات” حيث تخلّى سعيد عقل عن طهرانية القواميس مستقراً في حضن اللغة اللبنانية والحرف اللبناني (1978)، اتبعها بـ”خماسيات الصبا” باللغة الفصحى (1992).

يوم احتفاء “الندوة اللبنانية” بناظم حكمت ضيف لبنان، في نيسان 1960، كتب سعيد عقل فيه: “أكثر من شاعر! انه يد من فوق. وطلق هو، طلق كما الريح، وكما موجة البحر. ولكنه إن ضيم انسان يصبح كالأرض مسّتها الزلزلة. مادة من هاجس قلب، ومن رأرأة عين محرورة الى الإغماض على وردة. وتكون الحياة هي الوردة. ويكون الشوك في العين. من هنا انه يصرخ”. لكأن سعيد عقل يكتب عن حكمت ليكتب عن نفسه.
سعيد عقل. الأناقة المغردة والمركّبة تهمته وحظيته. لم يصنع شعراً بخبز الإمتثاليين من أترابه. في بهاء قصائده حياد عن البسيط والمبسوط وميل نحو البنى اللولبية المركبة. لم يرتوِ تأليفياً من ممارسة استخراج الجمال. لم يرقه أن يقارب ترديات المرء، ارتفع به الى الأعلى لاقتناعه بأن السفيه لا يليق به. أنا الشاعر عنده نموذج مخلصي، من قبيل أن يكون قائداً يحرك أتباعا، وضوءاً في حشد.

سعيد عقل كاهن في معبد الشعر النقي. ذاك الباقي من القصيدة بعد أن يحذف منها كل ما ليس شعراً.

صحيفة النهار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى