شوقي بغدادي.. التسعيني العواد

سنواته التسعون فتحت لنا باب البيت، سلّمت على الزائر ببشاشة دمشقية محببة واقتادتنا نحو غرف المنزل التي تعبق برائحة الكتب والياسمين والقهوة؛ وصولاً إلى غرفة المكتبة التي تراكمت مجلداتها الضخمة في المكان؛ فـ «البحث عن دمشق – الريس – 2002» قادنا اليوم للبحث عن (شوقي بغدادي – 1928) الشاعر الذي أضاء الحياة الثقافية السورية منذ خمسينيات القرن الفائت بحضور امتد لنيف ونصف القرن من الزمن؛ فبعد سنوات طويلة قضاها الرجل في تعليم اللغة العربية في مدارس سورية والجزائر، تفرغ « بغدادي» نهائياً للكتابة؛ مصدراً العديد من كتب الشعر والقصة والمسرحية والمقالة كان أولها مجموعة قصصية بعنوان « درب إلى القمة -1951- رابطة الكتاب السوريين».

كتاباتي الأولى لا تشبهني- يقول بغدادي ويضيف: «لقد كبلني النقاد بلقب كاتب الواقعية الاشتراكية وبأنني ركبتُ على حصان الأيديولوجية كخطيب وشاعر منابر؛ وهذا غير صحيح؛ والصحيح أنني صدّقتُ ورفاق الدرب كذبة الشيوعيين السوفيات؛ وكانت الصدمة قد زالت مع وقوف خروتشوف عام 1956 عندما ألقى خطابه الشهير وفضح الستالينيين؛ فالأنظمة الشمولية قائمة على الكذب، لقد كذبوا علينا؛ كانوا يحدثوننا عن الخطط الخمسية؛ فيما المجاعة تزدهر، يتلذذون بطعم البضائع الأجنبية المفقودة ويحرمونها على الشعب الجائع، أي نفاقٍ هذا؟ لقد ارتكب ماركس وإنغلز خطأً كبيراً عندما ركزا في نظريتهما على تأميم الثروة وتكافؤ الفرص والعدالة الاجتماعية؛ وأهملا الأنانية والحرية الفردية وحب الذات؛ الاشتراكية مفهوم يمكن تطبيقه في قبائل لا يتجاوز عدد أفرادها ألفي شخص، أما الأمم الكبيرة ومجتمعاتها فلا يمكن لها أن توجد هذا النوع من الأنظمة لملايين البشر، هذا وهم كبير أن تطلب من الناس أن يصيروا ملائكة».

لم ينتسب «البغدادي» إلى الحزب الشيوعي السوري لكنه مع قيام دولة الوحدة مع مصر اعتُقل مع أعضائه في سجن المزة العسكري: «رغم أني مجدتُ الوحدة السورية المصرية في كتاباتي؛ لا سيما قصيدتي «أجراس الفرح» التي نشرتُها وقتذاك في مجلة «صباح الخير» المصرية؛ ورغم إعجابي بشخصية عبد الناصر؛ إلا أن ذلك لم يشفع لي من الاعتقال والملاحقة؛ تسعة أشهر قضيتها في المعتقل مع كل من سعيد حورانية وصلاح دهني، فيما تمكن حنا مينة من الهرب إلى بيروت».

الفرح

الوقت لا يمر غليظ القلب على صاحب «ديوان الفرح – الرائي – 2008» الكتاب الأخير الذي أصدره ابن مدينة بانياس الساحلية؛ مقدماً له بنفسه داحضاً فكرة الرومانسيين عما أسموه بالألم العبقري: «هذه خدعة صدقها البكاؤون في عصر معين، كان أصحابها بحاجةٍ لها لتشكيل تيار قادر على كسر المحرمات التقليدية».

مجالسة الشمس وانتظارها منذ ساعات الفجر الأولى عادته اليومية المقدسة، فالشعر العربي المعاصر- برأيه – اعتبر المرأةَ موضوعَ الفرح شبه الوحيد؛ وهذا ما لا أراه اليوم في متعي اليومية الجليلة، يعقب البغدادي ويقول: «كلما تقدمتُ في العمر أشعر أن الفرح هو الاتحاد بالطبيعة والكون والأشياء؛ كل يوم أنتظر بزوغ الشمس على شفة بيتي، هذا أجمل مشهد يمكن أن يراه إنسان على ظهر هذا الكوكب».

بدايات صاحب «مهنة اسمها الحلم – اتحاد الكتاب – 1986» كانت بنشره لقصيدة «بيتنا» في مجلة الآداب اللبنانية؛ فمع مجيئه وأسرته إلى دمشق عام 1946 بحكم تنقل والده كموظف في البنك بين بانياس وجبلة والحفة وصافيتا؛ تعرف الشاب الطالع إلى مقهى الحياة على مناحي الأدب في نوادي العاصمة الفنية والثقافية؛ فبعد أن حاز على إجازتي التربية والآداب من جامعة دمشق 1951؛ جمعته صداقات قوية مع مجموعة من الكتاب الدمشقيين؛ كان أبرزهم علاقته اللافتة مع نزار قباني بين عامي 1953 و1959، إلى جانب كل من فارس زرزور ويوسف الصيداوي.

قضى الشاب ريعان العمر في بيته الشامي الأول الذي كان في حي «زقاق الصخر». من هناك تفتح صاحب «لكل حب قصة – 1977 – إصدار شخصي» على قصائده الأولى؛ منجزاً مستويات جديدة في زمانه لشعرية جاهرت بغنائيتها ومناكفتها للذوق السائد في ذلك الوقت، توجت بإسهامه بتأسيس رابطة الكتاب السوريين: «كنتُ أسرجتُ للرحيل حصاني، من زمانِ، الثمانون جُزتُها وزهيرٌ بات خلفي، فمن رآه رآني».

فضّل البغدادي البقاء في سورية على الرحيل: «استوعبتُ مع أبناء جيلي أكثر من صدمة، فمن ضياع فلسطين عام 1948 وهزيمة حزيران 1967؛ وسقوط النظم اليسارية في العالم وانكفائها في مشرقنا السعيد، كانت صدمة الربيع العربي هي الأقسى عليّ، الأمر يتطلب مني أكثر من خمسين عاماً كي أعيد توازني، لكنني بلغتُ العمر الطويل، ولم يتبقَّ منه ما أراهن عليه، المهمة على الجيل الجديد من الأدباء والفنانين، ممن يمتلكون أسرار عوالمهم الداخلية؛ لكن عليهم أولاً أن يستوعبوا صدمتنا بما يحدث، أجل النظام الماضي ارتكب أخطاء كبيرة بشأن الحريات العامة والديموقراطية، لكن من يقاتل اليوم يرفع شعارات إسلامية، وهذا خطر للغاية، إذا خيروني بين أن يبقى النظام وبين داعش أو جبهة النصرة، فلن أختار الأخيرين طبعاً».

الحل بالنسبة للشاعر السوري يكون في المصالحة التي كتب عنها في الصحف مؤخراً وجوبه بموجة من التخوين: «لا بديل من تقديم التنازلات سواء من النظام أو من المعارضة، كيف يمكن أن يستمر القتال، الجميع في مأزق، وكل يوم يسقط عشرات الضحايا، وتهدم المدن، خوفي على سورية، قبل أن يكون خوفي على دمشق، يجب تغيير نظام التعليم بالكامل، وإلغاء هذه الميوعة في أجهزة القضاء أولاً؛ ومن ثم لا يمكن ولا بحال من الأحوال أن يقابل أصحاب الرأي بالاعتقال والقمع، الرأي يقابل بالرأي، والفكرة بالفكرة، ولا يمكن إطلاقاً أن يظل كابوس الدِّين جاثماً فوق رؤوس السوريين؛ يجب فصل الدِّين عن الدولة؛ أجل نحتاج إلى عقد اجتماعي جديد؛ كفانا هجوماً بعضنا على بعضنا الآخر تخويناً وتكفيراً؛ هذا ما أعتقده كدليل طريق نحو سورية التي ننشدها جميعاً».

العود

يطرق الرجل التسعيني، محدّقاً في آلة العود خاصته، نسأله عن آخر مرة عزف عليها: «زمان، منذ خمسة عشر عاماً لم تلمس يدي أوتاره» لكنه يمسك بآلته المحببة، ويبدأ بغناء قصيدة لمحمد عبد الوهاب «أي سرٍ فيكِ، لستُ أدري». ثم يبدأ بتعريفنا على كتبه المقربة من قلبه في مكتبته التي تحولت جدرانها إلى أرشيف ورقي هائل، روايات ديستويفسكي وتولستوي وفوكنر وسارتر والحلاج وابن عربي والمتــنبي في مقدمتها، لكنه لا يخفي ولعه بكتب الاستشراق، حيث ينهي قراءة كتاب «تاريخ القرآن» لمؤلفيه تيودور نولدكه، وتلميذه فريديرك شوفالييه؛ إضافةً لإعجابه الشديد برواية (قواعد العشق الأربعون للتركية إليف شافاق».

نادي التقدم العالمي والحداثة عبارة تتكرر على لسان البغدادي، لكن كيف ننتسب إلى هذا النادي كسوريين: «ما لم نعمل على إرساء حقوق الإنسان السوري، وحرياته وكرامته وأمنه وجعل الثقافة والفن متجذرين في حياته اليومية، لا يمكن، بل ولا يحق لنا أن نكون أعضاء في هذا النادي، إطلاقاً، يجب أن يكون العلم أيضاً وتطوير جامعاته ومعاهده أهم أولوياتنا؛ عندما كنتُ مدرساً كنتُ على الدوام أقول لتلامــيذي، أشــعر دائــماً أنني أمام أربعين آلة تسجيل، طريقة التعليم والحفظ الببغائي لا تقدم جيلاً متنوراً، هناك غياب للسؤال، للنقاش، للحوار بين الطالب ومعلميه، وهذا لا ينتج سوى الخراب الذي وصلنا إليه اليوم».

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى