طاهر رياض: إنني أعيش الحياة وفي أوقات الفراغ أكتب

الموسيقى دالّتهُ إلى الشعر، يستميح اللغة أن تصمت قليلاً لننصت إلى نداء الجمال الكامن خلف سطوح الأشياء. أتصمت اللغة، فأين تذهب الكلمات؟ قالها في إحدى قصائده:

«هل يمكن رسم العتمة؟
هل يمكن أن نكتب بالكلمات
كلاماً يخلو من أية كلمة؟»

من يلتقِ الشاعر طاهر رياض أو يقرأ أشعاره، يلمح هاجس تحويل الكلمات إلى آلة موسيقية ليؤلف عليها الألحان، «للأسف لا يوجد لدينا مادّة نكتب بها إلا اللغة!» يقول ذلك خلال حواره مع «السفير»، وكأنه في كل مرة يجري بحثاً حثيثاً عن طريقة يمكن خلالها أن نكتب بلا لغة، بلا كلمات تختزن ذاكرة مسبقة. إنه توق طاهر رياض إلى التجريد الذي يجعل اللحن الموسيقي الواحد يضم مئات وآلاف المعاني، وكل مستمع يفهم ويشعر بقدر ما يملك من إحساس ووعي.

من هنا، يهتدي إلى كلمات القصيدة وهو يدندن لحناً ما، فيكتب دون أن يدري أين سيقوده هذا اللحن، وكطفل تائه في حيٍّ من أحياء دمشق القديمة يكتشف قصيدته. يقول «بما أننا شعراء، فنحن مجبرون على استخدام اللغة، لكن علينا الاقتراب بهذه اللغة قدر استطاعتنا من الموسيقى» وهذا هو الدافع الرئيسي لرفضه الاستغناء عن الوزن والإيقاع في شعره، ويكمل حديثه وكأنه يُتمُّ رقصة مولوية أو يحلق في سماء لحن حضره الآن، «الموسيقى جزء من معنى الشعر وليست مجرد بِهار عليه، بل إنني أعتبر الشعر تجليا من تجليات الموسيقى أكثر من كونه فرعاً من فروع الأدب».

التصوف.. ابن عربي..

نفى الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش أن يكون طاهر رياض متصوفاً برغم ملامح التصوف التي تلوح في بعض أشعاره. لكن المتتبع لشعر طاهر رياض وكتاباته لا يمكن أن يتخيله إنساناً غير صوفي. «صحيح» يجيب طاهر رياض الذي يرى أن ما يتبادر إلى ذهن الناس، عندما تُذكر كلمة (صوفي)، المشايخ والدراويش، هنا يقصد درويش أن يقول للناس إن طاهر رياض ليس صوفياً بالمفهوم التقليدي. ويرسم شاعرنا ملامح ذاته أكثر «ما أخذته وتعلمته من الصوفية أثناء اطلاعي هو الرؤيا الموحدة للوجود والكون والحياة بكل تفاصيلها، بهذا المنطق أتعامل كشخص وكشاعر، فعندما أكتب أتأمل علاقة الكلمة بأختها، لأنني مؤمن أن ثمة رابطا بينهما، هذه الرؤية لوحدة الوجود هي ما أخذته عن الفلسفة الصوفية». ولا يرى طاهر رياض أن الصوفية تقتصر على الإسلام، بل إنها موجودة في كل الديانات وعند كل الشعوب.

حياة الإنسان قطعة نسيج متكاملة، وشاعرنا ابن سوريا الطبيعية؛ فهو فلسطيني الأصل، أردني المولد ودمشقي النشأة. اجتمعت هذه المدن والبلاد في فضاء حياته وشكلته، كانت، وما زالت فلسطين، بالنسبة إليه حُلماً يجب أن ينتسب إليه كل العرب حتى ترجع، فلم يتمكن من زيارة مدينته «نابلس» في فلسطين، إلا قبل بضع سنوات فقط. ذكريات الطفولة الأولى تعود إلى وسط بلدة عمّان القديمة في شارع الشابسوغ، ترك المكان ذكريات لطيفة في مخيلته. لكن الروح حطّت في دمشق، التي استأنف العيش فيها هو وعائلته في عام 1968 وهو لم يتجاوز الحادية عشرة من عمره.

دمشق

كانت دمشق الأم التي علّمته وأنضجته، فكان يتتبع خطوات الزمان على ملامح تلك المدينة التي احتوت جيوشاً وإمارات، كلها غاضت وبقي عبق الماضي، وكأنه ذيل ثوب يسحب الإنسان إلى عوالم لا نهاية لها. يقول «هناك بدأت أقرأ، وأكتشف هذه المدينة الغنية حضارياً وإنسانياً، وكان حظي أنني عشت في مكان قريب من مقام الشيخ محيي الدين بن عربي».

فكان يمدّ، هذا الشيخ الذي يبعد منّا قرابة التسعة قرون أو يزيد، يده لطفل يكتشف دمشق ويأخذه إلى عوالم بعيدة خلف الكلمات والمعتاد. ومن جهتها، كانت دمشق تخطُّ بأهلها وأسواقها وروائحها وألوانها وأناشيد الصوفيين وموسيقاهم في مخيلة ذلك الصبي أدراجاً يصعد منها ليصافح معنى الحياة.

يغادر طاهر رياض دمشق مطلع الثمانينيات إلى بريطانيا، كان قد أتمّ عامين دراسيين في قسم الأدب العربي في جامعة دمشق، ولأنه لم يجد جديداً في الجامعة ترك الدراسة فيها وتوجه إلى جامعة بريستول في بريطانيا، لكنه واجه ذات النتيجة، فعاش في بريطانيا عاماً واحداً تمكّن خلاله من اللغة الإنكليزية وعاد إلى عمّان.

وكانت ثمرة إتقانه للغة الإنجليزية ترجمة السوناتات لنيرودا وكتاب تجوال لهيرمان هسه، مع ذلك لا يرى أنه مترجم محترف، فهو يترجم لنفسه نصوصاً تعجبه، لكن محمود درويش تمكن من إقناعه فنشر سوناتات نيرودا. وكان لأصدقاء آخرين دور في إقناعه بنشر كتاب هسه. وإن جواريره اليوم تعج بكثير من الترجمات التي يحتفظ بها لنفسه، أما هي ـ الترجمات – فتنتظر أصدقاءَ يتنبهون لذلك ويلحّون عليه كي ينشرها.

لم تنقطع صلته بدمشق، وكان مقام الشيخ ابن عربي وجهته الأولى في كل مرة يزورها. ومن الطرائف أنه كان يجلس في مرة عند «الشيخ»، ويقرأ بصوت خافت قصيدة من كتاب ترجمان الأشواق. سأله رجل يجلس بقربه عن الكتاب، فأجابه ببساطة «أنا أقرأ شعراً للشيخ ابن عربي». مفاجأة الرجل الذي يتبع الطريقة الأكبرية، وهي طريقة صوفية منسوبة للشيخ بن عربي، دفعت طاهر رياض ليشرح له أن الشيخ كان شاعراً، وما كان من الرجل، الذي لا يعرف عن ابن عربي إلا كونه ولياً صالحاً، إلا أن يقول مستغفراً ربه «الشيخ يكتب شعراً!».

أما شاعرنا فلم يتمكن من رؤية ابن عربي إلا أحد أكبر مثقفي التاريخ بالمعنى الحقيقي للكلمة، ويعلق حزيناً على مصير هذا الرجل في مخيلة العرب «للأسف إنه مجهول، وكثيرٌ ممن يعرفونه إما يرونه ولياً أو يكفّرونه».

كلما تحدث إلينا عن دمشق، يُبعث الطفل ـ الذي كان يلهو في شوارعها ـ في عينيه وهو يستعيد المدينة «في دمشق بدأت القراءة الجادّة والكتابة الجادّة وعرفت الحب. بدأت أتعرف على الحياة، المشي في الشوارع، وملاحظة وجوه الناس، وصداقاتي الأولى التي حظيت بها كانت في دمشق». من بينهم كان حسن البحيري وهو شاعر فلسطيني عاش في سوريا، فارِقُ السن بينهما لم يشكل حاجزاً، فتعلم منه شاعرنا وهو فتىً كيف يقرأ أمهات الكتب من التراث العربي. ونضج فهمه للتراث الصوفي على يد الناقد الفلسطيني يوسف سامي اليوسف الذي كان يعيش في دمشق أيضاً، وكان ذلك كله قبل إتمامه الثامنة عشرة، لذا يمكن تفهم إحساسه بأن الجامعة لم تقدم له جديداً.

هموم الشعر

كيف يخرج الشعر من دائرة الآني والحادث؟

يختزل تجربته ويجيبنا «ما يمكن قوله بغير الشعر، ليس من هموم الشعر»، وإن أراد الشاعر أن يتناول في شعره فكرة قيلت بغير الشعر، فعليه أن يفصح عمّا تعجز الكلمات المباشرة عن قوله، والشعر، كما يراه طاهر رياض «فنٌ في النهاية، والفن إشاري تلويحي وليس مُلقِناً».

يرفض شاعرنا وصف مستمع الشعر بالمتلقي، ويشرح «الكاتب يَخلق القارئ الذي يَخلُقُه». فكل عمل فني له عدد من التأويلات بعدد من يستقبلونه. هذا الذي يجعل الموسيقى أبهى الفنون في عين طاهر رياض، ومن هنا يرفض أن يكون الشعر بياناً حزبياً أو إعلاناً لموقف لأنه بذلك يخرج من خانة الفن. أما الشعر فهو الذي يحمل تأويلات لا نهائية ودهشة لا تنضب تجعلُ النص حيّاً، وإلا فسيقال الشعر مرة واحدة، يفهمه الجميع ويرونه من زاوية واحدة وينتهي كل شيء.

برغم ذلك، هو مؤمنٌ أننا، كبشر، لن نموت لو لم يكن هنالك شعر، كم من الناس تحيا سعيدة وبيوتها تخلو من مكتبة أو من ديوان شعر! لكننا حتماً لن نرتقي إلا بالفنون، والشعر أحدها. ما غاية الشعر إذن؟ هنا يجيب عن هذا التساؤل بابتسامته الهادئة «غاية الشعر هي ذاتها غاية الفن، فهو يقدم، لمن يحب قراءته، الجمال الكامن خلف سطوح الأشياء، فيحفز المكنون الجمالي الكامن فينا».

ويحق للقارئ أن يسأل شاعرنا الذي لم يكتب شعراً سياسياً أو شعرا للقضية الفلسطينية، ألا يعتقد بقدرة الكلمة في النحت على جدران الوعي، لتوقظ الإحساس فينا؟

في طفولته كتب عن فلسطين، وألقى قصائد حماسية من الشعر العمودي ـ الذي يسميه شعر الشطرتين ـ في المدرسة وفي مهرجان جامعة دمشق، لكنه لم يجد نفسه يُقدم شيئاً لوطنه وقضيته. وهو مؤمن بأن تاريخنا الحديث لم يخلُ من شعراء كتبوا لأجل القضية الفلسطينية قصائد ذات سوية فنية عالية لكنها لم تُحرك ساكناً. فلسطين من وجهة نظره ما عادت بحاجة إلى القصائد، قد تكون بحاجة إلى السرد بغية حفظ روايتنا التاريخية. أما الشعر؛ فبمجرد أن يقدم الشاعر عملاً متقناً ذا قيمة حقيقية وقادرا على الوصول إلى العالم، حينها يخدم قضيته.

نغادر مكتبه الذي استقبلنا فيه، وثمة سؤال عن إقلاله في إصدار دواوين الشعر، فيجيب «إنني رجل يعيش الحياة وفي أوقات الفراغ يكتب». وبالفعل منذ عام ونصف، أي منذ إصدار ديوانه الأخير «سراب الماورد» لم يكتب، لكنه قبل اللقاء بأسبوعين كتب نصين، هما في جارور مكتبه الآن، وهو في انتظار أن يتحرر من سيطرتهما عليه، كي يتمكن من التعامل معهما بقسوة الناقد فقد يتخلص منهما في أحيان، أو يجتزئ بعضاً منهما أو يطوّر عليهما، وكأنّ شعره مقيم في مختبر الموسيقى والمعنى!

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى