في دماغه «بكرة فيلم» لا تتوقف عن الدوران (خليل صويلح)

 

خليل صويلح


كان على محمد ملص أثناء تصوير فيلمه « سلّم إلى دمشق» أن يكتب بالعدسة اللقطة المتخيّلة، فيما كانت اللحظة المعيشة خارج الكادر تفرض نفسها قسراً، على مجريات الشريط، كأن تقع قذيفة بالقرب من موقع التصوير، ما يستدعي إعادة تصوير اللقطة المتخيّلة، لتظهيرها من صوت القذيفة. زيادة الاختناق، والخوف، ورائحة البارود التي التصقت بثياب الممثلين، وجدران الغرف، وملاءات الأسرّة، فرضت عليه استعمال عدسة أخرى لتوثيق هذه اللحظات لشريط آخر مؤجل. وسوف يكتب في يومياته « ما آلت إليه أحوالنا أسوأ بكثير من فرصة التوقع أو الرهان. فقد مادت الأرض من تحتنا وتحولنا من شعب إلى كومة حطب ليس لها من دور سوى أن تموت قتلاً، أو صلباً أو كمداً، أو أن تفر، أو تهاجر. نحن نطارد يومياً من قبل الموت والخطف والسلب أو من الصدفة العمياء. وبين النفس والآخر؛ وبين الحائط والباب، نتابع مشاهد حياتنا ومصائرنا في كادرات سينمائية ومشاهد متقنة ومصنوعة بأحدث الطرق من دون أن ندري، هل نحن خارج الشاشة أم داخلها؟». ولكن هل غادر محمد ملص يوماً، إلى خارج الشاشة؟ لطالما كانت عيناه عدسة مكبّرة لتخزين مشاهد مؤجلة لمشاريع مقبلة قد لا تتحقق أبداً، فهو من ابتكر فكرة «السينما الموءودة»، في إشارة إلى مشاريعه المتراكمة في الأدراج. في «سينما الدنيا» السيناريو الذي كتبه عن فترة غيبوبته، إثر حادثة سيارة أثناء تصوير فيلمه «الليل» حاول أن يصفّي حسابه مع السينما، باستعادة مخزونه من أفلام الآخرين، فوجّه تحية حارة إلى فيلم «المخدوعون» للراحل توفيق صالح، أحد أبهى الأفلام العربية، وإلى كيروساوا الياباني، وبازوليني الإيطالي، وآيزنشتاين الروسي، وآخرين. كان يريد أن يذكّرنا بصرخة غسان كنفاني «لماذا لم تدقوا جدران الخزّان» بإحالاتها المتجدّدة، فخزّان السوريين بحاجة لمن يدق على جدرانه أيضاً، لا الفلسطينيين فقط، إذ كانت حرب «عاصفة الصحراء» التي دكت بغداد، على مرمى قذيفة من دمشق. في السيناريو نفسه، السيناريو المؤجل، بمنع تصويره رقابياً، بلغ محمد ملص سينماه المشتهاة حقاً لجهة المكاشفة والشجاعة ومواجهة الذات وأسئلة الموت والعشق والسينما، وكأنه مكتوب على السينمائي السوري ألا يتجاوز عتبات التسلية المرحة، وإلا فسيقع في الحفرة حيّاً. في مطلع شبابه درس محمد ملص الفلسفة، ثمّ غادرها في بعثة سينمائية إلى موسكو، وجذبه خلال البعثة مغناطيس الرواية، بتأثير من زميله حينذاك صنع الله إبراهيم، فكتب «إعلانات عن مدينة كانت تعيش قبل الحرب»، وأخيراً جمع كل هذه الرغبات في كيمياء واحدة هي السينما، سينما الحلم، والزمن المفقود، والسيرة، إذ يصعب أن نزيح الحلم أو الذات من نسيج أفلامه. هكذا مزج الحلم بالذاكرة، ولفرط قسوة الذاكرة عليه، اخترع ما أسماه «الذاكرة المشتهاة»، أن تبني عالماً تخيّلياً من رماد طفولة بائسة، ورماد أب غاب باكراً، ورماد مدينة، لم تعد قائمة، أقصد القنيطرة التي أحياها من الرماد في أكثر من شريط. في الشريط التسجيلي الذي حقّقه الفرنسي لوران بيار عن سينما محمد ملص (2008)، ينتقل السينمائي السوري إلى مقبرة مدينة القنيطرة، برفقة ولديه عمر ونوّار، يتوقف أمام قبر بسيط من دون شاهدة، بجوار شجرة بطم: إنّها العلامة الوحيدة على صاحب القبر… والد محمد ملص. المشهد استثناه من فيلم «الليل»، وترك السؤال معلّقاً، في الحوار بين الابن والأم، حين يسألها «أليس لأبي قبر؟»، فتجيبه: «اذهب وابحث عنه»، وينتهي المشهد في فيلم لوران بيار، بلقطة يظهر فيها محمد وهو يقرأ الفاتحة على روح والده، في مسحة صوفيّة أخّاذة، تُذكّر بروحانية أفلام تاركوفسكي. سينما تعتمل بالفقدان والخسارة واللحظات الوجدانية المؤثرة لترميم المشهد بصورة مغايرة ومشتهاة، انتقاماً من همجيّة محو الذاكرة. بعد نحو أربعين عاماً من السينما، لا نعلم تماماً، هل تحوّل دماغ محمد ملص إلى «بكرة فيلم» لا تتوقف عن الدوران؟ فهو في كل أحاديثه وسجالاته وتأملاته غارق في ضجيج تلك البكرة الضخمة، يولف مما يدور في محيطه، أفلاماً قيد الكتابة، أو مشاهد تحتاج إلى تركيب، وقد ينسفها خلال التصوير بارتجالات تفرضها اللحظة المعيوشة، فالنص الذي كان مقدّساً قبل التصوير، لم يعد كذلك بالنسبة لعين المخرج، وما كان مقدّساً خلال التصوير، سوف يفقد قداسته أمام جهاز المونيتور، لعلها مأساة «سينما المؤلف» تلك التي أسس لها ملص سورياً، منذ فيلمه الروائي الأول «أحلام المدينة» (1983) الذي بات اليوم، واحداً من أفضل عشرة أفلام في تاريخ السينما العربية، وفقاً لاستطلاعات أكاديمية رصينة.
ينبغي أيضاً ألا ننسى الجانب الآخر من شخصيته الفكرية، ذلك الذي نجده في كتابة مفكرات أفلامه، وقدرته العالية على صوغ التفاصيل، في يوميات تحتشد بوقائع لافتة، قد يهملها آخرون ببساطة، لكنها ستبقى بالنسبة إليه «سينما الظل» تلك التي لم تبصر النور، أو إثم الذاكرة بتدوينها، مرّة إثر مرّة، خشية فقدانها، فهذا الرجل لديه وطن واحد مقدّس هو السينما.
إذا توقّف محمد ملص عن صناعة الأفلام، أو الكتابة، لسببٍ ما، فلديه صنعة نادرة، هي التأمل، والغرق في زمن الهوينى، ذلك الذي كتب عنه ميلان كونديرا في روايته «البطء»، ولن نهمل مفردة أخرى لا تقل شأناً، هي الإصغاء إلى الآخرين بعمقٍ نادر، وكأنه يمتصّ كل ما يدور في فلكه بشغف ورحابة وحب، ربما لإعادة تقليب تربته، وحراثته على نحوٍ آخر، في مراياه الشخصية المتعدّدة.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى