محمود وسميح … و «الريش المنتوف»

لم يكن يروق للشاعر محمود درويش أن يتحدث عن «البرتقالة» الفلسطينية التي راج الكلام عنها كثيراً وعن شطريها المتمثلين، الأول به والثاني بالشاعر سميح القاسم. وكانت هذه «البرتقالة» تعني أن الشاعرين ثنائي واحد، قائم على حضورهما معاً. وغداة رحيل القاسم استُعيد الكلام بوفرة عن هذه «البرتقالة» التي فقدت شطرها الثاني. وكان القاسم نفسه تحدث عن سقوط أحد شطري «البرتقالة» عند رحيل محمود درويش، ملمحاً إلى انه الشطرالذي بقي «يتيماً».

كان صاحب «جدارية» يتحاشى الكلام في حواراته الصحافية، قدر ما أمكنه، عن العلاقة «الملتبسة» بينه وبين سميح وما اعتراها من تناقض واضطراب وانقطاع، وكان أيضاً يتردد في إبداء رأي في شعرية القاسم، مكتفياً ببضع كلمات إطراء. كان محمود يود أن يُدرج القاسم في خانة الذكريات والماضي المشترك الذي عاشاه معاً في فلسطين المحتلة، وهو ماض نضالي، جميل وأليم، حزين وحماسي، فهو كان يدرك أن القاسم ما برح يعيش شعرياً في فضاء هذا الماضي، بعدما حاصر نفسه، قبل أن يحاصره الآخرون، في هالته، وفي تخوم الكناية أو المجاز بصفته «شاعر فلسطين المحتلة» و «شاعر القضية» و «شاعرالمقاومة» و «شاعر الفداء والفدائيين» و «شاعر الغضب» و «شاعر الانتفاضة» و «الشاعر الصامد» و «قيثارة فلسطين»… كان محمود يشعر أن القاسم أمسى وراءه، مثلما أمسى ماضيه هو وراءه أيضاً، بعدما أسبغ عليه مواصفات الحاضر وعاود إحياءه ليصبح ضوء المستقبل، الممكن والمستحيل في آن. وكان محمود خرج من حصار القضية إلى سمائها الشاسعة، جاعلاً منها تراجيديا الفرد والجماعة، ومرتقياً بها إلى مرتبة الإبداع الشعري الذي يوازي إبداع المآسي الكبرى في التاريخ.

عندما اتفق محمود وسميح على تبادل الرسائل خلال العامين 1986 و1987، اعترف محمود في رسالته الأولى بأنّ الرسائل هذه ستُكتب «غبّ الطلب» كما يقال، مستبقاً أي نقد قد يوجه إليها وإلى الكتاب الذي جمعها لاحقاً بعد نشرها على صفحات مجلة «اليوم السابع»، واسمه «كتاب الرسائل» (دار العودة). وكتب في الرسالة الأولى يقول: «نصمّم الكتاب ونضع له الرسائل»، ثم تحدث عن «اللعبة المكشوفة» قائلاً لشريكه فيها: «انتبه جيداً، لن نستطيع قول ما لا يقال»، مطالباً نفسه وزميله بـ «إجراء تعديل ما على طبيعة أدب الرسائل»، وأجابه سميح قائلاً: «إذن، هكذا نكف قليلاً عن عبث الغربة ونخترع لأنفسنا لقاء ما». كتب محمود رسائله من باريس التي كانت واحداً من «لاأمكنته»، وسميح من فلسطين المحتلة. وبدت هذه المراسلة «المدبّرة» والتي تنوعت بين الشخصي والقضية الفلسطينية، بين الهموم الكبيرة والصغيرة… وبدا كلاهما كأنهما يتراسلان ليقرأهما الآخرون أكثر مما ليقرأ واحدهما الآخر. غير أن من يتأمل في طبيعة هذه المراسلة يلمس أن الشاعرين ولا سيما محمود، سعيا من خلالها الى طيّ صفحة العلاقة الملتبسة التي طالما شغلت حيزاً من همومهما. حتى سميح نفسه عبّر عن هذه الغاية مداورة عندما تحدث في إحدى الرسائل عن «الصورة النمطية التي أعدتها لنا المخيلة العامة». حاول الشاعران كسر هذه «الصورة»، بعدما شعر كل منهما أنهما أصبحا مختلفين واحدهما عن الآخر، وشبه غريبين واحدهما عن الآخر، على رغم جمع القضية بينهما. كان سميح يشعر أن عليه أن يستأثر بصفة «شاعر الأرض الفلسطينية» والكنايات التي فاضت عنها، بينما كان محمود يشعر أن الوقت حان ليصبح الشاعر الذي يطمح أن يكونه بعدما أدرك أنه ابتعد بقضيته وتجاوز بها حدود السياسة والوطنية الضيقة والنضال إلى أفق شعري إنساني ووجودي وكوني، ولكن من غير أن يتخلى لحظة عن جذوره الضاربة في الذات الفردية والجماعية.

عندما قرر محمود الرحيل عن فلسطين الى المنفى أو «اللامكان» كما يقول، عام 1971، بحثاً عن فضاء فلسطين الحرة، رافضاً البقاء في أسر الاحتلال واقتناء وثيقة إسرائيلية عوض هويته الفلسطينية، حمل عليه شعراء الداخل، وفي مقدمهم سميح القاسم، الذي هجاه بقسوة وخوّنه وشكك بوطنيته. واضطر محمود إلى أن يرد عليه بقسوة أيضاً، مذكراً إياه أنه جندي في جيش الاحتلال، ومهنئاً إياه بخدمة العسكر الإسرائيلي. ومعروف أن القاسم أدى خدمته الإلزامية في الجيش الإسرائيلي رغماً عنه تبعاً لانتمائه إلى الطائفة الدرزية التي تشملها هذه الخدمة، على خلاف المسلمين والمسيحيين.

أما أطرف ما كتب محمود عن شعر سميح، وهو نادراً ما تحدث عن شعره، فحملته رسالة وجهها محمود الى رفيق دربه وصديقه «اللدود» يهنئه بميلاده الستين عام 1999. وإن لم يمدحه محمود في هذه الرسالة، فهو لم يبخل عليه ببعض الإطراء. لكنه شاء أن يذكّره بأنّ اسميهما اللذين اختلطا «عندما كنا صغيرين»، إنما اختلطا في «عفوية الأخطاء الشائعة». ومما قال له: «أراك يا سميح أقرب الى صورة الشاعر الفارس، لغة وهبوباً وشبق حياة»، ويضيف:» لقد صدّقت، يا سميح، أن في وسع الشعر ولو كان وحيداً، أن يحارب على جميع الجبهات، لذا بقيت أكثرنا فتوة، فتى في الستين». لكنه تحدث في الرسالة أيضا عن «عجز الجرح عن كسر السكين» وعن «عجز الإيقاع عن إسقاط طائرة»، وكأنه يقول إن الفروسية في مثل هذه الحال قد تكون دونكيشوتية، بل كأنه يعلن أن لا بد للشعر الفلسطيني من أن يخرج من طور الفتوة والنضال الخطابي والحماسة المجانية. ولعله أكد الانفصال الذي حل بينهما في ختام الرسالة عندما قال: «على ماذا نتنافس الآن وأنت تناديني إلى الستين عما قليل؟ وماذا تصنع الديكة في مثل هذا العمر غير أن تتذكر ريشها المنتوف؟».

صحيفة الحياة اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى