فن و ثقافة

موسيقار الهزائم النبيلة

فشل محمد خان في أن يحقق حلمه كمهندس معماري، لكنه نجح في أن يصبح موسيقار ! ليس هناك خطأ معلوماتي عن المخرج السينمائي الراحل، الذي انكسرت ساقه، فانفطر قلبه وسالت دموع رئتيه، لتصل به إلى المحطة الأخيرة التي ظلّ يفكر فيها بلا انقطاع طيلة 74 عاماً… إلى الموت.

ذات مرة سألت خان عن «مشروعه السينمائي»، فتحوّل النقاش إلى أزمة عاصفة انتهت بخصام استمرّ سنوات، كان خان يكره حتى الحساسية كلمة «المشروع» ويتخوّف من الحديث عن المضمون، وينفعل وهو يقول بعناد طفولي: «ليس عندي مشروع، والسينما ليست مضامين.. السينما قطعة عفوية من الحياة، أقتلها بمنتهى الخسة لو حبستها في قفص التخطيط والتحنيط».

في مرة ثانية كتبت مقالاً عن المقاربة بين نهايات أفلام خان ونهايات مسرحيات ألبير كامو، ورصدت حالة الضياع والانكسارت التي تسيطر على شخصيات خان، وتأملت اختياره اسم «فارس» في متوالية فيليمة لا تخضع لترتيب زمني، وأخبرني خان بعدها بسنوات أن هذا المقال كان مفاجئاً له حتى الدهشة، فهو لم يفكر في ذلك كله، لكنه شعر أنه صحيح تماماً، وفسّر لي أنه يعمل بحالة من العفوية والتلقائية مخلصاً للتدفق النفسي والشعوري الذي يختزنه تجاه أبطاله، برغم أنه لم يكتبهم، لكن اهتمامه بالإنسان الفرد جعله يتجاوز فكرة السيناريو الذي يكتبه غيره عادياً، بل ينظر إليه باعتباره «قدراً»، ما عليه إلا أن يتعامل معه من خلال الشخصية الإنسانية (الممثل)، لذلك يهتم كثيرا بإدارة الممثل، ويحاول أن يجعل العناصر كلها في خدمة انفعالاته وتعبيراته، لذلك فإن الدراما عنـــده، كما عند مثــله الأعلى أنطونيوني لا تنطلق من «الحدوتة» ولا من الحبكة القصصية، لكنها تنطلق من الشخصيات.

ولماذا يغلب على هذه الشخصيات الحزن والانكسار وتحاصرها الهزيمة والموت؟ سألته، فقال: لأن الشخصيات التي أراها في الحياة دائماً مقهورة.. مطاردة.. مأزومة.. تعاني، لكنها أيضاً تقاوم.. تحبّ.. تأكل بنهم وتلذّذ..

فلاش باك

عندما سافر خان إلى لندن مع والده، انتظم بعض الوقت في دراسة الهندسة المعمارية، وكررت عليه سؤالاً افتراضياً: هل تخيلت علاقتك بالتخطيط وعقلية «الاسكتش» لو أتممت دراستك كمهندس؟.. كان يرفع حاجبية ويهم بالحديث، ثم يبتسم فجأة، ويرد بلهجة طفولية نزقة: مش عارف.. أكيد كنت هكون مهندس البنايات البديعة جداً، لكنها كانت ستسقط على رؤوس مَن يسكنها!

كان خان يتصور أن إجابته مجرد مزحة، لكنني كنت أعتبرها إجابة جمالية صادقة تعبر عن رؤيته للسينما (لم استخدم اصطلاح «مشروعه السينمائي» احتراماً لصاحب «الرغبة»)، وتشكل امتداداً لتأثره الدفين بالمخرج الإيطالي مايكل انجلو أنطونيوني، وبأجواء الموجات الأوروبية في الأدب والسينما، فهناك لمسات واضحة من جودار وفيلليني، بحيث يمكن القول إنه (مع جيل الواقعية الجديدة في الثمانينيات) صنعوا مزيجاً مصرياً من الواقعية الجديدة في إيطاليا، وموجة السينما الجديدة في فرنسا، حيث الانفتاح على الشارع، وكسر النمط الهوليودي التقليدي للشخصيات، والتوسّع في تبنّي نموذج «البطل المضاد» الذي يخاصم التراجيديات الإغريقية القديمة بأبطالها الملحميين، ويقدّم شخصيات ضائعة ومهزومة من المهمّشين (المصوّر الصحافي في «ضربة شمس»، سائق الأجرة في «طائر على الطريق»، صانع الأحذية ولاعب الكرة الشراب في الحريف، تاجر العملة والخادمة وبائعة الخضروات في «أحلام هند وكاميليا»… إلخ) كأنه يحارب أبطال الإلياذة بجيش من المهمّشين المنكسرين الحزانى، دون المرور بعصر دون كيخوته.

الموسيقار
لكن هل كان خان موسيقاراً حقاً؟

نعم.. باستثناء بوستر تمثال الحرية في فيلم «سوبر ماركت» لم يهتمّ محمد خان بالنحت اهتمام أستاذه أنطونيوني به، ولم يتطرّف في إعدام السرد التقليدي كما فعل جان لوك غودار، لكنه أظهر اهتماماً فائقاً ومميزاً بشريط الصوت، بل يمكن اعتباره رائد تحرير السينما من النمط التعبيري التقليدي للموسيقى التصويرية، حيث عزف خان موسيقاه بأصوات الشارع الطبيعية خاصة في المدن.. الأصوات المنبعثة من الراديو، ونفير السيارات، وزمجرة الشجارات العالية في الأحياء الشعبية، وضجيج الورش، والمقاهي…

لم يحرص على تنقية الأصوات أو اختزالها بل كان يبذل مجهوداً كبيراً في تنسيق التداخل المزعج بين هذه الأصوات وإعطاء التشويش حقه في التأثير على الوضوح دون أن يتنازل عن الشحنة التعبيرية لشريط الصوت، حتى أن الخلاصة التعبيرية في نهايات عدد من أفلامه تتضاءل كثيراً إذا حذفنا المؤثرات الصوتية التي ابتعدها خان، ففي نهاية الخريف يبدو صوت «لهاث فارس»، مركزاً للتعبير عن الرحلة المُضنية لبطل ضائع في «مرحلة انتقالية»، فالشاب المتمرّد على عيشته لا بد أن يغادر هواية كرة الشوارع بمباراة أخيرة لإثبات الوجود أمام «حريف صاعد» ومهنة منقرضة، وعندما ينجح في تسديد هدف الفوز بعد الهزيمة يجري نحوه ابنه ويسأله: مش حتلعب تاني يابا صحيح؟ فيجيب من وسط صوت اللهاث المرتفع بتعبيرية تتجاوز الواقع: خــــلاص يا بكر.. زمن اللعب راح»، وتظلم الشاشة لكن اللهاث يتواصل حتى تظهر كلمة النهاية.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى