كتاب الموقعكلمة في الزحام

نبتت في القلب لحية….

نبتت في القلب لحية…. تأمّلوا جيّداً في(قلنسوّة) التخرّج الجامعي السوداء، ذات السقف المربّع المسطّح والمحلّى بالشناشيب  وهي تعتلي رأس الطالب المبتسم للمجهول بثوبه الأسود، ماسكاً بشهادته الجامعيّة المختومة بشريط حريريّ ………. ألا تشبه طبقاً فخريّاً وفارغاً من تلك التي سوف تمتلئ يوماً بأكواب الأمل الزلال أو اليأس الزعاف ..؟ ألا تشبه بساط الريح الخرافي وهو على أهبة التحليق فوق المدن الفاضلة وممالك الحلم والقصور المسحورة بعيداً عن أكواخ القصدير وأزقّة البؤس والوحل.

أي غموض يلفّه هذا الثوب الأسود والذي ربما تناوب على ارتدائه أكثر من جسد طريّ وانبهرت به أكثر من عيون دامعة ونظرات بارقة ومثبّتة إلى سقف السماء.

أيّ رسالة تحملها تلك اللفافة الورقيّة الأنيقة وأيّ بشرى سوف يفصح عنها ذاك الشريط الحريريّ الأنيق الذي يليق بمقامات الملوك ودواوين القياصرة ؟

لم تسمّ بـ(جامعة ) إلاّ لجمعها بين أصناف الأعراق والطبقات والعلوم والآداب والرؤى والأذواق في نخبة واحدة ينظر إليها المجتمع بعرفان وتبجيل وتتباهى بها الأمم في المحافل الدوليّة حيث لا ينفع صنيع إلاّ من أتى البشريّة بأوسع العلوم وأنبل الثقافات وأجمل الفنون.

لم يسمّ هذا الطقس بـ(حفل تخرّج) إلاّ لخروجه بطلّابه من عسر الامتحان وسراديب البحث وليالي السهر نحو فجر تلوح بشائره وتعد بشموس الحصاد بعد أيام الزرع والغرس في الأيام القاسية…… ولكن……

كثيراً ما صعقتنا تلك(القلنسوات السوداء) بالكشف عن عقول أكثر سواداً منها كانت تختبئ تحتها، أشاحت تلك الأثواب الحالكة عن شخوص – مثل الغيلان – تدمّر الحرث والزرع والغرس … وتزرع الرعب والفتنة في النفوس.

فضّت الأشرطة الحريريّة الأنيقة رسائل حقد وتدمير وأزاحت الابتسامات الوديعة الستار أمام الكاميرات فكشفت عن أنياب لا تخفي رغبتها في نهش الأيادي التي امتدّت لها وتقطيع أوصال المجتمع الذي راهن على نصاعتها.

نعم، لقد ربّينا الذئاب مع حملاننا والأفاعي مع فراخنا وسقينا الطفيليات مع غرسنا فحصدنا مواسم القحط وجنينا أشواك التفرقة والبغضاء في جامعات بنيناها من دم فقرائنا وحليب أطفالنا وعلى حساب راحة أمهاتنا.

يجب أن نعترف بأنّ الكثير من خياراتنا كانت خاطئة لألف سبب وسبب، أبرزها أنّ تلك المناهج التي كنّا نظنّها حصينة ومحصّنة قد انقلبت علينا بفعل المحسوبيات التي نخرت حيطان الجامعة …. والتي من المفترض أن تكون الخرسانة الأقوى في مجتمع تنهشه الأميّة الثقافيّة .

انظروا إلى نسب التطرّف والتعصّب الديني في الأوساط الجامعيّة ذات التوجّه (العلمي) وقارنوها بكليات الفنون والآداب والعلوم الانسانيّة فسيتبيّن الخلل واضحاً كالشمس ….. لقد حشونا العقول علوماً بعد أن غفلنا عن حاجتها الأدبيّة وفسحتها الفنيّة التي تجعل الفرد ينظر إلى الله كنبع محبّة وذات مبدعة لهذا الكون وليس كتلك التي في عقول المتجهّمين والحانقين وأعداء الجمال.

كتبت هذه السطور حين التقت نظراتي برفاق المدرسة الابتدائيّة والإعداديّة بالأمس قبل أن يمضي كلّ منّا إلى “غايته” في الفرع العلمي أو الأدبي – وفي صورة بالأبيض والأسود -….. كان الاكتشاف مفزعاً ومتأخّراً:

هؤلاء الأطفال من ذوي الوجوه الناعمة سابقاً، ومن المشهود لهم بالتفوّق في مادة الرياضيات صرت أشاهدهم ملتحين ومحجّبات الآن ….أو في بزّات عسكريّة أو رسميّة في حكومة النهضة التونسية ….أمّا أنا وباقي هؤلاء الفاشلين في العلوم والمشاغبين في درس الرياضيات فمازلنا نلتقي في قاعات المسرح والسينما ومعارض الكتب … والأماكن المخصّصة لغير المشروبات “البريئة”.

06.10.2013

بوابة الشرق الاوسط الجديدة 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى