«نبتدي منين الحكاية»: الهروب من الحرب الى الحب

رغم غلبة التنظير والخطابية على المشهد الدرامي في المسلسل السوري «نبتدي منين الحكاية» (عرض في رمضان الماضي) الذي حمل عنوان أغنية مطرب الشباب الراحل عبد الحليم حافظ، يُسجّل للمتألقين سلافة معمار وغسان مسعود منحهما العمل طاقة ايجابية من خلال قصة حب متقطعة جمعتهما واستمرت الى عمر متقدم، ما يمنح الشباب املاً في امكانية تحمل وتجاوز المصاعب من خلال هذه العاطفة النابعة من غريزة البقاء. ولعل في تشبيه بشير (غسان مسعود) حبيبته ليال (سلافة معمار) بالبلد اسقاط مباشر (بلدك حتى لو زعلتك مش ممكن تتركها او تتخلى عنها) وهذا يذكرنا بأعمال درامية من الموسم الماضي التي ركزت في طروحاتها على حاجة السوريين الى الحب في ظل مآسي الحرب ومن بينها «بانتظار الياسمين».

غاص «نبتدي منين الحكاية» في عمق العلاقات الانسانية والاجتماعية من خلال مفهوم الحب، وفي الظل حرب ضروس يعيشها المجتمع السوري منذ اواسط العام 2011. المنحى الدرامي لا ينقل واقع المأساة، بقدر ما يعكس حجم التغييرات الاجتماعية والثقافية التي افرزتها حركة الواقع السياسي المتمثلة في علاقة الخاص بالعام والذاتي بالموضوعي.

قد يكون التيار الدرامي القائل بأنه ليس مطلوباً نقل الجبهة أو الحرب واستنساخ الاخبار في الدراما محقاً، بحيث تتنبه الدراما لتداعيات الحرب على مستويات أخرى غير الجبهة العسكرية، وتتنبه لفعل المواجهة والتحدي والدفاع عن الوجود التي يبديها المواطن في ظل الحرب، حيث الدولة والبلد ساحة للحرب الجديدة التي تستهدف البنى الدولتية كافة والكتلة السكانية في الوقت نفسه. هنا تنتقل الدراما الى مستوى اعلى يتمثل في طرح قيم تغييرية ونقدية جديدة، تحث المجتمع على اعادة النظر وإعمال الفكر في مواجهة قيم اثبتت عقمها وفراغها من أي منحى تقدمي وبنّاء يخدم المجتمع.

بعيداً عن السياسة، عكست دراما الحب هذه، التغييرات التي تُصيب المجتمع السوري في افراده، الذين اصبحوا مُستخدمين ناشطين لوسائل التواصل الاجتماعي، يتلفظون بكلمات اجنبية اثناء تخاطبهم. أما المتغير الأهم، فهو حضور المرأة بشكل ملفت في هذا العمل، انعكاساً لحضورها في الشارع والمقهى والعمل والجامعة، هي امرأة عصرية، عاملة، متعلمة، مستقلة، متمردة على العادات والتقاليد، فاعلة ومؤثرة وصاحبة رأي وهي عصرية في مظهرها الخارجي من خلال ملابسها «الفاشن» وتسريحتها ولون شعرها وتبرجها «الستايلش». انها صورة المرأة السورية اليوم، التي لم نعرفها من قبل. هي تبدلات كبيرة طرأت على المشهد المديني الدمشقي. يبدو ان النساء في «نبتدي منين الحكاية» خرجن من «باب الحارة» الى ابواب الحارات.

ومن المظاهر الجديدة التي اضاء عليها العمل هو العنصر الشبابي المتفاعل مع المثقف المخضرم، بما يمثل من رمزية للمستقبل، إضافة الى مشهد الاختلاط بين الجنسين في المقاهي والمطاعم الذي كان غير شائع سابقاً في الحياة اليومية الشامية، حيث تعمّد المُخرج اظهار وتكرار مشهد المقهى كمشهد مديني بامتياز في مدينة عتيقة كدمشق، عرفت المدنية منذ عصور مديدة.

لقد اثبت هذا العمل قدرة الدراما على التعبير عن مصالح المجتمع وطموحات اهله ورغبته في الحياة رغم الآلام، وعن نزوعه نحو التوازن في ظل الارتجاج الذي احدثته اسلحة الحرب، من خلال الحديث عن التوازن في الشخصية: عدم تبديل البلاد بمكان آخر كما فعل الآخرون ممن بقوا أي الوفاء للبلد (365 يوماً).

في هذا العمل، رأينا منحى جديداً في الدراما السورية، غير متورط في السياسة بشكل مباشر، تمثّل في طرح اشكاليات الماضي القريب وانعكاساته على سوريا، ومنها احداث ايلول وحرب العراق الثانية واغتيال الرئيس الحريري. كما ناقش مفاهيم راهنة: ازدواجية المعايير وهي تهمة دول الممانعة لمجلس الامن في التعامل مع قضايا المنطقة، ومفهوم اشعال الفتنة أو اداة الفتنة، ومفهوم الشيطان كشماعة، كما نظّر لأفكار تستدعي التأمل: «الرجولة ليست صراخاً وتعنيفاً بل رعاية»، «لا يمكن حل مشكلة اليوم بعقلية الامس»، «التفوه بكلام تقدمي لا يعني اننا تقدميون، المطلوب هو الفعل ( في موضوع الزواج بين الاديان)»، «التخلص من الفاسدين يتطلب ارادة»، «لا نفقد ايماننا بالبلد اذا وجدنا (موظف فاسد هون او هون)»، «كل تجربة حتى لو كانت فاشلة تُعلّم». ومن اللافت ايضاً الحضور الاجتماعي المسيحي الى جانب المسلم في علاقة طبيعية (عِشرة عمر) عرفها المجتمع السوري.

ولعل اكثر المشاهد التي استوقفتني كانت محاولة الام اقناع ابنها بمسامحة اخته التي تزوجت خطيفة من شاب مغاير لدينها وفشلت في زواجها، طالبة العودة الى اهلها. تخاطب الام ابنها الاصغر قائلة: «غداً ماذا تقول لاولادك انك قتلت عمتهم ام سامحتها. أي شخصية يفضل اولادك لك وهم سيأتون في عصر مختلف وانت الاصغر الذي يفهم بعقلية هذا العصر يجب أن تسامحها؟». ويوجه العمل نقداً الى العائلات الميسورة في دمشق المحافظة والرجعية «التي تضحك على من يقرأ» أي المثقف والتي تعتبر «من يسمع الموسيقى اهبل».

هي الحياة اليومية رغم الحرب، تأخذنا الصورة في ايحاء تعظيمي الى دمشق الممتدة جغرافياً، في الصباح الذي يبتدي من شوارعها الضاجة بوسائل النقل وبالمتوجهين الى عملهم، الى الحميدية والجامع الاموي وعجقة المارة وفيروز تصدح في السيارات والمنازل كأنها لازمة ابدية في حياة اهل الشام والياسمين في زوايا الشوارع، والعلم السوري يرفرف كما الحمائم المستريحة فوق زخات المطر. إنّها سوريا الباقية رغم تمدد «داعش» ورغم الانقسام ورغم التهويل ورغم هجرة الكثيرين. وفي المساء جلسة رومنسية في مقهى شامي مميز وقرقعة كؤؤس النبيذ وأنغام اغنية اميركية تقول «لدي حلم» (I Have a dream).

استطاع «نبتدي منين الحكاية» أن يأخذنا في رحلة حب وفي رحلة تأمل وتفكير من خلال الطروحات المكثفة التي لم توفر قضية اجتماعية الا وطرحتها: الفساد، الاجهاض، الزواج المختلط والمطالبة بقوانين تحمي هذا الزواج اي المدني، النظرة الى المرأة المطلقة والمرأة المستقلة، الشرطي النزيه (ما عندو كبير بالقانون) ابن سائق التاكسي الذي قال له والده: اذا امثالك انسحبوا ستخرب اكتر ما هي خربانة. المقاومة (اكتشاف مصير الاخ الشيوعي الذي مضى 35 عاماً على غيابه: استشهد في جنوب لبنان ضد العدو الاسرائيلي) في تلميح واضح الى انخراط السوريين الوطنيين في الدفاع عن القضية الفلسطينية من الاراضي اللبنانية، الاعلام ودور برامج الحوار. لكن اعتماد المخرج على تقنية «الفلاش باك» يعزّز الاعتقاد بضيق امكانية الحركة والتصوير، فيكثر الكلام تعويضاً عن «الاكشن» القليل، اذا جاز التعبير، وما تكرار نفس المشاهد كلما اراد المخرج أن يذكّرنا أن سوريا لا تزال تنبض في شوارعها واماكنها، الا تأكيد على الامر.

«يييه انقطعت الكهربا»، سمعناها مراراً وتكراراً في كل حلقة، لكن حياتهم استمرت في حلوها ومرها واستمرت فيروز تغني «احكيلي احكيلي عن بلدي حكيلي …. ساعات الفرح القليلة، احكيلي». انه الحب هذا الترياق الذي يشفي ويبني ويخلق رغبة جديدة في الحياة ويخلق فرصة حكاية جديدة مطلعها الغد.

بأرض الشام قصة غرام غنينا (من كلمات الشارة)، وصفة شفاء للروح والفكر والقلب من كل تخلف ومرض وفساد ونكوص وضياع رِجل هون ورِجل هونيك). هو تحد للحرب ولانقلاباتها او لتحولاتها اذا ما كانت كلمة انقلاب ما زالت تخيف البعض من السوريين.

«نبتدي منين الحكاية» دراما الحاضر في تصوراته عن المستقبل، هذا المستقبل الذي رسمه لنا ثنائي قدير (غسان مسعود وسلافة معمار) حرصاً على التماسك وجهِداً في التناغم حتى آخر حلقة من الدراما الرمضانية لهذا الموسم.

صحيفة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى