نوافذ للحوار| سعود السنعوسي: لم نستورد الطائفية … والسموم غالباً ما نرثها

حين فاز الكاتب الكويتي الشاب سعود السنعوسي بجائزة البوكر العربية عن روايته «ساق البامبو»، وهو أصغر كاتب يفوز بالجائزة منذ تأسيسها، اعتقد كثيرون أنّ هذه المفاجأة قد لا تكون أكثر من ضربة حظّ، لتتحوّل الجائزة من ثمّ إلى عبء أو الأصحّ مسؤولية تحتّم عليه إخراج أفضل ما لديه إلى قارئ بات يترقّب كتاباته حتى قبل أن يؤسس لنفسه كينونة أدبية. وبعد نحو عامين، عاد السنعوسي برواية جديدة نقلته إلى صفوف الكتّاب المحترفين. عن «فئران أمي حصة» التي أنذرت باقتراب نار الفتنة الطائفية من الكويت، وعن الحرب التي ينتمي زمنياً إليها بينما يحاول التطهر منها عبر الكتابة، وموقفه من الظروف الراهنة وغيرها من القضايا يتحدّث السنعوسي في هذا الحوار، معلناً للمرة الأولى عن موقفه إزاء قرار منع الرواية في وطنه، الكويت.

> فلنبدأ من الختام، حذّرت في روايتك «فئران أمي حصة» من مرض الطائفية بمجازية دالّة لمقولة مأخوذة من أحد المسلسلات الكويتية القديمة «الفئران آتية… احموا الناس من الطاعون». هل تعتقد أنّ مأساة تفجير المسجد في الكويت هي بداية تحقق تنبؤك الروائي؟

– دعينا نتجنَّب كلمة تنبؤ في البدء، فالرواية جاءت، وإن في وقت متأخر، بمنزلة تحذير من مصير قد ننجرف نحوه، لا تنبؤ كما فسَّره بعضهم. ما جاء في الرواية من تفجير حسينيات ومساجد حدث، والصورة تكاد تكون واضحة حول المستقبل القريب الذي ينتظرنا. كل المؤشرات تكاد تنطق بأننا لسنا بمعزلٍ عن دول الجوار وما يعصف بها من أحداث، خصوصاً في ظل العمى الجمعي الذي يقودنا نحو التطرف من دون وعي لسلوكنا وأنماط تفكيرنا. أنا مجرد كاتب، يقرأ الأحداث ويتصور ما قد تفضي إليه مستقبلاً، أنا لستُ بصَّاراً ولا أضرب الودع، حتى الإنسان البسيط، إنسان الشارع، يوقن بأننا نمضي نحو الأسوأ بتخاذلٍ وتواطؤ منا، وباتفاق علينا.

> كتبت «فئران أمي حصة» كمن يدقّ ناقوساً يُنذر ببدء اقتراب حرب مذهبية شعواء، غير أنك تركت فسحة أمل في النجاة من هذا المرض اللعين. هل ترى أنّ الفرصة ما زالت سانحة للتغلّب على واقع مغرق في سوداويته كما هي الحال اليوم؟

– اليأس ترف كما يقال، ولا خيار لدينا إلا التفاؤل. خذي مثلاً ما تمخَّض عنه تفجير مسجد الإمام الصادق في الكويت قبل أسابيع. ضرب الشعب مثلاً قلَّما نشهده في دول المنطقة من تلاحم بين أتباع الطائفتين، بدءاً بزيارة رأس السلطة المسجدَ بعيد الحادثة وإعلان الحداد الرسمي، مروراً بصلاة السنّة في مساجد الشيعة في اليوم ذاته، وصولاً إلى استقبال المعزّين في مسجد الدولة الكبير. هذه مؤشرات جيدة، موقتاً، قد تدعو إلى التفاؤل، لكنها لا تعني أبداً أننا في مأمن إزاء فتنة طائفية نحن من يؤججها – في الداخل – انجرافاً بما يعصف في المنطقة خارجياً. لو أن المشكلة شأن داخلي لكان الأمر هيِّناً، ولكانت فرصة التجاوز كبيرة، ولكننا جزء من منطقة مضطربة.

> تُمثّل بعض شخصيات الرواية أنماطاً أيديولوجية مختلفة يصفها الراوي بأنها «تحتاج علاجاً بالكهرباء لمحو ذاكرتها الطائفية». هذا حقيقي جداً والأمثلة أكثر من أن تُعد في مجتمعاتنا العربية. ولكن، ما هي برأيك سُبُل العلاج الفعلية لمعالجة هذا «الطاعون»؟

– كثيرة، ولا أدَّعي معرفتها كلّها، فجهلي في سُبُل العلاج هو ما يدفعني إلى الكتابة، إلا أنني مؤمن تماماً بأننا لم نستورد الطائفية من الخارج لولا أن أرضنا خصبة لاحتضانها، ولأننا في الأساس طائفيون بإدراك أو من دونه. مناهجنا الدراسية تكرِّس الطائفية، بعض إعلامنا وبعض رجال الدين وبيوتنا كذلك. ليس للأمر بعد ديني خالص كما نظن، المضحك أنّ حتى من يدعي الليبرالية أو من يصرِّح، في المجالس المغلقة، بإلحاده، نجده لا يكتفي بالميل إلى طائفته فحسب، وهو أمر مبرَّر بحكم النشأة، إنما يدعو إلى إلغاء الآخر بقصد أو من دون قصد. للأمر أبعادٌ أخرى بعيدة من الدين، قومية وعرقية. العلاج يبدأ في المناهج الدراسية، وتفعيل قوانين ازدراء الأديان والمذاهب، والتصدي لقنوات الفتنة، والإفساح في المجال للفن كي يرأب ذلك الصدع، وهو ما كان له دور كبير في الكويت قبل سنوات، حينما كان للدولة وعيٌ بأهمية الفنون على رأسها المسرح، قبل أن تتخلى الدولة عن دعم الفنون لتتركها عرضة لمجازر الرقابة.

> أصدرت الرقابة أخيراً قرار منع رواية «فئران أمي حصة» من التداول في الكويت، إلا أنك لم تصرح واكتفيت بالصمت إزاء المنع. إلى أي مدى يؤثر مثل هذا القرار؟

– هذه المرة الأولى التي أصرح بها حول المنع، لأن خلال الشهور الخمسة الماضية كانت الرواية كما يقول الرقيب «ليست ممنوعة وليست مجازة»، لكونها، ولخمسة شهور، لدى لجنة الرقابة! اليوم، وبعد أن صدر القرار رسمياً، يمكنني أن أتحدث. لا يؤثر قرار المنع في رواج الرواية، بل قد يمنحها انتشاراً أكبر حتى مما تستحق. إنما للقرار هنا وقعٌ كبير على نفسية الكاتب. ما أذكره الآن ليس شعور سعود فحسب، إنما هو ما يشعر به زملائي ممن تعرَّضت أعمالهم لظلم وتعسف الرقيب. خذيني كنموذج لكاتب شاب نشأ على ثقة تحاذي الغرور بمقدار الحرية الذي كانت تتمتع به بلاده، حرية الرأي التي كفلها الدستور منذ 1962. أنا شاب نشأ على هذه الحرية متمثلة في البرلمان على رغم كل المحاولات لخنقه، حرية المسرح الذي كان يقول وينتقد ويسمي الأشياء بمسمياتها. حرية الصحافة التي كانت منبراً حقيقياً للتعبير عن الرأي. أنا شابٌّ نشأ على حنظلة ناجي العلي في رسومه الذي احتفت به صحف الكويت وعدّته مكسباً، ينتقد من يشاء داخلياً وخارجياً. كيف للكويت التي فتحت ذراعيها لكل أولئك المبدعين الكبار أن تضيِّق اليوم على أبنائها؟ الوجع ليس ذاتياً هنا حول كتاب يُمنع أو يُجاز، الوجع هو أنك تشاهد بلادك مختطفة لا تشبه بلاداً تعرفها.

أنا لا ألقي اللوم كاملاً على الرقيب فهو مغلوب على أمرِه، مهزوز الثقة وأبعد ما يكون عن القراءة والثقافة. الرقيب لا يمنع من أجل المنع، فهو يدرك تماماً أن المنع صوري وإن حقَّق هدفه في سحب النسخ من المكتبات. الرقيب لا يملك شجاعة اتخاذ قرار الإجازة، لأنه يخشى المجتمع، والمجتمع هنا هو الرقيب الحقيقي حين يسائل الفرد صاحب المكتبة، أو حين يسائل عضو البرلمان وزير الإعلام: «كيف تجيزون مثل هذه الكتب؟».

> يعيش أبطال روايتك تحولات جذرية في المواقف والمسالك. فهل هذا التحول الإنساني هو انعكاس للتحولات السياسية والاجتماعية التي عرفتها الكويت بعد حرب الخليج وغيرها من الأحداث؟

– من دون أدنى شك. نحن مجرد أدوات تُحرِّكنا السياسات الكبرى وحروب المنطقة. خذي مثلاً التغيير الذي طرأ على الكويتيين، مذهبياً أولاً وقومياً ثانياً. لم تعرف الكويت في تاريخها أي نوع من التصنيف المذهبي بين الطائفتين السنّية والشيعية، هناك المسجد والحسينية منذ زمن بيوت الطين قبل الثورة النفطية. لا يعني شيئاً أن تكون شيعياً أو سنياً، وهي ليست مبالغة وفق قراءاتي وما ينقله لي أجدادي عن حياتهم البسيطة وقتذاك. حتى زمن قيام الثورة الخمينية على شاه إيران في 1979، لم تتخذ الثورة صبغة مذهبية بمقدار ما كانت دينية، وبطبيعة الحال أيدها أكثر الكويتيين المحافظين بالفطرة من الطائفتين لكونها ثورة دينية دبَّرها رجل دين مسلم، إلى درجة دفعت الكثير من الناس، سنّة وشيعة، إلى المناداة بإسقاط الشاه. تحوَّل الأمر جذرياً عام 1980 من القرن الماضي، زمن حرب الخليج الأولى، العراق وإيران، حيث اتخذت الحرب صبغة مذهبية صرفة، صار النظام العراقي ممثلاً بصدام حسين هو حامي البوابة الشرقية وسيف العرب بالنسبة إلى الكويتيين السنّة، ومال المواطنون الشيعة إلى الإمام الخميني، حتى إن الحرب اتخذت مسمَّيين، قادسية صدام لدى السنّة، والدفاع المقدس لدى الشيعة. يمكنك تصور الأمر في حدود الجيران في الشارع الواحد، بيت يزيِّن جدرانه بصور صدام، وجاره يزيّن جدرانه بصور الخميني. كانت الدولة تدعم النظام العراقي علناً، وشعرت الطائفة الشيعية بأنها مضطهدة في شكل من الأشكال. صار الحذر من الطائفة الشيعية أكثر بعدما نفذت عناصر موالية لإيران سلسلة من التفجيرات انتقاماً من موقف الكويت المساند العراق. على رغم ذلك لم يتأثر الحس القومي العروبي في ظل الصراع المذهبي المستتر في الداخل، بل على العكس، صُوّرت الحرب على أنها حرب عربية – فارسية. التغيير الثاني الذي طرأ على الكويتيين هو التأثير القومي بعد حرب الخليج الثانية، احتلال العراق الكويت عام 1990، بعدما كان الكويتيون، سلطة وشعباً، يرفضون القواعد الأجنبية في الخليج لإيمانهم بقوميتهم، صاروا أمام واقع لا فرار منه، بعد انقسام الدول العربية في مؤتمر القمة الطارئة. الكويتي الذي آمن بعروبته في شكل عام، وبقضيته الفلسطينية في شكل خاص، والذي رفض منح الأجنبي قواعد لحمايته زمن حرب الخليج الأولى، صار هو من يطلب من الأجنبي تدخلاً لتحرير بلاده. يمكنك تصور الانسلاخ بين جيلين، جيل عروبي خالص، وجيل متأمرك يؤمن بأن الغرب حرّره وخلَّصه من الغزاة. جيل آمن بقضيته الأولى فلسطين، ثم تحوَّل إلى طرد أربعمئة ألف فلسطيني بسبب موقف منظمة التحرير. جيل صار يرفع العلم الأميركي إلى جانب علمه الوطني. هذه نماذج من تأثير السياسة والحروب التي انسحبت على الإنسان وسلوكه ونمط تفكيره وعلاقاته بالآخرين.

> ما تحكيه عن تحولات الكويت ينعكس فعلاً في جوّ الرواية ومسارات شخوصها. لكن مقابل هذا التحوّل في المكان والزمان والإنسان، ظل الراوي متزناً، حيادياً، موضوعياً. فهل أردته المعادل الروائي لشخصية «المثقف» العربي، أم إنه النموذج الذي يجب أن يكون عليه المواطن العربي عموماً؟

– حتى هذه اللحظة، لا أجد كثراً من المثقفين العرب، في شكل عام، متزنين أو موضوعيين، ليس الأمر بهذه السهولة. كنت أتمنى لو أن الراوي يكون نموذجاً للإنسان العادي الذي يقبل بالتعددية ولا يرفض الآخر وينشد العيش بسلام.

> لم تمنح الراوي في عملك اسماً، وهذا خيار فني مفهوم، ولكن ما سرّ اللقب الذي عرّفته به «كتكوت»، لا سيما أنه يحمل شيئاً من الخفة؟

– لم أختر له اللقب «كتكوت»، فوزية، جارته الأثيرة هي من أطلقت عليه هذا اللقب. للقارئ وحده حرية التأويل، ولكن ربما للأمر علاقة بما كانت تردِّده أمي حِصَّة دائماً، بأن الفأر لا يجرؤ على الاقتراب من قنّ الدجاج ما لم تكن إحدى البيضات مكسورة. والدجاجة لا تتخلى عن بيضتها للفأر أبداً ما لم تشاهد زلالها مهدوراً على الأرض. و «كتكوت» هنا، لا يمكنه أن يكون كتكوتاً ما لم يخرج من بيضته سالماً، فلا يجرؤ الفأر أبداً على الاقتراب منه لأن الدجاجة لن تتخلى عنه أبداً. أتفق معك بأن في اللقب شيئاً من الخفَّة، لكنّ الرواية بمجملها تقوم على ذلك، خفَّة العنوان «فئران أمي حِصَّة»، خفَّة صورة الغلاف المجنونة الهزلية…

> صحيح. كتاباتك تحمل مقداراً من السخرية والتهكم. فإلى أي مدى تجد أن السخرية السوداء أسلوب ناجع في إظهار أعطاب المجتمع؟

– وهل تعتقدين أن القارئ يحتمل متابعة قراءة ما أكتب لولا هذه السخرية المبطنة؟ هي سخرية تشبه واقعنا، لم أفتعلها أبداً، سواء في «ساق البامبو» أو في «فئران أمي حِصَّة»، إلى درجة أنني أتفاجأ بها في كثير من الأحيان، فأنفجر ضاحكاً من رد فعل أو تعليق بعض شخوص العمل. لا تنسي أننا شعوب ساخرة بطبيعتنا، في السابق كنا نستغرب مقدرة المصري على تحويل همومه إلى نكات، اليوم صرنا مثله، من كثرة همومنا ومشاكلنا نستعين عليها بالسخرية منها. السخرية شكل من أشكال التعبير.

> طرحت في «ساق البامبو» قضية العمالة الآسيوية في الخليج، ثمّ الطائفية في «فئران أمي حصّة»، بأسلوب نقدي لاذع. ومن يقرأ الروايتين يشعر بأنّ صاحبهما يملك مشروعاً أدبياً يرتكز على المجتمع المحلي نفسه. فهل تظنّ أن الروائي يجب أن يكون أميناً للبيئة التي خرج منها؟ وهل أنت مهتم بأن تكون أديباً ملتزماً بقضايا مجتمعك؟

– بودي أن أكتب عن كل شي. كثيرة هي الهموم التي أحملها، ولكنني لا أتخيلني أبدأ بعيداً وأنا في مجتمع يغصُّ بالقضايا والمشكلات التي تؤرقني. وأنا لا أرى تبايناً كبيراً بين مشكلات مجتمعي ومشكلات أي مكان آخر في هذا العالم. إن كنت في «ساق البامبو» أتطرق لهجين نصف كويتي نصف فيليبيني في الكويت، فأنا أحكي معاناة هجين نصف عربي أو نصف مكسيكي في أميركا. وإن اتخذتُ في «فئران أمي حِصَّة» علاقة الجار السنّي بجاره الشيعي، يمكن المصري أن يسقط المواقف نفسها على الجيران مسلمين وأقباطاً. أنا مؤمن بأن الهم الإنساني مشترك في جوهره وإن اختلفت مسمياته وأشكاله. هي السموم ذاتها التي نرثها من آبائنا وتحريضهم لنا ضد الآخر من دون حساب لما قد تفضي إليه هذه التربية. رفض الآخر والتحامل عليه موجودان في كل مكان، شيعة وسنّة لدينا، مسلمين وأقباطاً في مصر، أو حتى عرباً وأمازيغ في دول المغرب العربي، والأمثلة كثيرة.

> بعد «ساق البامبو» حصل ما يُشبه الترقّب للرواية الجديدة التي ستُحدّد ما إذا كنت تملك عدّة الروائي الحقيقي، لكونك فزت بجائزة «البوكر» قبل أن تكوّن لنفسك اسماً كبيراً، فجاءت «فئران أمي حصّة» لتُكرّس موهبتك. فهل أعطتك الجائزة المبكرة ثقة واندفاعاً أثناء الكتابة، أم إنها أوجدت داخلك مزيداً من الخوف والتهيّب؟

– ممتن لثقتك أولاً. لا أنكر أن الجائزة أربكتني في البدء، لكوني لا أملك سيرة أدبية طويلة، كما أنني في سنٍّ صغيرة، لكنني أملك من الوعي ما أخرجني من دائرة الجائزة. أنا مؤمنٌ تماماً بأن «ساق البامبو» هي التي حظيت بالجائزة وليس سعود السنعوسي، لذلك صرت أعمل على «فئران أمي حِصَّة» وأنا أبعد ما أكون عن هاجس الجائزة، صرت أكثر حذراً ربما بسبب يقيني بأن ثمة قارئاً ينتظر العمل المقبل، وهو أمر ليس سيئاً بالضرورة، إنما هو أمرٌ إيجابي يكسبني الكثير من الجدية في التعامل مع نصِّي.

صحيفة الحياة اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى