نوافذ للحوار| محمد عضيمة: فقدت أصدقائي لاختلاف على كلمة الثورة

استطاع محمد عضيمة أن يحقق حلمه كشاعر جوال، متنقلاً من قريته «رويست العجل» على الساحل السوري، للحصول على شهادة في اللغة العربية من جامعة دمشق؛ ومن ثم لينكب على مشروعه في الشعر والنقد والترجمة. بعدها شدّ صاحب «شارع الألبسة الجاهزة» الرحال إلى فرنسا؛ ليقيم ويدرس في عاصمتها متحصلاً على شهادة الدكتوراه من هناك، ومن ثم ليسافر بعدها بين باريس والجزائر شاعراً ومدرّساً جامعياً. إلا أنه وفي العام 1990 يذهب إلى اليابان كأستاذ لتدريس اللغة العربية لطلاب جامعة طوكيو للدراسات الأجنبية، فيستقر به المقام هناك، مشتغلاً على الأدب الياباني وعلى قصيدة (الهايكو) التي نقلها إلى العالم العربي عبر ترجمته لأبرز نصوص شعرائها. حول جملة من المواضيع كان هذا اللقاء:

] لا شك أنكَ ممن يعتقدون أن الكتابة عن الكرسي والقميص والمعطف أصعب من الكتابة عن الموت والخلود والغياب، هل تغيرت هذه القناعة اليوم، ولماذا؟

ـ بالعكس، يبدو أنها ترسخت أكثر. لأن موضوعات الموت والخلود والغياب، وما شابه، تعرفها العربية جيداً. تعرف جميع تدويراتها وجميع مجازاتها واستعاراتها، لكثرة ما تناولتها، في جميع المجالات وتحديداً الشعر، على مدى خمسة عشر قرناً وأكثر. لذا تسهل الكتابة في هذه الحقول. ومن الصعب الإتيان بشيء مدهش حقاً. هذه مناطق مكشوفة جداً للغة العربية، وللغات الأوروبية أيضاً. هناك عبارات وصيغ ومفردات جاهزة عن هذه الموضوعات، وتنتقل من شاعر إلى آخر بالقوة، كما لو أنها داء يصعب اجتنابه. ومهما اجتهد الشاعر، أي شاعر، سيصطدم بهذا الجدار. جدار اللغة والمفردات المستخدمة في هذه المجالات. سيجد نفسه آلة تعيد ما قاله السلف البعيد أو القريب. لذلك يُتهم الشعر الحديث بالتشابه وأحياناً بالتطابق. يتشابهون، ليس لأنهم أرادوا ذلك، بل لأن اللغة التي يكتبون بها جميعاً محكومة بسيرة واحدة، بصيرورة واحدة، بمرحلة معينة من التطور، وتحديداً في هذه المجالات. لهذا أرى أن الكتابة الشعرية، الشعرية حقاً، صعبة عندما تكون في مناطق غير مكشوفة للغة العربية.

] وهل هناك مناطق لا تعرفها العربية؟

ـ نعم، وبلا حدود. لماذا لا يكون القميص موضوع قصيدة؟ أو المعطف؟ أو المظلة؟ أو الكرسي؟ أو السيارة؟ أو البسكليت؟ أو أصيص الورد؟ أو الورد نفسه؟ أو خذ ما شئت من هذه الأشياء العزيزة على الفرد، والمستخدمة يومياً، وستجد نفسك عاجزاً عن إكمال صفحة واحدة بصدده. أو ستلجأ، كما يحدث دائماً، إلى واحدة من عادات اللغة العربية المعروفة إلى حد الاستهلاك: وهي الأمثلة، أو الأنسنة. ستتحدث عن المعطف مثلاً كصديق، كصاحب، وتضفي عليه ما تشاء من صفات بشرية، وتنسى أنه من قطن أو صوف أو حرير. هكذا سنكون أمام معطف لا علاقة له بالمعطف الحقيقي، الواقعي، المبقّع بالزيت أو الطباشير إذا كان لمعلِّم مدرسة في قرية نائية….

اليابان والهايكو

] أنت من الشعراء الذين عملوا على ترجمة أشعار اليابان، خصوصاً قصيدة «الهايكو»..هل تعتقد أن جيلاً جديداً اليوم في سوريا تأثر بالكتابة على غرار هذه القصيدة؟

ـ يبدو لي أن قصيدة الهايكو بغير اللغة اليابانية، ومهما كانت اللغة الأخرى، تفقد كثيرا من هذه التسمية وتتحول إلى مقطع قصير، أو إلى تغريدة من تغريدات (تويتر). لكلمة هايكو باللغة اليابانية وقع الطرافة، وهذا هو معناها الحرفي، أي الطرفة أو الجملة المسلية. وما إن يسمعها الياباني حتى يشعر بنوع من الابتسامة في داخله. فهي ترتبط في ذهنه بشيء مسلٍ، أو بشيء إيجابي.

] كيف عكست ذلكَ في كتبكَ الغزيرة عن الشعر، لا سيما كتابكَ «ديوان الشعر العربي الجديد»؟

ـ لقد حاولت في «ديوان الشعر العربي الجديد»، الذي صدر منه خمسة أجزاء حتى الآن، الاستفادة من هذه الروح المسلية، أو على الأقل من هذه الإيجابية التي تبثها قصيدة الهايكو بشكل عام. فعملتُ على الاجتزاء، و(الكولجة) من داخل النصوص، بحيث يضحك القارئ أو يبتسم، أو يشتم من الفرح، عندما يقرأ المقطع، أو التغريدة التي تم اختيارها. يبدو أن هذه الطريقة لاقت رواجاً لدى كثير من الشباب، وأخرجتهم من حكاية الرجولة الشعرية وطول القصيدة. أعطتهم ثقة بالنفس أكثر، وبأن ما يكتبون هو شعر كامل الأوصاف. وقد ساعد ذلك على انتشار هذه الطريقة فضاء الشبكة الالكترونية. عندما بدأت هذا المشروع لم يكن لهذا الفضاء دور، لم يكن هناك (فايسبوك) ولا (تويتر) ولا ما شابه؛ كنتُ مأخوذاً بالعمل على ترويج هذا الشكل من الكتابة، ويبدو أنه الشكل الأكثر رواجاً اليوم في سوريا والعالم العربي.

] تقيم في اليابان منذ سنوات طويلة، كيف تتابع اليوم ما يحدث في وطنكَ؟ وهل تعتقد أن ما يحدث ترك بصماته على النص السوري الجديد؟

ـ تعني الحرب على سوريا، وليس ما يحدث في سوريا. لا أتابع وحسب، فأنا أعيشه لحظة بلحظة. وأصبحت مختصاً بالكوابيس وأنواعها. كما أصبحتُ مختصاً بالخيانات وأنواعها. بالعمالة ودرجاتها. ومختصاً أكثر باليساريين وألوان سفالاتهم في عموم سوريا الطبيعية. لم يفاجئني ظلاميو الإسلام، وبجميع تسمياتهم، بالعمالة والغدر بهذه السوريا. فاجأني الأصدقاء، شعراء ومثقفين، بالبطالة التي تعاني منها عقولهم. بألم شديد فقدتهم، واحداً تلو الآخر. وما زلتُ غير مصدق أنني فقدتهم بسبب اختلاف مفاجئ على معنى كلمة الثورة ومشتقاتها. أصدقاء بنيتهم في داخلي، حجراً حجراً، على مدى كل هذه السنين، ولم نختلف يوماً على معنى هذه الكلمة. أصدقاء كانوا جزءاً من هذا الذي يسمونه «النظام». كانوا من كتّابه وشعرائه وممثليه ومخرجيه وموظفيه. أكلوه لحماً وأرادوا رميه بعد أن توهموا أنه صار عظاماً، لكن، لكن… أعترف أنني فشلتُ في محاولة كرهي لهم. وأعترف أنني أستبدلهم اليوم بصعوبة. كيف سنعود كما كنا أصدقاء، لا أعرف.

] وماذا عن أثر الحرب في النصوص الجديدة مع دخولها عامها الخامس؟

ـ سوف تغادرنا هذه الحرب عاجلاً أم آجلاً. لكنها سوف تترك ندوباً عميقة في النفوس، وعلى النصوص. في الأغلب ستميل الكتابات الشعرية إلى البكاء والتفجع، أو إلى التشفي، ثم إلى المديح والهجاء. ليس هناك اليوم سوري واحد حيادي، شاعراً كان أم كاتباً أم مواطناً عادياً. والكل سيكتب دفاعاً عن الموقف الذي اتخذه. سيكون القتال هذه المرة في ساحة النصوص. ولن يكون التجديد سهلاً. لأن اللغة العربية تعرف جيداً هذا النوع من الحروب..

] لكن هل النص الشعري السوري اليوم قادر للتطوير أم أنه اكتمل واستنفد كل أدواته ودهشته، ولماذا؟

ـ في الشعر لا يوجد شيء مكتمل. أي نص يحتاج إلى كتابة من جديد. وأي شيء يحتاج للكتابة عنه: عن الغيم، عن المطر، عن الرعد، عن البرق، عن الثلج، عن الطبيعة، عن كل ما يمكن للحواس التقاطه. أما إذا كنت تقصد الموضوعات الكبرى: الموت الخلود الغياب وما شابه.. نعم، أزعم أن هذا النص استنفد كل ما يمكن أن يمنح الدهشة أو المتعة ووصل إلى جدار مسدود. وأزعم أنه يحتاج إلى استراحة طويلة كي يعود بأناقة أخرى.

] برأيك كيف للتجربة الشعرية السورية اليوم أن تجدد رؤيتها للعالم في ظل كلّ هذا الطوفان الدموي الصادم؟

ـ الرهان الأول على الوعي. هل سينتج هذا الجنون الدموي وعياً جديداً لدى السوريين وغيرهم من أبناء المنطقة الناطقة بالضاد؟ لأن المصير واحد كيفما نظرنا أو اتجهنا. لن تكون هناك رؤية جديدة في الشعر أو في غيره، ما لم يكن هناك وعي جديد يقوم على ركائز أخرى غير ركائز الدين ومفاهيمه للإنسان والعالم. وعلى هذا الصعيد، لستُ متفائلاً جداً. لأن الجذور الدينية في المجتمعات العربية، أعمق مما نتصور، أعمق مما يمكن لأضعاف هذه الدماء أن تجرفها. ألا ترى أن أعتى شيوعيي وعلمانيي سوريا الطبيعية عادوا إلى الطائفية بأقذر صيغها خلال هذه الحرب، فكيف الحال بالنسبة للآخرين؟

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى