آفة اللامساواة في عالم ما بعد الحرب الباردة

تأليف: برانكو ميلانوفيتش
عرض ومناقشة: محمد الخولي
الناشر: مطبعة جامعة هارفارد، نيويورك، 2016
عدد الصفحات: 304 صفحات

لصالح من انهار جدار برلين؟ هذا السؤال يكاد يشكل مفتاحاً لتدارس أحوال المجتمع البشري بعد انهيار الجدار في عام 1989 وانتهاء الحرب الباردة. ومن ثم غروب شمس الشيوعية الاشتراكية فكراً ومذاهب ودولاً، وهو ما كان ينبغي منطقياً أن يتحول لصالح تكريس وازدهار تيار الديمقراطية الليبرالية. لكن الحاصل – على نحو ما توضحه فصول الكتاب – هو أن انهيار سور برلين ودخول العالم عصر العولمة، كما وصفوه، في مطلع عقد التسعينيات من القرن العشرين لم يأت بالثمار المنشودة.

وإنما أسفرت الأمور عن تراجع دور الطبقات الوسطى مقترناً باشتداد ساعد قوى الاحتكارات الرأسمالية والشركات والمؤسسات المتعددة الجنسية وما يماثلها من كيانات وطنية. وتحيل مواضع عدة من فصول هذا الكتاب إلى ما سبق إليه من أفكار وآراء وطروحات عدد من كبار علماء الفكر الاقتصادي المعاصرين في العالم،وفي مقدمتهم كل من المفكر الروسي سايمون كوزنتس، الذي نبّه إلى أن التطور الاقتصادي – الاجتماعي في عالمنا يتم على أساس موجات متوالية منها ما يندفع بالتقدم إلى الأمام ومنها ما ينحسر بخطى التقدم إلى الوراء.

كما يحيل هذا الكتاب إلى ما سبق وأن عرضه المفكر الفرنسي الشاب توماس بيكيتي في كتابه الصادر عام 2014 بعنوان: »رأس المال«، حيث نبه إلى نشوء اللامساواة في المجتمعات المعاصرة.

في مثل هذه الأيام منذ 27 عاماً، بالتحديد في يوم 9 نوفمبر من عام 1989، انهارت دعائم الجدار، كانوا يسمونه سور برلين، وكان جداراً عازلاً كما هو معروف بين شطري العاصمة الألمانية يقسمها إلى شرق شيوعي تسيطر عليه العقيدة الماركسية وغرب ليبرالي تسيطر عليه العقيدة الرأسمالية. ولقد كان جدار – سور برلين رمزاً وتجسيداً لحقبة حملت اسم الحرب الباردة بين معسكريْ الشرق والغرب وطال أمدها إلى ما يقرب من 45 عاماً من عمر زماننا الراهن.

وفيما جاء سقوط السور البرليني رمزاً لانتهاء أوزار الحرب الباردة فقد كان هذا الحدث إيذاناً بمرحلة جديدة لدى جمهرة المفكرين والباحثين والمحللين، حيث شرعوا في طرح العديد من التساؤلات بشأن شكل وأبعاد عالم ما بعد انتهاء الصراع العقائدي البارد.

وفي هذا الإطار عمد باحث شاب من أصول بلقانية إلى صياغة تساؤلاته على الشكل التالي:

لصالح من سقط الجدار؟

وطبعاً جاءت الصياغة على غرار سابقتها التي طرحها بعد الحرب العالمية الأولى، الروائي الأميركي الأشهر ارنست هيمنغواي (1899- 1961) في رائعته الشهيرة بعنوان، »لمن تقرع الأجراس؟«.

الباحث برانكو ميلانوفيتش. دارت تساؤلاته حول مستقبل ما بعد انتهاء الصراع الفكري – المذهبي بين معسكري الشرق والغرب.

في هذا الإطار يرصد ميلانوفيتش التطورات التي شهدها عالمنا على مدار الفترة التي أعقبت انهيار سور برلين، ومن بعدها تجليات الظاهرة الأخطر التي حملت الاسم الذي ما زالت أصداؤه تتردد في كل مكان، »العولمــة«.

وفي هذا الإطار أخرج البروفيسور برانكو ميلانوفيتش أحدث أعماله الفكرية في كتاب يحمل عنواناً رئيسياً وهو، »اللامساواة الكوكبية«، ثم يحمل عنواناً فرعياً شارحاً هو، »نهج جديد من أجل عصر العولمة«.

ومنذ الصفحات الأولى من هذا الكتاب يتضح لقارئه مدى اهتمام وتركيز المؤلف على ظاهرة غياب المساواة، سواء بين الأفراد في أي مجتمع معاصر أو بين الدول والشعوب على مستوى خارطة عالمنا، المعاصر أيضاً. ثم بحكم تخصصه الذي يربط بين الوضع الاقتصادي والتطور التاريخي يعمد مؤلفنا إلى متابعة ما شهده العالم منذ آماد زمنية بعيدة من ضروب اللامساواة ومظالمها.

وكيف أن هذا المرض الاجتماعي الذي يمّيز بين الناس ويعمل على تصنيفهم في خانة العوز والرفاه قد ظل موجوداً في المجتمع البشري عبر دورات من مدّ وجزْر، فيما كانت تدفعه وتؤجّج نيرانه حالات اشتعال الحروب الدموية ودورات انتشار الأوبئة الفتاكة، كما كانت أوضاع اللامساواة تخضع بالقدر نفسه إلى حجم ما يناله الفرد، أو ما لا يناله، من فرص التعليم والتدريب.

جذور اللامساواة

يوضح المؤلف أيضاً أن أوضاع اللامساواة التي عاناها الغرب – الأوروبي، إنما نشأت ثم تعززت أو تفاقمت نتيجة الثورة الصناعية التي شهدها الغرب منذ 150 سنة أو نحوها من عمر هذا الزمان الحديث، بينما عاودت اللامساواة وجودها وتأثيراتها السلبية خلال الفترة الأخيرة بل منذ التسعينيات المنصرمة بالذات، بعد أن خضع العالم.

كما هو معروف، لظاهرة مستجدة تماماً حملت بدورها اسم ثورة المعلومات أو ثورة التكنولوجيا. ثم زادت التكنولوجيا من تفاقم حالة اللامساواة، لا بين الأفراد وحسب بل بين مناطق الكرة الأرضية ودول العالم بشكل عام، حيث أصبح مقياس التكنولوجيا واستخدامات الحاسوب الإلكتروني والثورة الرقمية هو المحكّ الحاكم في توزيع الفقر والغنى، التقدم والتخلف بين دول كوكبنا وشعوبه على السواء.

في هذا الصدد، يكاد المؤلف يضع يده على ظاهرة مستجدة بكل مقياس في فترتنا الراهنة، إنها ظاهرة التقارب أو شبه التقارب الذي حدث بعد ثورة تكنولوجيا الاتصال والمعلومات بين الطبقة الوسطى في أقطار مثل الصين والهند، وبين نظيرتها – الطبقة الوسطى في بلد سوبر – متقدم اسمه أميركا.

وتلك ظاهرة يرى مؤلف الكتاب أنها تنتمي نسبياً إلى فترة السنوات الخمس والعشرين الأخيرة، بمعنى أنها بدأت، كما أسلفنا، مع مستهل عقد التسعينيات من القرن الماضي، وهو ما دفعه إلى طرح السؤال، كما أسلفنا أيضاً، عمن دقت له الأجراس، أو بالأدق عمن استفاد من سقوط جدار برلين وزوال الطرف – القطب السوفييتي، ثم انفراد الولايات المتحدة، عبر التسعينيات إياها بالموقع – السوبر وهو قيادة عالم ذلك الزمان.

نظرية المفكر الروسي

والحق أن من شأن القراءة الواعية والمتعمقة لطروحات هذا الكتاب أن تُطلع القارئ على مدى تأثّر المؤلف بطروحات ونظريات المفكر الأميركي الروسي الأصل سايمون كونزنتس (1901- 1985)، الحاصل على جائزة نوبل العالمية في الاقتصاد، خاصة وقد ذاعت نظريته التي يذهب فيها إلى أن التقدم الاقتصادي والإنتاجي يؤدي أولاً إلى اتساع هوة اللامساواة في المجتمع.

ولكن هذه الهوة لا تلبث أن تضيق بالتدريج مع استمرار خطى هذا التقدم إلى حيث يعطي ثماره التي تنعكس إيجاباً مع نمو الاقتصاد على مجالات التعليم والثقافة والاقتصاد والعلاقات بين الطبقات.

وعلى خطى هذا المفكر الراحل كوزنتس، يواصل مؤلف كتابنا طرح مقولاته موضحاً أن أول تطور إيجابي شهدته الحياة البشرية جاء متمثلاً في التحول عن ممارسة الزراعة إلى احتراف الصناعة، مصحوباً بالتحول من حياة قرى الأرياف إلى العيش في حواضر المدن.

فيما تلا ذلك موجة أخرى شهدت التحول من مجتمع الصناعة التحويلية إلى مجتمع الخدمات باستخدام أحدث ما توصلت إليه ثورة تكنولوجيا الحواسيب.

في هذا المناخ السائد حالياً، يحذّر الكتاب من تفاقم اللامساواة في ضوء ما رصدته الصفحات والفصول من ارتفاع مستوى العمالة التي أمكنها تحصيل قدر رفيع من المهارات السوبر – تكنولوجية تاركة قوى العمالة التقليدية (القديمة) قرب قاع المجتمع، هذا فضلاً عما رصده المؤلف أيضاً من زيادة نفوذ الطبقات – الفئات الاجتماعية الموسرة، سواء بفضل تراكم ثرواتها أو في ضوء العلاقات التي باتت تربط بينها وبين المستويات الحاكمة.

وهو ما دفعها إلى ممارسة هذا التأثير على مجريات العملية السياسية. على أن هذه العوامل من زيادة نفوذ الطبقات الغنية العليا مجسّدة في بارونات احتكارات الخامات والمصنوعات وديناميات السوق وأنشطة التصدير والاستيراد .

– هي التي أدت، وتؤدي إلى انكماش قدرات ومكانة ونفوذ الطبقة الوسطى لحساب قدرات ونفوذ أغنياء زمن الحاسوب الإلكتروني وهيمنة الكود الرقمي وتكنولوجيا المعلومات، ومن ثم أباطرة الاحتكارات الاقتصادية والشركات المتعددة الجنسية والمؤسسات الوطنية. وفي ضوء هذه المتغيرات غير المسبوقة طرأت متغيرات مستجدة أيضاً على المفهوم التقليدي بشأن من يملكون ومن لا يملكون.

هنا أيضاً يحرص المؤلف على الإشارة إلى أن أمر اللامساواة، فضلاً عن احتمالات تفاقمها، لم يعد يرتبط فقط بالأحوال الاقتصادية، ولا بالهرم الطبقي في هذا المجتمع أو ذاك، لقد تعدى الأمر إلى حيث يمس أمن المجتمع المعرّض لهذه المتغيرات بكل ما يرتبط بذلك من عواقب سياسية شديدة السلبية إلى درجة الخطورة، خاصة في عصر مجتمع المعلومات وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي، حيث تؤدي أوضاع اللامساواة، كما ينبه المؤلف، إلى حالات اضطراب بصرف النظر عن الموقع الجغرافي لهذا البلد أو ذاك.

الغبن النفساني

مشكلة اللامساواة لم تعد أمراً مقتصراً على مجرد تناقص الدخل المالي، ومن ثم تراجع المستوى المعيشي، بل تزداد المشكلة تفاقماً في حالة الطبقات الوسطى في المجتمعات الصناعية – الأوروبية بالذات، لقد طال الأمد على أفراد تلك الطبقات، البورجوازية .

كما يسمونها أيضاً، وهم يشعرون بقدر لا ينكر من التفوق باعتبار أنهم ينتمون إلى الطبقة التي تلقى أفرادها قدراً غير يسير من التعليم الرسمي المنتظم، وهو ما أهّلهم بالتالي إلى اكتساب مهارات فنية – عملية – تقنية في مجالات الإنتاج والإدارة والتخطيط، وبصورة وضعت كلاً منهم على بدايات الطريق نحو الترقّي الوظيفي واليسر الاقتصادي، وعلّو المكانة على مستوى السلم الاجتماعي.

ولكن عندما تؤذن التطورات الاجتماعية التي تعرض لها صفحات الكتاب بازدياد حدّة اللامساواة على مستوى المجتمع، تصبح هذه الشرائح الاجتماعية المتعلمة بل والمتفوقة من الطبقات الوسطى عرضة لأنواء الأزمات الاقتصادية فيما يشهد أفرادها انحسار إمكاناتهم وتراجع إيراداتهم، ومن ثم تراجُع مكانتهم ومساهماتهم لصالح الشرائح الطبقية التي لا تلبث أن تقفز عبر درجات السلم الاجتماعي.

ومنها ما يحمل لقب »نيو ريتش« أو »فو ريتش«، بمعنى أنهم الأغنياء الجدد، وبمعنى أدق أنهم محدثو النعمة المتربحون من أساليب المضاربات والتلاعب في ساحات البورصات واستغلال مداخيل النشاط الريعي على حساب عائدات الأنشطة الإنتاجية.

عن اللامساواة بين البلدان

والحاصل أن هذه الظاهرة، بدءاً من تراجع جانب عمليات الإنتاج لحساب جوانب امتلاك الثروات، لا يقتصر أثرها الواقعي على أرض مجتمع بذاته، بل ينسحب إلى إيجاد حالة من اللامساواة على صعيد البلدان وخاصة على مستوى الشمال والجنوب من خارطة عالمنا.

تاريخ من الظلم الاجتماعي

ينبّه المؤلف قارئيه إلى أن آفة اللامساواة ليست وليدة عصرنا الراهن، صحيح أن القرن العشرين شهد عدداً من أسوأ مظاهر هذه الآفة.

وهو ما حرص على تدارسه الاقتصادي الفرنسي الشاب توماس بيكيتي في كتابه الشائق الصادر عام 2014 بعنوانه الشهير رأس المال في القرن الواحد والعشرين إلا أن مؤلف كتابنا حرص من جانبه على تأصيل ظاهرة اللامساواة بين فئات وطبقات المجتمع لدرجة أن بدأ يتقصى جذورها منذ العصر البيزنطي، يعني من القرن الرابع للميلاد.

وعلى مدار هذه الجهود من الاستعراض التاريخي يظل السؤال الملّح مطروحاً باستمرار وهو، هل يقيّض للعالم أن تحكمه، مع تفاقم الأوضاع، شريحة الواحد في المائة التي أفرزتها انتصارات وإنجازات العولمة، أو تحكم العالم وترسم مساراته طبقة عالمية وسطى كبيرة من حيث العدد، مؤثرة من حيث النفوذ؟

هنا أيضاً تعمد بحوث هذا الكتاب إلى ما يمكن وصفه بأنه جهود الكشف عن طبقة السوبر – أثرياء التي مازالت تتحكم في مقاليد أقطار شتى من عالمنا. ولكن الأخطر في هذا السياق هو تجمعات – عصابات السوبر – فاسدين، هؤلاء الذين لا يتورعون عن إخفاء ثرواتهم، السوبر – طائلة بدورها في جوف الملاذات الضريبية تهرباً من سداد حق الدولة عليهم.

وحيث يؤدي هذا التهرب إلى حرمان النظم الحاكمة من إمكانية تمويل ما يصبّ في صالح الطبقات الفقيرة والفئات المحرومة والمعوزة من مشاريع النهوض بالتعليم والصحة والعدل الاجتماعي، مما يؤدي إلى توسيع شُقّة اللامساواة بين الطرفين بطبيعة الحال.

عيوب الممارسة الديموقراطية

مع تفاقم اللامساواة، تزداد عيوب هذه الممارسة الديمقراطية، خاصة عندما تخضع مع تطور الأحوال لما أصبح يعرف في الأدبيات الأميركية باسم المال الأسود ممَّثلاً في المدفوعات أو الرشاوى الانتخابية التي يقدمها المرشحون الطامعون في وجاهة المنصب النيابي إلى جماهير الناخبين، ومن ثم تكون المحصلة الطبيعية هي أن يرْقى إلى مستويات التمثيل على المستويات الجهوية والمحلية والقومية عناصر يصدق عليها الوصف التقليدي الذائع وهو: »الذين يملكون.. ويحكمون«.

المؤلف

البروفيسور برانكو ميلانوفيتش من مواليد صربيا في البلقان عام 1953 وهو أستاذ علم الاقتصاد في مركز الدراسات العليا بجامعة نيويورك. وقد سبق له العمل في إطار مجموعة البنك الدولي المعنية بالبحوث الإنمائية.

كما عمل أستاذاً زائراً للاقتصاد في جامعة ميريلاند بالولايات المتحدة. وقد اشتهر عنه اهتمامه الطويل والخاص على مدى السنوات الخمس والعشرين التي انقضت منذ بداية سيرته الأكاديمية بقضية اللامساواة، أو مسألة الهوة الفاصلة بين طبقات المجتمع.

صحيفة البيان الأماراتية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى