أشرف مروان… حكاية «أهم جاسوس عرفته إسرائيل»

«في الثانية والنصف من صباح يوم الجمعة، 5 أكتوبر 1973، رن الهاتف في منزل رئيس الموساد تسفي زامير، كان رئيس مكتبه، فريدي عيني، على الخط يحمل رسالة عاجلة: لقد اتصل الملاك، وكان يتكلم عن الحرب».

لم يحصل أشرف مروان على الاسم الحركي «الملاك» مباشرة، وفق كتاب الإسرائيلي يوري بار جوزيف «الملاك. الجاسوس المصري الذي أنقذ إسرائيل» (2016). كانت الأسماء الحركية التي يطلقها الموساد تؤخذ من لوائح معدة مسبقاً وتُعطى عشوائياً. وقد أعطيت لأشرف مروان أسماء عدة في البداية كان منها «باكتي» و«أتموس». لكن الاسم استقر في النهاية عند «الملاك»، باقتراح من ضابط كان مولعاً بمسلسل «القديس» لروجر مور، والذي تم بيعه لإسرائيل تحت اسم «حملاخ» (الملاك) بسبب الوقع المسيحي للاسم الأصلي. بعد سنوات، وبانتهاء حرب أكتوبر، ظهر جلياً كم كان الاسم الحركي ملائماً. يقول بار جوزيف في كتابه الذي صدرت طبعته العربية (ترجمة فادي داود) حديثاً عن «الدار العربية للعلوم في بيروت» ومكتبة «تنمية» في مصر.

الكتاب المكون من ثلاثة عشر فصلاً، ينتهي بفصل «سقوط الملاك»، وهو سقوط معنوي ومادي، إذ يعني من ناحية انكشاف «حقيقة» مروان إثر نزاع قضائي بين رجلي استخبارات في إسرائيل، ومن ناحية أخرى سقوط جسد أشرف مروان من شرفة منزله في الطابق الخامس بالقرب من سيرك «البيكاديلي» في لندن يوم 27 حزيران (يونيو) 2007، على مرأى من زملاء وموظفين شاهدوه من البناية المقابلة وهو يسقط. لكن شهاداتهم تضاربت. قال أحدهم إنّ مروان تسلق درابزين شرفته وقفز. وقال آخر إنه رأى رجلين في الشرفة بعد سقوط مروان «يرتديان بزتين رسميتين ولهما ملامح شرق أوسطية. لم يفعلا شيئاً، فقط نظرا للأسفل». على أي حال، فإن الكتاب يتهم تحقيقات سكوتلانديارد بالتقصير، ويشرح مراحل التحقيقات التي لم تستطع أن تثبت أو تنفي أياً من الاحتمالات الثلاثة «انتحار، قتل، حادثة سقوط». غير أنها في إعادة تحقيق أخيرة بعد ثلاث سنوات، نفت احتمال «الحادثة»، ليتبقى الانتحار أو القتل.

من قتل أشرف مروان؟ صهر جمال عبد الناصر ومساعد أنور السادات من جهة، و«أهم جاسوس عرفته إسرائيل في تاريخها» من جهة أخرى؟ يتهم الكتاب السلطات المصرية بالتصريح أحياناً وبالتلميح أحياناً أخرى، «أنقذت ميتة مروان الشنيعة القيادة المصرية من الإحراج الذي كانت ستتعرض له إذا ما خضع مروان لمحاكمة واعترف على الملأ بأن عنصراً بارزاً في النخبة الحاكمة المصرية كان جاسوساً للموساد في ذروة الصراع العربي الإسرائيلي» يقول الكتاب إنّ مروان كان جاسوساً في الزمن الذي كان فيه فرع 6 في الموساد، الخاص بمصر، «أهم وأضخم فرع في شعبة الاستخبارات العسكرية». وكان ذلك هو الوقت الذي «طرق» فيه أشرف مروان أبواب السفارة الإسرائيلية في لندن، عارضاً العمل لدى الموساد، ومسلماً إليه أوراقاً كانت من الأهمية أن جعلت الموساد يقرر التعاون معه فوراً، متجاوزاً الهرمية التقليدية لمتابعة العملاء الجدد، خاصة «الطارقون» منهم.

العميل من النوع «الطارق- Walk-in» في لغة الاستخبارات، هو شخص من الجانب المعادي، يظهر فجأة ذات يوم ويعرض خدماته «وهذا النوع من المتطوعين تتحاشاه وكالات الاستخبارات بشكل عام، وفي أغلب الأحيان بسبب الاحتمال الكبير في أن يكون ذلك نوعاً من الفخ»؟

غير أن الموساد سرعان ما استبعد أن يكون أشرف مروان فخاً أو عميلاً مزدوجاً، بسبب اقتناع الإسرائيليين بأن أجهزة مخابرات الدول الكبرى فقط ــ كالسوفييتية والبريطانية ـــ هي التي تمتلك الخبرة لزرع وتشغيل العملاء المزدوجين، فضلاً عن أن مروان كان زوج ابنة عبد الناصر نفسه، ومن الصعب زرع جاسوس مزدوج له مثل هذه الأهمية في بلاده، لخطورة السيطرة عليه أو اختطافه أو قتله. كما أن المعلومات التي قدمها مروان في كانون الأول (ديسمبر) 1970 (بعد أسابيع من وفاة ناصر التي لم تغير من إصرار مروان على الاتصال بالموساد) كانت من الأهمية والخطورة بمكان، بما يتجاوز كثيراً المعلومات التي يمنحها العملاء المزدوجون، التي تكون عادة سريعة العطب وذات فترة صلاحية قصيرة. أما معلومات «الملاك»، فقد جعلت تسفي زامير، يقول في مقابلة مع التلفزيون الإسرائيلي بعد مقتل مروان: «لقد خسرنا المصدر الأعظم في تاريخنا».

لكن إذا كان كل تلك المؤشرات، تقطع – في رأي الكتاب- بأن مروان لم يكن عميلاً مزدوجاً رغم الجنازة الرسمية المهيبة التي أقيمت له في مصر، فإن تلك المعطيات نفسها تثير التساؤل حول دوافع مروان للعمل لصالح الموساد؟ يخوض المؤلف في دوافع مروان المبكرة، يتناول الحياة العائلية لمروان «الطموح للغاية»، الذي لم يتقبله عبد الناصر زوجاً لابنته «منى» إلا بضغط كبير منها، وقد فوجئ بعد الزواج بأن «نزاهة عبد الناصر- التي يشير إليها الكتاب كثيراً» كانت حقيقية أكثر مما يتصور. هكذا، فإن الشاب المحب للحياة لم يستفد مادياً على أي نحو من قرابته بعائلة الرئيس. وحين سافر إلى لندن واقترض نقوداً من أصدقاء بالعائلة الكويتية الحاكمة، أمر عبد الناصر بإعادته إلى مصر، وعيّنه في مكتب الرئيس لكن ليس على سبيل الترقية بل «ليظل تحت عينه». رغبة مروان في الثراء – والتي حققها في النهاية- حبه للمقامرة، رغبته في الانتقام من عبد الناصر، وفي أن يكون «في الجانب الرابح» بعد نكسة الـ 1967 كانت من بين أهم الأسباب التي دفعته للعمل لصالح الموساد.

رغم كل ذلك، ثمة رجل لا يتفق مع تلك الرواية، هو إيلي عزرا، رئيس الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية إبان حرب 1973. يرى عزرا أن مروان خدع إسرائيل ولعب معها دور «الراعي الكذاب»، فقد أمدها بالمعلومات المفيدة على مدار السنوات، وحذرها من الهجوم المصري مراراً في تواريخ عدة. أما حين حان الهجوم الحقيقي، في 6 أكتوبر 1973، فلم يحذرها سوى قبل ساعات قليلة منه، لم تسمح لإسرائيل بالاستعداد وتفادي الخسائر الهائلة التي أحاقت بها في الأيام الأولى من الحرب.

يورد الكتاب رأي عزرا ولا يتفق معه، ويتهم عزرا بأنه متمسك بفرضية «العميل المزدوج» للتبرؤ من الفشل الاستخباراتي في معرفة توقيت الهجوم المصري السوري المشترك، الذي وضع إسرائيل، «ولو لساعات» أمام أول تهديد وجودي في تاريخها.

صحيفة الحياة اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى