أوروبا الحصن (عرض/ زياد منى)

 


عرض/ زياد منى


-الكتاب: أوروبا الحصن ( نُذُر من قارة ذات بوابات حدودية)
-المؤلف: ماتثيو كار
-عدد الصفحات: 294
-الناشر: سي هرست آند كو, لندن
-الطبعة: الأولى 2012


هذا الكتاب يعالج مشكلة ربما يعرفها كثير منا في العالم الثالث من الذين يضطرون للوقوف ساعات طويلة في طوابير أمام أكشاك سفارات الدول الغربية، يحلمون بالحصول على تأشيرة دخول إما للطبابة، أو للدراسة أو للهجرة، وما إلى ذلك.
والكاتب ماتثو كار، صحفي مستقل، عمل مع عدة مؤسسات إعلامية معتبرة في الغرب، مثل الغارديان ونيويورك تايمز وهيئة الإذاعة البريطانية، وصاحب مؤلفات عديدة في التاريخ.
يبدأ الكاتب مؤلفة بمجموعة أخبار موثقة عن عذابات بشر "العالم الثالث" على الحدود الفاصلة بين الشمال والجنوب، وكذلك بين الشرق والغرب عند محاولة عبور حدود أوروبا، التي تبدأ -كما يلفت الانتباه إليه- في أفريقيا من مدينتي سبتة ومليلة المغربيتين المحتلتين من طرف إسبانيا إلى يومنا هذا.

الأرقام تتحدث

الكتاب ليس -فقط- محاولة لتوثيق مآسي المهاجرين المتسللين التي تشهدها مختلف حدود أوروبا، وإنما أبعد من ذلك، رغم أهمية الأول. ولذا افتتح المؤلف به كتابه، مذكرًا القراء بأن عدد ضحايا حائط برلين طوال فترة وجوده -أي بين عامي 1961 و1989- بلغ 125 نفسًا بشرية، بينما عدد ضحايا المهاجرين غير الشرعيين على مختلف حدود أوروبا بلغ نحو 15551 نفسًا بشرية بين عامي 1988 و2011.
يضاف إلى ذلك نحو ألفي ضحية قضوا في طريقهم إلى أوروبا عبر الصحراء الكبرى، إما اختناقًا أو وقوعًا، أو تجمدًا في كوات عجلات الطائرات المتجهة نحو أوروبا من دول أفريقية. وفي شتاء عام 2007 قضت ثلاث فتيات من الشيشان تراوحت أعمارهن بين 6 و13 عامًا تجمدًا وهن يحاولن عبور جبال التاترا التي تفصل بين بولونيا وأوكرانيا، أو تربط بينهما!
وفي 27 سبتمبر/أيلول 2008 تمزقت أجساد خمس مهاجرين متسللين في حقل ألغام يفصل بين تركيا واليونان. وبين عامي 1988 و2008 انتحر نحو 150 إنسانا في معسكرات المهاجرين غير الشرعيين بألمانيا بسبب تخوفهم من إعادتهم إلى بلادهم. لكن المؤلف يبدأ بالأحداث المأساوية التي شهدتها حدود مدينتي مليلة وسبتة مع المغرب في عام 2005.
الأرقام لا تنتهي، وأوردنا بعضها فقط لتوضيح عمق المأساة التي يتعامل معها هذا الكتاب، ولتفسير عنوانه الذي يصف فيه القارة بالحصن.


موضوع الكتاب

مصرع هذه الأعداد الكبيرة من البشر على حدود أوروبا يوضح قسوة هذه الحدود. وهدف الكتاب تحليل طبيعتها اعتمادًا على مصادر عديدة، بما فيها المشاهدة الشخصية.
والكتاب هو تعرية وفضح للعوائق المادية والبيروقراطية، والنتائج الإنسانية والسياسية لمعوقات كهذه. وهو كتاب عن المهاجرين المتسللين وعن المؤسسات والمسؤولين الذين يحاولون منعهم من عبور الحدود. وهو أيضًا كتاب عن القوى السياسية التي فتحت المجال أمام قيام حدود كهذه.
السبب أن الحدود ليست فقط خطوطا على خرائط، أو تعبيرا عن مجال السيادة الوطنية، وإنما أيضًا تعبير عن هلع ورُهاب وتوقعات المجتمعات التي تفرضها.
المؤلف يورد مواد تأسيس الاتحاد الأوروبي الذي تهدف إقامته إلى منع تكرار المآسي التي صنعتها الدول الأوروبية بنفسها وبالعالم، ويوضح تناقضها مع التطبيقات العملية على الحدود التي أوردنا بعض الأمثلة عليها. لذا فإن هدف الكتاب إظهار التناقص بين مبادئ الاتحاد الأوروبي كما ترد في دستوره، والممارسات العملية والنظرية.
لكن المؤلف لا يقصر بحثه على أوروبا فقط حيث يذكر بأن تقارير منظمات الأمم المتحدة المتخصصة تقول بعيش نحو ربع مليار إنسان خارج حدود أوطانهم، منهم 50 مليونا من المهاجرين المتسللين، و14 مليون لاجئ و26 مليون نازح داخل أوطانهم.

ما الحدود؟!

حتى نفهم عمق رسالة الكتاب إلى القارئ نحيل إلى تعريفه لها، والذي اختار أن يفتتح الكتاب به، والتي يمكن أن تأخذ أشكالاً مختلفة، إما طبيعية كسلسلة جبال، أو أنهار أو غابات.. إلخ، أو أن تكون محصلة اتفاق بين الأطراف ذوي العلاقة، أو مفروضة فرضًا.
هذه هي الحدود بين الدول، لكن توجد حدود -والقول دومًا للكاتب- في الأذهان، حدود وهمية، بين الحضارة والبربرية، بين الحرية والعبودية، بين الشرق والغرب.. وحدود دموية، كما عرف صموئيل هنتنغتون حدود الإسلام.
الحدود هي إذن ذات هدف سياسي وعقدي. فأقصى عقوبة كانت تنال مواطنا أثينيا في بلاد الإغريق هي الطرد من مدينته، أي فرزه من جماعته الوطنية. لذا فإن إبعاد شخص أو مجموعة من العيش ضمن حدود محددة هو تأكيد طبيعة البلد داخل الحدود، إما بمنع جماعات من دخول بلد ما، أو منع السكان من المغادرة.
وفي أوروبا، كانت أسوار المدن وبواباتها أقيمت أيضًا من أجل منع مجموعات محددة من دخول المدن، وفي جنوبي أفريقيا وضع قانون يمنع دخول أي شخص لا يتكلم اللغة الإنجليزية، كما وضعت أستراليا قوانين مماثلة بهدف منع الصينيين من دخول البلاد، وفي نهاية المطاف سرى القانون على كل قادم إلى البلاد.
وكم من أناس نعرف تباهيهم بامتلاك سمة دخول إلى هذه الدولة الغربية أو تلك، أو بحملهم جواز سفر يمكنهم من دخول كثير من بلاد العالم من دون الحاجة إلى سمة دخول، أو بأنهم حصلوا على سمة دخول شنغن التي تسمح لحاملها بالتنقل في مختلف دول الاتحاد الأوروبي الموقعة على الاتفاقية. هذه كلها تعبيرات سياسية وفكرية، وليست تسهيلات بلا مغزى.

الكتاب

الآن وبعدما عرفنا الرسالة الأساسية والأهم للكتاب، أي البعد السياسي والفكري لكيفية تعامل دول الاتحاد الأوروبي مع المهاجرين الشرعيين والمتسللين وطالبي اللجوء السياسي، نقول إن المؤلف تعامل مع المادة -بمختلف تجلياتها القانونية والفكرية والمادية- عبر 12 فصلا، موزعة على قسمين أولهما: الحدود الحديدية، وثانيهما: عبور الحدود.
لقد وضعت الدول الأوروبية مجموعة من النظم لضبط الحدود في ما يعرف بالدول الحدودية، مثل اليونان، ومالطا، وإيطاليا، بهدف التحكم في عملية الهجرة والتسلل، حيث يعاني المهاجرون شتى أشكال الإذلال النفسي والمادي.
لكن المؤلف يؤكد في الوقت نفسه، أن كل الممارسات والعوائق التي وضعتها دول الاتحاد الأوروبي لم تحد من عدد المهاجرين غير الشرعيين، ولم تؤد إلى خفض عدد الراغبين في الهجرة، عبر أي طرق، وأيًا كان الثمن.
في الوقت نفسه، فإن الممارسات غير الإنسانية للحكومات الأوروبية تجاه المهاجرين والمتسللين، والتي تقارب أحيانًا حدود الوحشية، صارت من الأمور الروتينية بحيث لم تعد تثير اهتمام المواطنين الأوروبيين أو اكتراثهم بممارسات حكوماتهم المتعارضة، بل والمتناقضة أيضًا مع القوانين الدولية المتعلقة باللاجئين والمهاجرين، وحقوق الإنسان، وغيرها من القضايا ذات العلاقة.
الكاتب يؤكد أن ثمة أهدافا عنصرية وراء التهويل من مسألة الهجرة واللجوء، ويعتمد على لغة الأرقام، حيث يبرز حقيقة أن حاجة السوق إلى المهاجرين هي التي تحدد تواجدهم من عدمه. ففي عام 2009 ذكرت شركات طيران لاتينية أن نحو 25 ألف مهاجر من أميركا اللاتينية يحملون وثائق إقامة رسمية في إسبانيا ابتاعوا تذاكر عودة إلى بلادهم، في اتجاه واحد.
وذكر مكتب الإحصاء الإسباني أن عدد المهاجرين الشرعيين الذين غادروا البلاد عام 2008 بلغ 232 ألف نسمة، مقارنة بـ12 ألفا في عام 2006. ومع حلول عام 2009، عاد من بريطانيا أكثر من نصف المهاجرين الشرعيين من أوروبا الشرقية إلى بلادهم، والذين بلغ عددهم نحو مليوني نسمة. وفي عام 2011 عاد عشرات الآلاف من المهاجرين التونسيين إلى بلادهم بسبب عدم تمكنهم من الحصول على عمل في المهجر.
والحد من الهجرة غير المنظمة لا يتم -برأي الكاتب- عبر الممارسات غير الإنسانية لكثير من الدول الأوروبية بحق المتسللين، وإنما عبر سياسة إنسانية تساعد المهاجرين على الاندماج في المجتمعات، وتوفير سبل الحياة الكريمة لهم، هذا إذا ما أرادت حقًا تطبيق مبادئ الاتحاد الأوروبي، وليس عبر زرع الخوف في نفوس مواطنيها، والمبالغة العنصرية في الأخطار المزعومة، التي ستؤدي في نهاية المطاف إلى قيام نظم شبه فاشية هناك.

الجزيرة نت

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى