أوروبا.. لماذا قهرت العالم؟

عرض ومناقشة: محمد الخولي
الناشر: جامعة برنستون، نيويورك، 2016
عدد الصفحات: 288 صفحة

هذا الكتاب محاولة علمية متميزة بالإيجاب والسلب أيضاً في تفسير تفوّق القارة الأوروبية وقدرتها، كما يقول عنوان الكتاب، التي أوصلتها للتغلب على نسبة كبيرة من مساحات وشعوب الكرة الأرضية (84 في المئة) وقد تم لها ذلك عبر أفق زمني تبلغ مساحته بدوره 422 عاماً من عمر الزمان الحديث. ويرى المؤلف أن ثمة عوامل أساسية مهّدت لهذه الظاهرة من التفوق الأوروبي.

وكان في مقدمتها، بالطبع، تحوّل أوروبا من ظلام وتخلف القرون الوسطى إلى إرهاصات العصر الحديث بفضل دخولها حقبة التنوير والكشف الجغرافي والاجتهاد الفكري والتطور التقني خلال عصر النهضة، على أن المؤلف يركز بالذات على عاملين من العوامل يراهما أسّ التفوق الأوروبي على عالم الفترة سالفة الذكر، وأولهما هو اكتشاف البارود..

والثاني هو تطور تكنولوجيا الأداء العسكري من جانب الفرقاء الأوروبيين. وتذهب مقولات الكتاب إلى أن هذين العنصرين، وهما مرتبطان بحكم التعريف بالصراع الحربي، كان من شأنهما تمكين الحكام الأوروبيين من تعبئة الموارد المادية والبشرية التي استخدموها للسيطرة على تلك النسبة الغالبة من مساحات وأقطار الكوكب، وهو ما أضفى على أوروبا مكانة متميزة، خاصة بعد نجاحها في ارتياد آفاق البحار والمحيطات.

هي القارة التي ظلت تحت تأثير أكبر حدثين فاجعين في التاريخ المعاصر، وهما الحرب العالمية الأولى (1914 1918) ثم الحرب العالمية الثانية (1939، 1945). نتحدث بالطبع عن قارة أوروبا بكل ما لها وبكل ما عليها بطبيعة +.

ومنذ انقضاء فترة العصور الوسطى، التي حفلت كما هو معروف، بأسوأ أنماط الحكم وأردأ أنواع الأفكار، وخاصة على صعيد أوروبا التي كانت قد نالت منها صراعات الإمبراطوريات الغابرة واندلاعات الحروب الإقليمية بين أقطارها وإقطاعياتها ودوقياتها، فقد تطلعت القارة المذكورة إلى حقبة ما بعد تلك المرحلة القروسطية المتخلفة المظلمة.

ولم يكن صدفة أن تتبنى القارة الأوروبية دعوات وعناصر وأفكاراً بالغة الإيجابية وشديدة الدينامية كي تأخذ بيد الأوروبيين إلى ما أصبح يطلق عليه الأوصاف المترادفة التالية، عصر التنوير، حقبة النهضة مرحلة الرنسانس (إعادة الميلاد أو الانبثاق الجديد).

ولا كان صدفة أيضاً أن يكون من كوكبة مَن استهدت أوروبا النهضة بأفكارهم وكتاباتهم العقلانية مفكرون وفلاسفة مسلمون، كان على رأسهم فيلسوف الأندلس الأشهر الوليد بن رشد (1126، 1198م) الذي أطلقت عليه أوروبا لقب المعلم، الثاني بعد فيلسوف الإغريق الحكيم أرسطو.

أفيروس.. المسلم العبقري

المهم أن أفكار ودعوات واجتهادات ابن رشد أو أفيروس، كما عرفته وتعرفه الحوليات الأوروبية حتى هذه اللحظة، هي التي فتحت أمام القارة الأوروبية فهماً جديداً، وهو نهج استخدام العقل واتباع سبيل التفكير المنهجي بعيداً عن خرافات وترّهات العصور الوسطى. وكان هو السبيل المفضي بداهة إلى مشارف العصر الحديث بكل ما حفل ويحفل به العصر الحديث من اختراعات وتجديدات وابتكارات غير مسبوقة في تاريخ حياة الإنسان وحضاراته فوق سطح الأرض.

في هذا الإطار، قطعت أوروبا وشعوبها آماداً زمنية من روزنامة العصر الحديث بلغ قوامها بالضبط 422 سنة، هي تلك الفاصلة بين عام 1492 الذي شهد سقوط غرناطة وزوال ممالك الأندلس من ربوع إسبانيا الأوروبية..

فيما شهد أيضاً رحلات دا جاما حول أفريقيا إلى الهند ورحلات كولومبس لاكتشاف أميركا وحتى عام 1914 الحرب الكونية الأولى التي جاءت لتغير أوضاع أوروبا وأنماط سلطاتها وأشكال ما كانت تحفل به مع مطلع القرن العشرين من ممالك وسلطنات ودوقيات وإمبراطوريات.

وعلى مدار تلك القرون الأربعة وتزيد، استطاعت أوروبا أن تغزو مساحات وأرجاءً وأصقاعاً من مساحة الكرة الأرضية المعمورة وبنسبة بلغت على وجه الدقة 84 في المئة.

وهذا هو المنطلق الاستهلالي الذي يصدر عنه مؤلف الكتاب الذي نصاحبه ويصاحبنا طيلة هذه السطور.

سؤال في كتاب

اختار المؤلف أن يبدأ مقولات الكتاب بسؤال بديهي مطروح بات يشكل عنوان كتابنا. والسؤال هو، لماذا قهرت أوروبا العالم؟

بمعنى كيف استطاعت القارة الأوروبية وهي ليست أوسع قارات البسيطة، ولا أحفلها بالسكان، ولا أعرقها في مضمار الحضارة والتاريخ أن تسيطر على العالم؟

مؤلف الكتاب هو البروفيسور فيليب هوفمان أستاذ علم الاقتصاد والتاريخ في كبرى الجامعات والمعاهد البحثية بالولايات المتحدة الأميركية.

وفيما يشكل عنوان الكتاب على نحو ما ألمحنا- سؤالاً كبيراً، فقد كان طبيعياً أن تتفرع عنه أسئلة أكثر تفصيلاً وربما أشد فضولاً، ومنها مثلاً، كيف استطاعت أوروبا أن تتفوق إلى حيث تصل إلى قمة النفوذ والمَنَعة في العالم طيلة أربعمئة سنة وتزيد على نحو ما عرضنا، ثم تتغلب على أقوام كان لهم باعهم الطويل ومساهماتهم التي لا تنكر كما يعترف مؤلف الكتاب- في دفتر التقدم البشري، ما بين الصينيين واليابانيين إلى العثمانيين أو أمم جنوب آسيا.

عن الفصول والملاحق

نقلب صفحات هذا الكتاب، يسترعي الانتباه من الوهلة الأولى أن المتن يقع في 7 فصول، فيما يتلو النص 5 ملاحق أو تذييلات، وهو ما يكاد يعكس منهج الدقة البحثية التي يصدر عنها مؤلف هذا الكتاب.

وفيما كان من الطبيعي أن تحفل الملاحق أو التذييلات بأمثلة داعمة لطروحات المؤلف، ما بين ملحق عن أسعار ومعدلات نمو الإنتاج في القطاع العسكري الأوروبي، إلى ملحق آخر يعرض لما يصفه المؤلف بأنه نموذج الحرب والتغير التقني وهو النموذج الرافض لجوانب الاقتصار على مجرد التنظير والمهتم أكثر بما يصفه الكتاب بأنه التعلم من خلال العمل أو الممارسة العملية.

أما فصول الكتاب السبعة فمنها ما يعرض مثلاً إلى الفرق بين غرب أوروبا وبقية الأصقاع الواقعة في شرقيها تلك المعروفة باسم أوراسيا- ومن الفصول ما يركز بالذات على وقائع الثورة الصناعية الذي انبثقت في أوروبا الغربية مع ما تبع ذلك من تغيرات في القوة الأوروبية المسلحة ومن ثم فقد جاء استخدامها سواء لخوض الحروب على جبهات شتى أو لفرض حالة يطلق عليها المؤلف الوصف التالي: السلام.. المسلح.

ثم يضم الفصل الخامس وقفة تاريخية وتحليلية أيضاً عند ما يطلق عليه الكتاب العبارة التالية: تكنولوجيا البارود، وهو يربط بين التكنولوجيا المذكورة أعلاه وبين ما يسميه أيضاً بأنه الرحلات أو الحملات الخاصة التي تولّى أمرها أفراد، ومن ثم تحولت ثمارها إلى مكتسبات عامة قومية إن شئت، وما لبثت أن أضفت عليها حكومات أوروبا أوضاع سلطاتها ومظاهر نفوذها إلى حد ليس بالقليل.

البارود والتكنولوجيا

هنا يصادف القارئ المدقق أهم المحاور التي تقوم عليها مقولات هذا الكتاب، المؤلف بغير مواربة لا يعزو تفوق أوروبا على عالم القرون الأربعة التي ألمحنا إليها، إلى بعثات النوايا الحسنة.. ولا إلى أفكار الإصلاح أو التنوير أو رسالة الحضارة المطلوب نقلها إلى الإنسانية، ببساطة مباشرة يوجز البروفيسور هوفمان تصوراته لأسباب تفوق أوروبا انتصارها وتحولها إلى عنصر يغزو العالم، على النحو التالي: السبب هو المركّب الذي يضم عنصرين وهما: البارود والتكنولوجيا، وعلى نحو أكثر تفصيلاً يتمثل السبب في اكتشاف البارود وتطور التكنولوجيا العسكرية.

في هذا السياق يورد مؤلف الكتاب الظروف الأربعة الأساسية التي هيأت ومهدت المجال لنجاح أوروبا في استخدام هذين العنصرين البارود والتكنولوجيا، ثم يبسط الكتاب الحديث على النحو التالي:

أولاً: إن التوصل إلى اكتشاف البارود كسلاح ماضٍ من أسلحة القتال، كان يستلزم حلقات متصلة من اندلاع الحروب واحتدام الصراعات العسكرية وكان هذا الوضع سائداً في أوروبا، بعد انقضاء زمن العصر الوسيط.

ثانياً: إن الحروب كانت تتيح لحكام أوروبا تجميع مبالغ طائلة من الأموال ومقادير بالغة الضخامة من الموارد وهو ما زاد من الإمكانات التي تم استخدامها لصالح تطوير تكنولوجيا الصراعات العسكرية.

ثالثاُ: إن الحكام ومَن والاهم من الأعوان والمتنفّذين لم يقصروا في استخدام سلاح البارود بل توسعوا كثيراً في استخدام هذه التكنولوجيا العسكرية التي كانت مستجدة لصالح أوروبا.

رابعاً: إن هذه الاستخدامات صادفت قبولاً على نطاق واسع، سواء في الداخل حيث عادت بالثمار على المحكومين، أو في الخارج حيث حسمت معظم المعارك لصالح أوروبا تفوقاً وفوزاً ومنعة وامتيازات.

موارد إضافية من المستعمرات

يرى الدارسون أن الاقتصار على البارود والتكنولوجيا العسكرية المتطورة بوصفهما العنصر الأساسي للتفوق أو الانتصار الأوروبي، أمر لايزال بحاجة إلى استكمال. بل إن الكتاب لا يلبث أن يشير كذلك في فصوله الأخيرة إلى استفادة أوروبا من الموارد التي حازتها بفضل حروبها أو حملاتها غزواتها (الاستعمارية) الأولى في أفريقيا وآسيا، على سبيل المثال.

هذه الموارد، ذات القيمة المضافة العالية، هي التي عززت إمكانات القارة الأوروبية على مداومة تفوقها وانتصاراتها في العالم إلى حدود اندلاع الحرب العالمية الأولى، على نحو ما أسلفنا في صدر هذه السطور.

وهنا أيضاً يُلمح المؤلف إلى عناصر أخرى شهدتها الآونة شبه الأخيرة المتمثلة زمنياً في سنوات القرن التاسع عشر، تلك التي عايشت تطور ونضوج ما أصبح يعرف باسم الثورة الصناعية التي كانت أوروبا مهدها وراعيتها بالدرجة الأولى.

هناك أيضاً تجلت الإرادة التي انطلقت منها أوروبا لارتياد ومن ثم غزو البحار، والسبق هنا يرجع إلى البرتغاليين الذين كانوا يطمحون إلى اكتشاف الهند والحصول على كنوزها، والشيء نفسه يصدق على الإسبان، جيرانهم في شبه جزيرة أيبيريا، بالنسبة لسيطرة الإسبان على أصقاع أميركا اللاتينية التي مازالت معظم أرجائها تتكلم لغة الإسبان حتى اليوم.

أخيراً، يعرض المؤلف مع الطروحات النهائية لهذا الكتاب إلى ميزة أخرى يراها من حق أوروبا ومن عوامل تفوقها. وهذه الميزة هي ارتياد شكل (نظام) الدولة الحديثة وهي الدولة الوطنية أو الدولة القومية، القادرة على حشد مواردها وتوحيد كلمة رعاياها (أو مواطنيها) لصالح أهداف قومية وطنية محددة، أياً كان الرأي في نوعية أو حتى في مشروعية تلك الغايات أو الأهداف.

الاقتصاد يعزز التاريخ

يلاحظ قارئ الكتاب أن المؤلف لا يكتفي بمتابعة السرد التاريخي للوقائع الزمانية التي كفلت تحقيق التفوق بل والانتصار لصالح أوروبا، وإنما المؤلف بحكم أستاذيته في علم الاقتصاد والتجارة، يعمد إلى إسناد طروحاته بشأن تطوير أوروبا لجوانب تكنولوجيا الصراع العسكري، فيبادر بقدر ما يتسم به من البراعة إلى اتباع منهج التحليل الاقتصادي.. حيث يتبع أحجام الناتج الإجمالي وتطور وأسعار المستهلكين وتطورات المنظومة الاقتصادية في تلك العصور البعيدة عبر أقطار شتى وثقافات متباينة من خارطة العالم، وإن كان الإمعان في هذا السياق يصل به إلى مشارف، بل مهاوي الدقة العلمية، التي دفعت إلى طرح سؤال بغيض كما نتصور في أحد فصول الكتاب.

والسؤال يتعلق بما يصفه المؤلف على النحو التالي: ترى كم كانت إنتاجية الجندي؟ (الأوروبي بطبيعة الحال).

وبديهي أن إجابة هذا السؤال ترتبط للأسف بعدد الضحايا الذين كان يمكن أن يلقوا حتوفهم على يد الجندي المقبل من أقطار أوروبا، صاحبة البارود والتكنولوجيا، إلى دواخل أفريقيا وأدغال آسيا وأغوار البحر الكاريبي وأصقاع أميركا اللاتينية.

إلا أن الأمر ظل يتعلق في تصورات مؤلف الكتاب بموضوعية البحث العلمي الذي يقارب نهج البحث الإكلينيكي أو الأمبريقي الذي يبادر بغير عواطف إلى طرح مثل هذه التساؤلات الصعبة في محاولة لسبر الأوضاع الظواهر المبحوثة، والتغلغـل إلى أعمـاق الأمـور.

قدرة أوروبا على التفوق

يعزو المؤلف قدرة أوروبا على التفوق إلى الظاهرة التي تمثلت، كما هو معروف، في اكتشاف طاقة البخار، وبعدها طاقة الكهرباء ثم فتوحات البث اللاسلكي واستخدام الطيران، حتى مع التسليم بحكاية البارود أو التكنولوجيا العسكرية، وخاصة بعد أن استطاعت أوروبا القرن 19 أن تحقق الإنجازات المذكورة أعلاه، فإذا بها تعزز استخدامات البارود ذاته في أشكاله المختلفة، فيما أضافت أبعاداً غير مسبوقة وقدرات متميزة على تطور تكنولوجيات الحرب والقتال التي اتخذها مؤلفنا محوراً لهذا الكتاب.

المؤلف

استكمل الدكتور فيليب ت. هوفمان علومه على مستوى الدرجة الجامعية الأولى ثم الدراسات العليا في عدد من الجامعات المهمة بالولايات المتحدة ومنها جامعتا يال وهارفارد، حيث تخصص بعدها في اقتصاديات الأعمال التجارية وعلم التاريخ.

ويعمل حالياً أستاذاً للعلوم الاقتصادية والتاريخية في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا. وقد أصدر المؤلف عدة كتب نال عنها العديد من جوائز التقدير، ومنها كتابه »النمو في مجتمع تقليدي«، وكتابه »أسواق بغير أسعار«. ويتميز كتابه »البقاء، الاستمرار بعد الخسائر الفادحة« بأنه يشمل تحليلاً موضوعياً للأزمات الاقتصادية، وقد نشرته جامعة هارفارد في أعقاب الأزمة المالية التي وقعت في عام 2008.

صحيفة البيان الأماراتية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى