أوهام المثقف العربي بين نهاية السياسة وسقوط اليوتوبيا

هذا الكتاب، وكما أراده مؤلّفه الناقد الثقافي الدكتور يحيى بن الوليد، بحسب التمهيد له، هو كتاب في «نقد المثقّف»، وهو في رأينا كتاب في «تشريح» فئة المثقفين العرب، إلى فئات متعددة ومختلفة. ويأتي كتاب ابن الوليد هذا في خضمّ مرحلة كثرت فيها القراءات لواقع المثقف العربي، وتعددت الآراء ووجهات النظر، في ظل ما يعيشه المجتمع العربي من أمراض وعيوب، مختبئة وظاهرة، وذات أبعاد ثقافية، عيوب تفترس بنيانه الثقافي والسياسي. والغريب أن ما يحدث هنا، يحصل باسم «ثقافة محدّدة» على نحو ما، وهي الثقافة التي «تتمظهر بأشكال متداخلة: هجينة في أحيان، وهابطة في أحيان أخرى وكثيرة» بحسب المؤلف.

الكتاب الذي جاء بعنوان سجاليّ، ولكن استفزازيّ «في أنماط المثقفين العرب وأدوارهم وتشظياتهم» وعنوان فرعي هو «مقالات ساخطة» (الدار الأهلية- عمّان 2018)، واشتمل على تمهيد وعشرة فصول، بدا- ومنذ التمهيد الذي حمل عنوان «خرائط الّلامفكَّر فيه»- بدا ساخطاً و»مقاتلاً» في عرض أطروحاته حول أصناف من المثقفين العرب، مع «الانفتاح على الأنثروبولوجيا السياسية بصفة خاصة، والعلوم الاجتماعية بصفة عامة»، معتبراً أن «أهمية النقد الثقافي تكمن في هذا الانفتاح، وعلى النحو الذي يجعل منه «كرنفالاً أكاديمياً»، وبغير المعنى التنقيصي للعبارة» كما يقول ابن الوليد.

ومنذ التمهيد أيضاً، يذهب ابن الوليد للتلميح إلى الأفق الذي يتحرّك في إطار منه، أفق يتحاشى الاتكاء على أيّ نوع من الاعتقاد (الصنّمي) الذي بموجبه يتمّ الإعلاء من النقد الثقافي وعلى النحو الذي يجعله قادراً على تفسير جميع الظواهر، وبما في ذلك ظاهرة «أمراض الحالة العربية» ذاتها… فهو لا يملك هنا سوى «مناقشة بعض خيوط القصة، وما يترتّب عليها» كما يقول نقلاً عن البروفيسور الأميركي راسل جاكوبي في كتابه «نهاية اليوتوبيا». هذه الكتابة، كما أعتقد، هي كتابة جدَليّة وسجاليّة بامتياز، وأبرز ما يميّزها هو انطلاقها من موقع وموقف استراتيجيين في «النقد الثقافيّ»، نقد ينطلق، في الأساس، من رؤية تستهدف، وبوضوحٍ شديد، تدمير كلّ ما هو كولونياليّ النسق والمكوّنات. وهذا ما سبق ووجدناه في كتابات ابن الوليد عن إدوارد سعيد وعن محمد شكري، وغيرهما، حيث بدت النزعة التدميرية متمثلة في لغة وأدوات وأساليب حادة في تشريحها للخطاب الكولونيالي وما بعد الكولونياليّ.

وفي كتابه هذا، يتناول ابنُ الوليد، بالتشريح والتفكيك والهجوم أحياناً، أنماطاً من المثقّفين العرب، تنظيراً وسلوكيّات، انطلاقاً من الراهن في صورة أساسيّة، ليقدّم لنا ما يشبه «نقد الفكر اليوميّ»، بحسب العنوان الشهير للمفكر الماركسيّ الراحل والمعروف مهدي عامل. هذا على رغم عدم التزام الناقد بمنهج محدّد من مناهج النقد السائدة والمكرّسة، بل هو يُفيد في تحليله وتشريحه من مناهج ومدارس الفكر الحديث، في تركيبة إبداعية فريدة.

إنّ عناوين الفصول العشرة في الكتاب، تحيل على مناهج وتيارات عدة، بخصوص تصنيفات المثقف السائدة، بدءاً من «المثقف العضويّ» كما نظّر له أنطونيو غرامشي، وصولاً إلى «المثقف النوعيّ» الذي لا يفرط في «أخلاقيات الالتزام» تبعاً لميشال فوكو أو «المثقف المنشق والنقديّ» تبعاً لإدوارد سعيد أو «المثقف الجذريّ» تبعاً لتيري إيجلتون، و «المثقف الملتزم» عند جان بول سارتر، وما بينها من أصناف المثقفين «البؤساء» كما أحبّ أن أطلق عليهم بناء على أوضاعهم وظروفهم وعلاقاتهم وارتباطاتهم، خصوصاً في علاقتهم بمفهوم الثقافة والعمليّة الثقافية من جهة، وبالسلطة وأصحابها من جهة، وبالمجتمع ومكوّناته من جهة ثالثة.

هذا ما تحيل عليه كتابة ابن الوليد في هذا الكتاب عموماً. أما في التفاصيل، فهي شديدة الغوص في «بؤس» الحياة الثقافية العربية، و «بؤس» المثقف العربي. وإذ إننا لن نتمكّن من الدخول في التفاصيل، فسوف نكتفي بالتوقف عند أبرز ملامح هذين «البؤسين»، لأننا حيال كتاب سِجاليّ، وأعتقد أنّه سيثير الكثير والكثيرين الذين سوف يشاهدون أنفسهم في مراياه وفصوله المتنوعة و «السليطة اللسان»، التي تغطي خريطة واسعة من الفئات والشرائح والأنماط المختلفة.

المؤلف، مثلاً، يستبدل بخريطة «المفكّر فيه» خرائط «اللامفكر فيه» داخل الفكر العربي المعاصر، مهتدياً، في هذا السياق، إلى موضوع نقد المثقف أو موضوع «المثقف… معكوساً». وهذا المثقف، بدل أن يكون «نقديّاً»، وبدل الخوض في «حقول الألغام»، نراه يكرّس حالة «الانبطاح» في العلاقة مع السلطان (القديم- الجديد). وهذه حالة تصل ما بين المثقف الشعبوي والأكاديميا الشعبوية.. الأكاديميا التي من المفروض أن تنأى عن التسطيح والتسليع والتهييج، كما يرى ابن الوليد… الأمر الذي قاد إلى «الحصيلة الثقيلة: ثقافة التدمير، وثقافة الادّعاء، ومرض الذاكرة، ومكبوت الفحل السياسيّ… وصولاً إلى ما هو أخطر، وهو ثقافة الكراهية…»، وهو ما «يحفّز (الباحث) أيضاً على أهمية البحث في موضوع «شللية المثقف»، من خلال موضوع «خصي المثقفين».

على هذا النحو يصنّف المؤلف «مجموعات» من المثقفين، فنجد المثقف «التابع» للغرب، والمثقف التكنوقراطي، ومثقف الدولة، ومثقف الحكومة، ومثقف الحزب، ومثقف المؤسسات… إلخ. لكن هذا التمييز لا يعني أيّ نوع من الفصل بين هذه الأنماط التي ترتدّ إلى الجذر ذاته الذي هو جذر السلطان الذي «يتشخصن» من خلال مؤسّسات مثل الدولة والحكومة والحزب والمهرجان… «المثقف المساير» أو «المثقف الواقع أسفله».

هذا في الوقت الذي تزحزحت فيه، من جوانب عدة، صورة المثقف الملحميّ، أو المثقف الزعيم الذي كان ينزل إلى الشوارع ويشارك في التظاهرات والوقفات الاحتجاجية، والذي كان «يؤطر العقول ويسلب القلوب». وبدلاً من مقولة ميـــشال فوكو «حيثما توجد سلطة توجد مقاومة»، فإنه في حال مثقفنا بات يمكن القول «حيثما يوجد سلطان يوجد انبطاح». فقد تجاوز مثقفنا حال التقرّب والممالأة والتكيّف والتأقلم والاصطفاف… بل تجاوز التواطؤ والخيانة والخضوع والطاعة والنفاق… نحو «نزيف الانبطاح»، ومن دون أن يدري- أو بالأحرى هو يتجاهل- أن «من شارك السلطان في عزّ الدنيا فقد قاسمه ذلّ الآخرة».

ويعتقد ابن الوليد أن واحدة من «آفات» المثقف المعاصر، اعتقاده في «أفول السياسة» و «نهاية اليوتوبيا»، وحتى نهاية الأيديولوجيا، بدليل أننا نعيش ما يعرف بـ «المجتمعات ما بعد السياسية»، كما يسميها جاك رانسيير، تلك المجتمعات التي لم تعد السياسة فيها هي المقوّم للهوية الجماعية المشتركة، ولا المحدّد لهوية الأفراد. معتبراً أن على المثقف تعضيد سنده النقدي بعيداً من لوثة الخوف (غير المبرّر) التي بموجبها يتوارى عن التأكيد على أن العصر الذي نعيش فيه هو «عصر الثقافة» و «عصر المثقفين». الثقافة التي من دونها لا تتضح مشكلات الذاكرة والهوية والمجتمع والناس… والعصر.

ونختصر فنقول إن رؤية ابن الوليد للمثقف تتكثف في علاقة هذا المثقف مع الفضاء العام، إذ «لا يمكن لهذا المثقف أن ينجز حريته أو سلوكه الإنساني، إلا من خلال الفضاء العام بمفاهيمه المركزية المتمثلة في حرية الرأي ومقولات الفكر وقيم الأخلاق».

صحيفة الحياة اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى