أيلول وكتاب «الهويات المسلمة» (حمّود حمّود)

 

حمّود حمّود

لا يبدو أنّ مفاعيل واستحقاقات 11 أيلول (سبتمبر) 2001 انتهت أو أنها ستنتهي في التاريخ القريب، وبخاصة لجهة التأثير في مجال الدرس الإسلامي في الغرب وما يعنيه ذلك من تناسل المئات، إنْ لم نقل الآلاف، من الأبحاث والدراسات التي تشتغل على إعادة تكوين صورة عن الإسلام في الشرط التاريخي المعاصر. وربما لا نُجانب الصواب إذا قلنا أنّ استحقاقات أيلول هذه، هي الدافع الأساسي، على المدى البعيد، وراء ما صدر حديثاً (2013) عن كولومبيا كتاب «الهويات المسلمة: مقدمة في الإسلام» للمؤلف آرون هيوز، وهو المختص أساساً بالدراسات اليهودية (Aaron W. Hughes, Muslim Identities, an introduction to Islam, Columbia University Press, 2013).
لكن لماذا أيلول و «الهويات المسلمة»؟ يعترف هيوز بأنه لا تزال هناك في الغرب صورٌ غير دقيقة تُصوّر المسلمين عامةً وفق تنميطٍ هوياتي عنيف كان سببه تنظيم القاعدة الإرهابي الذي كان وراء ضرب برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك ومبنى وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) وما خلفه ذلك من استحقاقات دولية خطيرة، بخاصة على العالمين العربي والإسلامي. إنّ مثل هذه الصور عن المسلمين يحاول هيوز إعادة بنائها. لكن، ومن أجل هذا، كان عليه القيام برحلة طويلة تتناول كل ما يتعلق بالإسلام: من عرض سريع لأهم أحداث السيرة النبوية (لا بل حتى الذهاب، تاريخياً، إلى مرحلة ما قبل الإسلام) إلى تناول مرحلة الخلفاء الراشدين، فالخلافة الأموية ثم العباسية وتشكل الدويلات والممالك الإسلامية… هكذا حتى يصل إلى التاريخ المعاصر وما خلفته أحداث أيلول، وكل ذلك في سبيل القول إنه ليس هناك تاريخياً، لا في الماضي ولا في الحاضر، هوية مسلمة «واحدة» يمكن أن تُعتبر «معيارية» في تصوير الإسلام والمسلمين، كما أنه ليس هناك إسلام واحد، بل اتجاهات مسلمة متعددة كلّ واحدة منها تقول إنها تُمثّل الإسلام الصحيح. وبالتالي من الخطأ، كما يشدد الكتاب، أخذ جهة بعينها من المسلمين والادعاء أنها تمثل الإسلام. من هنا فكرة الكتاب الأساسية «الهويات المسلمة».
ما يقصده المؤلف بـ «الهويات المسلمة» الرؤى المتعددة للإسلام التي ظهرت في التاريخ، وما زالت، (ص9)، كقوى وتشكيلات اجتماعية معقدة ساهمت في تشكيلها سياقات تاريخية مختلفة وعوامل سياسية واجتماعية…، وهذا على رغم أنّ هيوز لم يشر إلى درس الهوية بنحو مباشر، وإنما يدعو إلى قراءة ذلك من خلف المعالجات لكل ما يتعلق بالاتجاهات الإسلامية التي تناولها. هكذا، كانت له وقفة في تناول تشكّل الاتجاهات «السنيّة» و «الشيعية» في العالم الإسلامي منذ البواكير الأولى، لكنْ بقي هذا التناول سطحياً ولم يأت بجديد، فضلاً عن أنه أوقع نفسه في مطبات منهجية، هذا إنْ لم نقل، تناقضات في عوامل تشكل الهوية: فهو من جهة يرفض رفضاً قاطعاً ويحذر من تصنيف الصحابة الإسلامية الباكرة التي انضوت في إطار الخلافة الراشدة والخلافة الأموية بكونها تنتمي إلى «السنّة»، وكذا الأمر يرفض تصنيف داعمي عليّ بن أبي طالب على أنهم ينتمون إلى «الشيعة»، ذلك أنه من المبكر في تلك المرحلة تصنيف طائفتين مختلفتين ثيولوجياً وتشريعياً؛ وهذا صحيح إلى حدّ ما، والمؤلف يرى أنّ هذا التصنيف لن يأخذ مداه إلا في القرن الثامن (ص119)، لكن بعد صفحتين فقط يعود المؤلف ليؤكد «حقيقة»، كما يقول، أنه نشأ بعد وفاة الرسول بارادايمان اثنان مختلفان و «متميزان» (هكذا) في القيادة والحكم، الأول يستند إلى ضرورة «الإجماع» في حكم الأمة (وهو ما سيتطور في الأجيال اللاحقة في حكم الغالبية)، بينما البارادايم الثاني الذي يعزوه إلى «مشايعي» عليّ فيؤكد ضرورة العوامل المؤهلة للحكم داخل إطار «أهل البيت» فقط وأسلافهم (ص121-122).

خلل في الميثودولوجيا؟

يميز المؤلف في الدراسات التي تتناول الدين، عموماً، بين، أولاً، «الدراسات الأكاديمية»، التي تتناول الدين من غير الاستناد إلى ما يقوله أتباع الدين عن أنفسهم، بل وفق ما تمليه القواعد النقدية والتاريخية والسوسيولوجية…الخ، وبين، ثانياً، «الدراسات الثيولوجية» التي تنبع من داخل الدائرة الدينية والتي تتناول الدين وفق منظورها. ويستند هيوز بذلك، ربما، إلى تقسيمه المنهاجي الأصلي فيما دعاه «جدل الداخل والخارج» في تناول الدين «insider–outsider debate» (ص5). وهذا ما دعا هيوز، بدءاً من هذه النقطة، ومروراً على مدار الكتاب كله، لأخذ موقف وسطي في معظم القضايا التي تطرق إليها في درسه، رافضاً في عمقه، على ما أعتقد، أنْ يُحسب على أيّ جهة نقدية أو فكرية بعينها. فهو يتعرض، مثلاً، لإشكال المصادر الإسلامية والجدل الشديد حولها بين المستشرقين: بين الفريق الذي يقبل رؤية ما تقدمه المصادر الإسلامية (مونتغمري وات بخاصةً)، وبين من يرفض الاستناد إليها بحجة أنها غير تاريخية (جون وانسبرو، باتريشا كرون، مايكل كوك…الخ) وهو يحاول أن يقف موقفاً وسطياً بينهم. لكن لم تخلُ هذه الوسطية في كثير مما تم عرضه من خلل ميثودولوجي:
وسطية هيوز، بالمعنى الدقيق، هي وسطية غير نقدية: إنه لا يكتفي، فحسب، بعرض الآراء المختلفة، من غير ضبط سياقي منهاجي لها (فضلاً عن أنه لم يأتِ بشيء جديد سوى النقل من هنا وهناك)، بل إنه يترك الآراء كذلك مشرعة من غير أخذ موقف نقدي/معرفي منها، أو تقويمها، الأمر الذي يجعل القارئ أمام خليط من الآراء الكثيرة، وكل رأي يضرب الآخر، وهذا لا ينطبق على قضية محددة بعينها، بل على كل الكتاب من أوله إلى آخره. وأكثر من ذلك، إنه على رغم إظهاره أخذ مسافة محايدة، لكننا نجده بعض الأحيان، من وراء الستار، يظهر تحيزاً لطرف دون آخر، وأيضاً من غير تبرير نقدي أو تاريخي. هذا ما لوحظ في قضية تعامله مع إشكال المصادر الإسلامية، اذ ينحاز إلى الآراء التي كان قد أدلى بها وانسبرو وفريقه من المدرسة التشكيكية، وهي المدرسة الأنغلوساكسونية (انظر مثلاً الآراء التي عرضها ص57)، وللأسف لا يحدد لنا في هذه النقطة مصدر معارفه.
هل السبب في ذلك أنّ المؤلف هو مجرد «ضيف» على الدراسات الإسلامية وليس صاحب اختصاص فيها بالأصل، حتى يتناول كل قضايا التاريخ الإسلامي، ماضياً وحاضراً، جملة واحدة وفي مؤلف واحد!؟ إذا كان الأمر كذلك، فهذا إشكال كبير. وبالفعل، هناك كثير من الأقلام، بغض النظر عن النوايا، أصبحت تكتب بالإسلام وقضايا المسلمين مما هبّ ودبّ، وبخاصة بعد أنْ أثارت أحداث أيلول قريحة الكثيرين، الأمر الذي وضع الدراسات الإسلامية أمام منعطف خطير ومستقبل مصائره مجهولة. ونتذكر كلمة فرد دونر حينما وصف مثل هذه الدراسات بأنها «تتمتع بالفوضى». نقول هذا الكلام لا لنبخس الكتاب حقه أو لنقلل من الجهد الذي بدا واضحاً على صفحات الكتاب. إلا أن الكتاب افتقر إلى النقد والمنهجية، وبدل التركيز على موضوع أو مواضيع قليلة في إطار ميثودولوجي محدد، قام بالمرور على كل قضايا العالم والتاريخ الإسلامي، من دون أنْ يركز نقدياً على أيّ قضية ويعطيها حقها من الدرس.
الكتاب يبدأ من أيلول وينتهي بأيلول، وذلك في كل ما ارتبط به من استحقاقات أثرت في تنميط الإسلام والمسلمين وفق رؤية واحدة في العالم الغربي (ولا ينسى اسم دانييل بايبس وغيره من الأسماء التي وقف عندها). إنّ جعل أيلول بمثابة المنطلق والمنتهى في كتابة كتاب ضخم عن الإسلام، كما هي حال الكتاب الذي بين يدينا، ولو أخذ الموضوع شكل «تقديم» (غالباً للقارئ الغربي)، هو ما يجعلنا نضع الكتاب ضمن قائمة الدراسات والأبحاث التي ما زالت تتناسل بكثرة «جراء» أيلول من غير إلمام نقدي كافٍ بالمواضيع والقضايا التي يتم التطرق اليها.

صحيفة الحياة اللندنية

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى