إيلينا فيرّانتي تروي قصص «الهاربين والباقين»

نادراً ما تشكّل روايةٌ ما طفرةً أدبيّةً أو تجتذب إليها اهتمام المشهد الإعلاميّ العالميّ بأكمله. نادراً ما تشكّل هويّة روائيّة مبعث جدال وشكّ ومصدر ارتباك أدبيّ. إنّما هذا ما حقّقته الكاتبة الإيطاليّة المجهولة الهويّة والمختبئة خلف اسم إيلينا فيرّانتي بأسلوبها الحكواتيّ المتوهّج والسلس في الآن نفسه. فمنذ عام 2011 وتشكّل فيرّانتي ورباعيّتها الإيطاليّة المعروفة برباعيّة نابّولي محور جدل ونقاش ومحطّ إعجاب النقّاد. وعلى رغم أنّ صحافيّاً ادّعى اكتشافه هويّة الكاتبة الحقيقيّة الكامنة خلف اسم إيلينا فيرّانتي، إلاّ أنّ المسألة لا تزال قيد الشكّ لعدم إدلاء دار النشر بأيّ تصريح ينفي أو يثبت صحّة هذا الادّعاء.

وبترجمة أنيقة جميلة سلسة، تدخل إيلينا فيرّانتي الروائيّة الإيطاليّة المكتبة العربيّة مجدّداً، بالجزء الثالث من رباعيّتها «صديقتي المذهلة، الهاربون والباقون». وقد صدرت عن دار الآداب رواية «الهاربون والباقون» (2018) لتكمل الجزء الثالث وما قبل الأخير من الرباعيّة وتنقل هذه الرائعة العالميّة إلى القارئ العربيّ. وقد تمكّن المترجم السوريّ معاوية عبدالمجيد من المحافظة على جماليّة أسلوبه في ترجمة هذا الجزء الثالث، هو الذي ترجم الجزءين الأوّلين السابقين بمجهود ملحوظ.

تتابع فيرّانتي في هذا الجزء أحداث حياة فتاتيها لينو (الراوية) وليلا (الصديقة المذهلة والبطلة) اللتين أصبحتا امرأتين في هذه المرحلة وهي مرحلة «أواسط العمر». فمن بعد الجزء الأوّل الذي تطرّأت فيه إلى الطفولة والمراهقة، والجزء الثاني الذي انكبّت فيه على عمر الشباب، تنقل فيرّانتي بدقّة وواقعيّة وأسلوب الحكاية الرائع والراقي الذي تتمتّع به، تنقل قصّة بطلتيها في سبعينات القرن العشرين، أيّ وهما في عشرينيّاتهما وبداية ثلاثينيّاتهما. فيجد القارئ نفسه أمام قصص حبّ ومتاهات الصداقة وخبايا السياسة. يجد نفسه عالقاً في إعصار الزواج والطلاق والخيانة والأزمات السياسيّة والاقتصاديّة والصراعات الطبقيّة. ومن الجدير بالذكر أنّ قوّة نصوص فيرّانتي تكمن في أنّها تحت غطاء قصّة فتاتين، تحمل إلى قارئها صورة نابّولي الحقيقيّة بمعتقداتها وأهلها وشوارعها وضوضائها، تحمل صورة نابّولي المتخبّطة بسياستها وعنفها وفسادها ومشاكلها الاجتماعيّة والاقتصاديّة. تكمن قوّة رباعيّة نابّولي بأنّها تختبئ تحت قصّة واضحة لتنقل مجتمعاً بأسره.

رباعيّة المرأة الإيطاليّة

يكتشف القارئ في هذا الجزء الثالث، وعلى صعيد أوّل دواخل امرأتين كبرتا وتعلّمتا معاني الأنوثة والأمومة والخسارة واكتشفتا أنّ العمر يمرّ وهما تغرقان في الحزن والألم: «كانت الشمس، في ذلك النهار الشتويّ الجميل، تضفي على الأشياء مظهراً صافياً. ظلّ الحيّ القديم على حاله، خلافاً لحالنا. صمدت البيوت المنخفضة والمغبّرة. صمد فناء ألعابنا. صمد الشارع العامّ، ومنافذ النفق المظلمة. صمد العنف» (ص21).

كبرت نابّولي وكبرت فيرّانتي وكبرت بطلتاها إنّما بقيت العلاقة بينهما علاقة تابع ومتبوعه، علاقة صديقة مذهلة تثير الرعب والمهابة في نفس الراوية التي تكتبها بدقّة وإجلال: «كنتُ أكنّ لها الودّ، في أيّ حال، وأسعى إلى لقائها دوماً كلّما زرتُ نابّولي، مع أنّي أعترف بأنّها كانت تثير مخاوفي» (ص19). فعلى رغم مرور الوقت، بقيت ليلا تشكّل مصدر إلهام وغيرة ورهبة في نفس لينو الكاتبة المثقّفة التي لا تثق بنفسها ولا بنجاحاتها وتعلم في قرارة نفسها أنّها ليست أهلاً لمنافسة صديقتها في أيّ مجال. ويبدو واضحاً للقارئ أنّ لينو الراوية ترى نفسها فارغة ومملّة وأنّها لم تكن لتمتلك ما يستحقّ النشر لولا وجود صديقتها بقصصها وأحداث حياتها المضطربة. فيتطوّر السرد بتطوّر شخصيّتي الفتاتين ويترسّخ شعور القارئ بأنّ البطلتين لا تثقان بنفسيهما ولا تثقان بقدراتهما كما أنّهما لا تثقان بما قد تحمله لهما الحياة من أمور.

وعلى رغم أنّ لينو انتقلت إلى بيزا ومن ثمّ إلى ميلانو، فهي ما زالت سجينة نابّولي وسجينة صديقتها ولا تتحوّل قصّتها إلى سرد حقيقيّ إلاّ عندما تستعيد صداقتها بليلا. عندها يتوهّج السرد ويصبح متيناً ومتماسكاً وينتقل إلى حياة ليلا المليئة بالأحداث السياسيّة والتخبّطات الاجتماعيّة والفكريّة. وتتحكّم ليلا بمعظم أحداث السرد، فحتّى عندما تكون غائبة عن الأحداث يتبيّن للقارئ وللينو بأنّها هي التي كانت المحرّك لها، إمّا عبر دفعها للشخصيّات باتّجاه معيّن وتأثيرها عليهم، وإمّا بتصرّفاتها هي مباشرةً.

وفي 123 فصلاً، ترافق فيرّانتي حروب بطلتيها التي تجسّد حروب المرأة بالمطلق. المرأة المثقّفة والمرأة العاملة على حدّ سواء. فبواقعيّة دقيقة متماسكة تسلّط فيرّانتي الضوء على أسئلة تجهد كلّ امرأة للإجابة عنها: كيف تحافظ المرأة على أنوثتها من بعد أن تصبح أمّاً؟ كيف تنتشل نفسها من بؤرة الواجبات المنزليّة عندما تصبح أمّاً؟ كيف تحمي طموحها ورغباتها وأفكارها من دون أن تقصّر بحقّ أطفالها؟

تغادر البطلتان في هذه الرواية نابّولي لكنّ نابّولي تبقى الظلّ الذي يخيفهما ويسيطر على تفكيرهما ويحفّز قراراتهما. فلينو لا تزال تخشى شرّ الخشية أن ينتهي بها المطاف مثل أمّها، وليلا تحاول أن تبتعد قدر المستطاع عن الهوّة التي يشكّلها الحيّ بالنسبة إليها بنسائه الضعيفات المهمّشات.

وكما تسير الأمور في الحياة، كما يضطرّ كلّ إنسان إلى أن يكبر، كذلك يحصل مع لينو وليلا، فتكتشفان الزواج والخيانة والكذب. تكتشفان الأمومة والتضحية والألم. تكتشفان المشاكل التي تتخطّى الحيّ. تتعلّمان الصمت والتصرّف بواقعيّة ومنطق ورزانة. تضطرّان إلى اتّخاذ قرارات صعبة. تضطرّان إلى تقبّل الظروف المحيطة بهما. تضطرّان إلى تقبّل المأزق الأكبر: الموت. فتكبر فتاتا نابّولي وتتحوّلان إلى امرأتين تبرع فيرّانتي في صقل شخصيّتيهما بحنكة ومهارة عاليتين.

رباعيّة نابّولي المدينة المضطربة

أثبتت فيرّانتي نفسها روائيّة متميّزة بأسلوبها الحكواتيّ ولغتها الشيّقة الرشيقة بالإضافة إلى اللوحة المتماسكة التي ترسمها لنابّولي. عدا عن أنّها تنقل مشاكل فتاتيها وشخصيّاتها الأخرى، تكمن حنكة فيرّانتي السرديّة في أنّها تنقل صورة المجتمع بأسره، بمشاكله السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة. فيكتشف القارئ الصراع ما بين طبقة العمّال ونقاباتهم من ناحية وطبقة الرأسماليّين الذي يُسمّون بالفاشيّين من ناحية ثانية. ويعلق القارئ إلى جانب الشخصيّات في دوّامة من الخطابات والتظاهرات والمناشير. دوّامة مخيفة تروح تحتدم أحداثها لتصل حدّ العراك بالأيدي والاغتيال حتّى. فتنتقد فيرّانتي بسلاسة مخفيّة مجتمعها على لسان شخصيّاتها وتقول بوصفٍ يشمل مدن إيطاليا ومعظم بلداننا اليوم: «فكان الناس يموتون من الإهمال؛ من الفساد؛ من القهر. وعلى رغم هذا، وكلّما عاد موسم الانتخابات، كانوا يتحمّسون لمبايعة الساسة الذين يجعلون حياتهم لا تُطاق» (ص22).

تصف فيرّانتي مجتمعاً يخشى فيه الأولاد أن يكبروا ليتحوّلوا إلى أهلهم، مجتمعاً تكبر فيه الفتيات ليتزوّجن الشاب القاسي الثري لأنّه أفضل مخرج من المأزق الذي هنّ عالقات فيه، مجتمعاً تتعرّض فيه النساء للتحرّش الجنسيّ في المعامل والمصانع لملل الرجال فقط. تصف فيرّانتي مجتمعاً ذكوريّاً فاسداً قاسياً تضطرّ فيه المرأة للتخلّي عن أنوثتها وأفكارها لتلعب دورها كأمّ وربّة منزل ولتحمي نفسها من الرجل ومن الأحكام القاتلة التي قد تُطلق عليها.

لا تنحصر قوّة فيرّانتي في رباعيّتها هذه في توهّج سردها فقط، بل تكمن أيضاً في قدرتها على نقل الواقع القاسي المؤلم المجحف بلغة رقيقة سلسة شفّافة لبقة حكواتيّة تحوّل قراءة ما يفوق الخمسمئة صفحة إلى رحلة ساحرة ينغمس فيها القارئ ويخشى أن تنتهي قبل أن يروي ظمأ مخيّلته وفؤاده. تنقل فيرّانتي بمهارة سرديّة متميّزة حياة امرأتين ومدينة تنمو ثلاثتها داخل سجن الفساد والعنف والفقر.

صحيفة الحياة اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى