«ابن القبطية» لوليد علاء الدين: هذه كتابة مقلِقة

صدرت أخيراً رواية للكاتب المصري وليد علاء الدين (1973) منحها اسم «ابن القبطية» (دار الكتب خان ـ القاهرة). كتاب مفصلي لأديب قادم من أتون الشعر والمسرح، له غزوات في الأجناس الإبداعية الأخرى.

صدور «ابن القبطية» في هذه الظرفية المشحونة بالعنف باسم الدين وإقصاء الآخر باسم الجنة له أسباب عدة، فالكاتب استطاع أن يدشن فسيفساء حكائية منسجمة ومتكاملة العناصر، فأين تتمظهر معالم الرواية في نص مشوِّش بكسر الواو؟

للقصة زمان ومكان وشخوص، وللحكاية أبعاد، ولا يخلو نص روائي من خصائص إبداعية خالصة تميز الكاتب عن آخرين. يوسف حسين شاب مصري من أب مسلم وأم قبطية. لذا كان عنوان الرواية «ابن القبطية». والأكيد أن وليد علاء الدين تعب كثيراً في اختيار اسم مولوده. هذا شاب يعيش وضعاً نفسياً مهزوزاً جعله يخضع لجلسات نفسية مع طبيب في مستشفى منح له اسم «بي اتش واي للأمراض العصبية والنفسية» بسبب تعرضه لأزمات عنيفة تعود إلى أسباب عدة كزواج حبيبته أمل من رجل لا تحبه اسمه منصور، ولقائه براحيل وقصة الإخصاب الديني التي هزت كيانه العقلي وأدخلته دوامة من الشك والخوف، وفشله في الحصول على وظيفة بعدما ظن أخيراً أنه عثر عليها بوساطة من الحاج سعد، وأيضاً فشله في الاستمرار في عمله في أحد الفنادق الفخمة في شرم الشيخ، وحساسيته المفرطة تجاه قضايا العقيدة، وصراع الأفكار واليقينيات داخل عقله المتيقظ.

باختصار، يوسف ملحمة قصصية وبطل يكاد يتماهى مع الأسطورة والخرافة، وجد نفسه في خضم من المشاعر والأفكار المتضاربة، وهو أعزل إلا من طهر داخلي وأم حنون تتابع حالته.

الطبيب نائل الزغادي الذي يتابع ملفه، وقف في آخر تقرير له على أن يوسف دخل حالةً انتكاسية مفاجئة رغم معالم الشفاء التي بدت عليه بين الحين والآخر: «لكن للأسف، فقد تعرضت الحالة لانتكاسة مفاجئة بعد فترة من الثبات» (ص 6). لكن في الأخير يرفق مع التقرير جملة محورية تهم هاجس وسؤال الكتابة في «ابن القبطية». يقول: «كما نرفق ما نجحنا في حثه عليه من كتابات خلال فترة العلاج بالكتابة» (ص 4)

لنتأمل الكلمات المرفقة بالتقرير الطبي: «نجحنا»، «كتابات»، «العلاج»، «الكتابة».

منذ نشأة الفكر البشري، الكاتب هو الضمير الحي لأمته. وإذا كانت الكتابة تنافساً مشروعاً، فإنها دينامية إيقاظ للضمير الميت للبشرية في أوج طغيانها. لذا، جاء مشروع الكتابة في رواية وليد علاء الدين كجزء من الحراك الإنساني الذي تعيشه شعوب الأرض بسب العنف السياسي والعقدي والاجتماعي والثقافي كذلك، بشرط توافر عناصر الفرادة التي توفرت حتماً في «ابن القبطية». فهل هي منجز سردي ينصت لأوجاع الناس ما بعد الربيع العربي؟ أم أنّها نص يتجاوز الزمان والمكان في امتداد لا مشروط؟

رغم أن العديد من النقاد قد يضعون الرواية في نسقها التاريخي وفي دوامة الصراع الداخلي وتوترات المنطقة برمتها، إلا أنّ قارئ المتن الحكائي سيجد أنّ وليد علاء الدين راهن على الامتداد. ودليلنا أنه لم ترد أي فكرة عن الإرهاصات التحولية التي تعيشها مصر والمنطقة العربية برمتها. لقد جعل من نصه إنصاتاً للوجع خارج بؤرة الصراع السياسي، وركز بأسلوب قصصي حواري تشويقي على فكرة صراع الأديان. لكن قد يتبادر للقارئ أن الرواية هي رواية قضايا كبرى. ظاهرياً نعم، لكن النص الداخلي غني بقلق الكتابة كمشروع لتجاوز محنة المرض والخوف وجنون العظمة.

«ابن القبطية» سلكت مسلكاً مغايراً في السرد، من حيث تقاطع الأزمنة وتداخلها أحياناً، من حيث لغة تحاول أن تعيش معك اللحظة وتربطك بالحدث كأنك تعايشه برفقة البطل: العُرس، الدخلة، حوارات راحيل، اللجنة، شخصية ضباب.

أنجز وليد علاء الدين نصه الروائي من خلال تنويع الكتابة بحثاً عن الفرادة الإبداعية، فإلى أي مدى تفوق في ذلك؟ في لحظة الكتابة، ينشغل الكاتب باللغة العناصر التركيبية المحيطة بها، إلى جانب الأسلوب والعوالم التي يرغب في تناولها. إنها لحظة تكثيف قصوى تتشابك فيها الكثير من الحالات الذاتية والموضوعية، حتى أن الجمل تصبح لها رائحة: «كانت رائحة الجمل ولزوجة العرق ما زالتا عالقتين بأنفه» (ص 35). لذا ركز وليد علاء الدين على التمظهرات التالية: أولاً، هناك الكراسة الزرقاء التي ترافق البطل في رحلة العلاج وتصبح وسيلة للتخلص من عبء الانفصام المرضي الذي وصفه الطبيب «ونجحت محاولات استدراجه إلى استخدام الكتابة كوسيلة للتعبير عن توهماته وهلوسته السمعية والبصرية» (ص5). الكتابة هنا تغدو طقساً استشفائياً بعد فشل العديد من المحاولات، مثل الجلسات الكهربائية. فالبطل مشغول بتوضيب عالمه المكتوب. لنتأمل الجملة التي صوّبها تجاه رأس قلمه: «أيها الرأس الصغير، من أين تأتي بالكلمات؟» (ص 23). إن الكتابة عند يوسف حسين، البطل، تعتبر مدخلاً لفهم العالم من حوله، بعدما استعصى عليه إدراكه بشكل مباشر. الكتابة هنا هاجس يرافق شخصيتنا الأساسية في دوامة الصراع بين شخوص تحاول امتلاكه (راحيل) وأخرى يحاول هو امتلاكها (أمل). الكتابة هنا تتحول فعلاً إرادياً بوجود قلم وكراسة لترجمة ما يعتمل داخل رأس مليء بالهلاوس. وهناك أيضاً الشعر، فوليد علاء الدين شاعر، تتلمذ في مدرسة الشعر بكل عنفوانها اللغوي، وبما يمنحه الشعر من قوة المجاز وبريق الاستعارة. لذا، نتلمس الشعر في العديد من المحطات السردية في رواية «ابن القبطية». ومن تقاليد الشعراء عندما يكتبون نصوصاً سردية أن جلباب الشاعر لا يفارقهم، فتجد نصوصهم ثرية بالتشبيهات والصور الشعرية. وقد استند وليد علاء الدين على توظيف جمل شعرية قصيرة مثل: «شهية كحبة توت في كف ملاك» (ص 71)، «إنها تنساب في الشرح كأنما ترقص» (ص 94)، والأمثلة عديدة في هذا الباب، ثم وظف قصائد من أبيات عدة: «في الليلة ذاتها، كتبنا القصيدة في صياغتها الأخيرة في كراستي الزرقاء» (ص98/99 ثم 100)، ثم أورد مقطعاً شعبياً «يا ستار يا ستار/ نط الغول على باب الدار» (ص 109).

هذا التنويع يعتبر نمطاً إبداعياً يقوي التجريب الروائي في المتن الذي اختاره الكاتب، فيستوي الشعر داخل تفاصيل الحكي، ويندمج معه في روح النص التي تمتد نحو قارئ له حمولة ثقافية ذكية. لذلك كانت الرواية تجربة لغوية لا تؤمن بالتجنيس بقدر حفاظها على دعامات الكتابة الروائية. وأخيراً، يأتي التناص في الرواية. تعددت تعاريف التناص التي تجعل في مجملها مسألة تداخل النصوص فيما بينها هو جوهر التناصية في الرواية، ومن دون الخوض في مغامرات جوليا كريستيفا وجيرار جينيت وشكلوفسكي وآخرين حول تصنيف دقيق لعملية التناص. إنّ رواية «ابن القبطية» تحفل بهذه التقنية الأدبية ونورد بعض النماذج من بينها التناص الاسمي (يوسف – راحيل – مريم – زليخة)، والتناص الرمزي (اختيار اسم ضباب عرنوس. الأول يتداخل مع الغموض والثاني مع طقوس الذبح)، والتناص الاستشهادي (استحضار آيات قرآنية، استحضار مقاطع من سفر التكوين، أغنية هافاناجيلا، رقصة بولكا)، والتناص الحكائي (حكاية يعقوب مع إخوته وأولاده، جلال الدين الرومي)، والتناص اللفظي (التداخل بين جمل قرآنية كتسميته لفصل كامل «أعرض عن هذا» (ص 65)).

خلاصة القول إنّ رواية «ابن القبطية» عمل حكائي يمزج بين التجريب والتجربة، بناء درامي تصاعدي، يبدأ حيث انتهى. إبداع يجسد الكتابة الروائية المقلقة، المخلخلة، المنتجة للمعرفة وهذا سرّ قوتها.

صحيفة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى