احتفاء بديوان «الأرواح الحائرة»: نسيب عريضة ثالث ثلاثة

طوبى للشاعر السوري المهجري نسيب عريضه الذي عذّبته الحياة وخذلته واستمر يشدو! طوبى لنسيب الذي سكن نفسه متصوفاً وأخذ يجلدها، وأهرقه اليأس فاستسلم للأرواح الحائرة حتى أنهكته وقهرت عقلانيته وجمدتها وجلّدتها!
لقد لجأت بعد أن تبين لي أنني عاجز عن الولوج من باب النقد إلى عالم نسيب عريضه… ولا أملك المفاتيح أو أسرار الاقتحام الإلكتروني أو الليزر، لأن أقفز من النافذة مقلداً لصوص الإبداع بعد أن تعلمت منهم أن لكل نص بابه ولكل باب مفتاحه. فلا تلوموني!

نسيب عريضه قيّد شعره بمقاصد ومشاعر وأحاسيس لم يستطع... أو لم يحاول أن يحيد عنها فإذا به ينحت في الرخام تماثيل خرساء، وهنا عيبه، وينفخ في الزجاج المقوى بالنار قوارير ملأى بالتشبب والغزل شبه المزوّر الفاقد لسر الديمومة والحيوية والخلود.

لقد حكم نسيب عريضه على نفسه بأن يبقى معيار الغزل والتشبب والتحبب في شعره صقيعاً بارداً لا بل متجمداً ليس فيه دفء الأسرة الممرغة بعطر الزنى الإلهي ولا يسمو إلى حد الشبق والجنون وتخطي الفراديس عاليها وسافلها.
لقد تجاهل، عن قصد، أو عن إهمال، أو عن جهل، تفاصيل القدود والقامات الردينية والخصور المطواعة، والنهود اللدنة والعيون الملونة بالغواية، والسيقان العاجية، كأنها لا تعنيه ولا تسرق منه الطرف الخجول، وكأنها غائبة عن آصرة الوجدان المتفجرّ في القلب ولا تلامس وجع الأفئدة المجرّحة بشفار الأسنة والرماح… حتى الابتسامات الناعسة كانت تشيح عنها.

ولاحظت أن هذا النسيب الذي عانى من اليأس والكآبة، لم يتشيطن مع المرأة ولم يفسح لها في المجال كي تبادئه هي بالشيطنة ويتفادى أن تغوص إلى القعر إلى أعماق الأعماق، تفتش عن اللؤلؤ والمرجان، إما عن اكتفاء منقوص، وإما عن خوف من الغرق… وإما عن خجل من الفضيحة وإما عن مبالاة واحتقار، وإما عن عدم اقتناع!

ولاحظت أن نسيب ظل متماسكاً في كل قصائده، وظل بإصرار منه، ذاك الوديع… المتواضع… المستكين… الراضي… المكتفي… المقتنع لا ذاك الباحث المنقب كما الآثاريين عن كنوز خبيئة عند الكائن البشري أوفى دخائل الحياة ومكنوناتها… كان يرضى بما هو في متناول ناظريه ويديه… بينما يخفق وجدانه إلى أبعاد رهبانية الانصهار بتولية التنسك!

هذا السلوك لم يكن عيباً في شعر نسيب عريضه… وإن كان حالة شبه بعيدة عن الضجيج والصراخ والجعير والتعقيد والبهلوانية تميزه بما يختزنه في شعر المناسبات من وفاء إلى كائنات تعيش في مدارها وفي سماواتها وتعيش فيه ذكرى كان يحرص أن يرفدها بطيب سريرته ومقاربته الدافئة الساعية بديبلوماسية فائقة الأداء إلى روابط اجتماعية بعيداً عن العنطزة والاستعلاء والتضخيم والاستكبار!

ودود نسيب عريضة في شعره ومثال للوفاء… لم يحاول ولا سعى أن يعدّل ما رسمه بوعيه من مباهج وأفراح، من شدو واشتياق! مقتنعاً بصبوته وصباه! وتحاشى التحولات النرجسية إلى يفرضها تعاقب الأزمن وتبدّل الأمكنة وتأجج الأحاسيس والنظام الشمسي بكل مجراته، سيان عنده المفترقات والتقاطعات والحداثة والعصرنة والموضة في المضمون وفي الشكل بعد أن تجاوز مراحل النضوج… وحاصره فشله في الحياة، لا بل كبّله بأصفاد خليلية رخوة السكب والتشابيه والاستعارات أحياناً حالت بينه وبين التحليق كما النسر الحائر يتساءل أين موطنه في منحنى السفح أم في قمة القمم.

كان هاجسه أن يحمي مقتنياته الروحية والزمنية من الرجس والخمر التي تهزّ الكائن البشري فتزلزل تماسكه وتجرح مشاعره وبنيانه وتشقق فرادته.
قرأت ديوان «الأرواح الحائرة» بلهفة واستعدت قراءة بعض القصائد مرات كما قرأت المقدمات، بعضها ممتع، وبعضها مجوّف، وتبحرت بإمعان مفرط بالتركيز في أوزانه وقوافيه وفضاء السريرة ومساحات الضوء فإذا بي أفاجأ بشعر أشبه بمرايا معتزة بشموخها وفرادتها ولا يضيرها أن تنساب رقراقة كمياه نبع اختارت أن تتفجّر حريتها من تحت جذع شجرة جوز في الجرد العالي لها طيب الجوز الأخضر، ومنافع الجوز اليابس، ونكهة الجوز المسحوق المطيّب لأشهى الحلويات.

لن أدخل في توصيف نسيب من خلال كل قصيدة وكل بيت شعر في كل قصيدة، كما لن أقطف من بساتينه وأحواضه أبياتاً قد تروق لي أكثر من شقيقاتها فلا أنفع هذه ولا أسيء إلى تلك بحجة أن المجال لا يسمح ولا وقت للثرثرة.
صدقوني هذا طبع فيّ لا أحب التفرقة ولا التفريط بالأمانة، فالمواهب المختزنة في الكائن البشري هي من صنع إله معبود، ونسيب عريضة واحد من هؤلاء المختارين الذين خصهم الخالق بالفرادة سواء كان هذا الإله المعبود موجوداً في كل آن وزمان وكل ذرة من ذرات هذا الكون أم سئم من هذه المهمة فعهد بها إلى أحد معاونيه من الملائكة الذين تحولوا شياطين وخانوا الأمانة.

كنت أتوقع حين استلمت مجموعة «الأرواح الحائرة» (صدر الديوان حديثاً عن دار مكتبة بيسان- بيروت) التي تضم كل جناه أن تحترق أصابعي بجمرها، وهو ثالث ثلاثة بعد جبران والنعيمة أعلام «الرابطة القلمية» ولكن اعذروني إذا قلت أن ظني خاب وتبددت توقعاتي وأن كل جهوده تقريباً وكل ولائه لم يخرج به عن التقليد المطيّب بالخجل وعلى هذا الأساس يحق لي الاستدراك لأرفع الصوت عالياً:

ولماذا ارتضيت أن تعيش مع شعرك في ظل كسل مخدر بخصال التنبلة، شعراً رومنطيقياً روحانياً مجنزراً عفا عليه الزمن الأكول!لماذا تخلفت عن أن تكون ضمير أمتك أيها المميّز عن استحقاق وجدارة بشعرك وشعورك؟ ألأنك كنت مقتنعاً فعلاً بأن النضال «حطبة» أو كفن؟

صحيفة الحياة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى