الايزيديات في مواجهة دولة البغدادي

من الصعب والمؤلم في الدرجة الأولى الحديث عن معاناة العراقيين والسوريين الذين وقعوا تحت سلطة تنظيم إبراهيم البدري السامرائي (أبو بكر البغدادي). ظلم ذلك التنظيم اللابشري، وجرائم وحوشه من الزومبي، الذين يسمون أنفسهم مجاهدين، تفوق كل تصور. في الواقع، هم ليسوا أكثر همجية من كثير من الأنظمة، وليسوا أكثر دموية من ممارسات الاستعمار، لكن خيال تلك القطعان فاق غيره.

إذ أن كل تنظيم يأتي إلى المنطقة، متسلحاً بالدين، غطاءً لفظائعه وجرائمه، حتى تلك التي نهت عنها الأديان، يكون أكثر وحشية ودموية مما سبقه. رأينا ذلك على يد الخمير الحمر في كمبوديا، وفي رواندا، ورأيناه في ممارسات الاستعمار البريطاني والفرنسي، ومن بعدهما الأميركي وممارساته في مختلف بقاع العالم.

الوحشية اللابشرية بدأت في الثاني من شهر آب (أغسطس) عام 2014، كان الإيزيديون يحتفلون في بلادهم التي هجر بعضهم إليها خلال فترة حكم صدام حسين، بانتهاء فترة الصوم، حين ظهرت طلائع قطعان «داعش» الآتية من الموصل الذين قاموا بإطلاق سراح المساجين السنة في سجن بادوش، ومارسوا مذبحة جماعية بحق الستمئة سجين شيعي مسلم.

أول ما قامت به قطعان إبراهيم البدري السامرائي هو تجميع الإيزيديين، رجالاً ونساءً وأطفالاً، ثم فرز الرجال وقتل الآلاف منهم في مذابح جماعية أو إلقاؤهم في حفر حيث تركوا ليموتوا جوعاً وعطشاً أو بسبب ضربة الشمس الحارقة، والبدء بتصنيف النساء تمهيداً لاغتصابهن واستعبادهن أو لبيعهن. تم فصل الأم عن بناتها، والفتيات عن أهلهن وأقاربهن. تشيركَاثي أوتن في كتابها «الايزيديات في مواجهة دولة إبراهيم البدري السامرائي» (With ashes on their faces: yezidi woman and the islamic state ــ أور بوكس ـــ 2017) إلى أن ما يقارب الستة آلاف وخمسمئة إيزيدي، معظمهم من النسوة، تم استعبادهم ونقلوا إلى السجون ومعسكرات التدريب في العراق وسوريا. قلة قليلة تمكنت من تحدي السجان والفرار حيث وصلت إلى مناطق آمنة، ليروين معاناتهن تحت حكم الدولة الإسلامية، أو «دولة» الخلافة، على ما يقال.

يروي المؤلف مشاهدات عيان، على لسان مجموعة من النساء والرجال من إيزيديي العراق الذين وقعوا في قبضة البدريستان (البدري ــ ستان)، عندما احتل الموصل وتلعفر وسنجار والقرى والبلدات الإيزيدية في شمالي العراق، وهروب قوات البيشمركة المتمركزة في بلدة كوجو، أمام زومبي الدواعش (البيشمركة قوات كردية أسسها ضابط إسرائيلي في الستينيات بالتعاون مع مصطفى البرزاني والد حاكم برزانيستان، وسنعود إلى هذا الموضوع في مقالة منفصلة). وكلنا نعلم أن مسعود هرع إلى طهران مستجدياً المساعدة العسكرية التي حصل عليها فعلاً بعدما كادت إربيل تسقط في يد قطعان الزومبي الداعشية، لكن ها هو قد ارتد على اليد التي أطعمته وحمته.

الإيزيديون هم جماعة دينية، كردية اللسان، ديانتها تضم طقوساً ومناسك مأخوذة من الأديان المسماة إبراهيمية، منها العمادة، على سبيل المثال. لهم مواقع دينية كثيرة في بلادهم، يزورونها في الأعياد، التي يتبادلون خلالها الأحاديث وأخبار أفعال قديسيهم، وكذلك مشاكلهم ومعاناتهم غير المحدودة من مختلف الأنظمة، مع أنه من سخريات القدر أن يكون وضعهم إبان حكم صدام حسين أفضل بما يقاس عما هو عليه الآن، وكل ذلك وفق الكاتبة، الصحافية البريطانية المقيمة في كردستان العراق في الأعوام الأربعة الماضية، التي تنقل مشاهداتها عن عمليات محاربة زومبي البدريستان لصحف بريطانية أميركية.

لا شك في أن كل العراقيين (والسوريين طبعاً) عانوا كثيراً من همجية قطعان داعش، لكن للإيزيديين نصيب أكبر كونهم «كفاراً» وجبت إبادتهم، وفق تأويلات القاعدة الوهابية، التي هي الأب الروحي للدواعش. لذا فإن هذا المؤلف يحوي روايات تلك الوحشية المضاعفة، من قتل جماعي للرجال الإيزيديين، واغتصاب جماعي للنساء والفتيات الإيزيديات.

لقد قيل: ثمة ثابتين في تاريخ جرائم الإبادة، هما الاعتراف المتأخر بها، وتصوير الضحايا، والنسوة على نحو خاص، أنهن سلبيات تجاه المجرمين. لكن هذا المؤلف يروي شجاعة الإيزيديات في الاعتقال والتعذيب ومواجهة القتل، والفرار. تبتعد الكاتبة في سرد تلك الروايات وغيرها عن الإثارة، وتقدم عرضاً موثقاً، يشبه الفيلم الوثائقي، وهذه إحدى ميزات هذا المؤلف.

وقد اختارت الكاتبة عنوان المؤلف من عادة تمارسها النساء الإيزيديات لكي لا يبدين جميلات لزومبي البدريستان، فلا يقعن ضحية السبي أو الاغتصاب. النسوة الإيزيديات كن يجرحن أنفسهن في وجوههن وأجسادهن قبل عرضهن للبيع، كالمواشي، كي لا يقبل أحد ابتياعهن. أما أخريات، ففضلن الموت انتحاراً على الاغتصاب أو حياة العبودية. تقول الكاتبة إن بعض النساء قمن بنقش أسمائهن وأسماء أزواجهن وأقاربهن وأرقام هواتفهن على أجسادهن كي يتم التعرف إليهن في حال قتلهن والعثور على جثاميهن. غيرهن قمن بحياكة أسمائهن وأرقام الهواتف الخاصة على ملابسهن الداخلية كي يتمكن من التواصل مع أهاليهن في حال تمكن من الفرار.

هو «العنف البارد» الذي نراه في الحروب. هو عنف الإهانة والحط من الكرامة وعنف النسيان وعنف الاستهتار وعدم الإنصات للمعاناة. بالمناسبة، مصطلح «العنف البارد» اجترحه تيجو كول الكاتب والصحافي الأميركي من أصل نيجيري، خريج «جامعة كولومبيا»، في سياق الحديث عن جرائم العدو الصهيوني بحق الفلسطينيين. الإيزيديون في العراق عانوا العنفين، الساخن والبارد. يكتسب المؤلف أهميته أيضاً من احتوائه روايات عن البطولة في مواجهة وحوش لابشرية وليس قصص استكانة وخضوع الضحية فحسب.

صحيفة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى