الحرب الخفية “التاريخ السري لصراع أمريكا ثلاثين عاماً مع إيران” (ديفيد كريست)

ديفيد كريست *

عرض : محمد مسعد العربي- باحث سياسي بمكتبة الإسكندرية

ربما لا تمثل دولة خطرا على حالة النظام الدولي،‮ ‬الذي ترعاه الولايات المتحدة،‮ ‬مثلما تمثل الجمهورية الإسلامية في إيران،‮ ‬التي انبثقت من بعد ثورة شعبية أطاحت بحكم الشاه،‮ ‬أكبر حليف لواشنطن في المنطقة،‮ ‬منذ ما يزيد على‮ ‬33‮ ‬عاما‮.‬ فتاريخ العلاقة بين واشنطن وطهران منذ ذاك التاريخ هو تاريخ مواجهة،‮ ‬تتراوح فصولها من أزمة الرهائن،‮ ‬مرورا بحروب الخليج، وانتهاء بأزمة الملف النووي الإيراني، كل هذا في إطار الصراع على الشرق الأوسط‮.‬ ولم يسهم تغير القيادات في البلدين،‮ ‬على مدي العقود الثلاثة،‮ ‬في إحداث أي تحول في هذا المسار الذي يراه الكتاب حربا باردة بين قوة عظمي ونظام ثوري مثير للاضطرابات ولعدم الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط والعالم ككل‮.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‬واستند الكاتب على شهادة العشرات من المسئولين الأمريكيين،‮ ‬المدنيين والمخابراتيين، وكذلك الجنرالات والضباط، ودمج شهاداتهم في عمله هذا لدرجة تشي بمعرفته أدق الأسرار عن هذه الحرب، بالإضافة إلى اطلاعه على مئات الوثائق السرية المتعلقة بهذه الحرب السرية‮.‬‬‬

إرث ريجان‮‬

على الرغم من أن الكتاب يستهدف تغطية الحرب الباردة بين الولايات المتحدة وإيران على مدي‮ ‬33‮ ‬عاما، فإنه خصص ما يقارب ثلثي الكتاب للحديث عن فترة ريجان، وهي العقد الأول من هذه الحرب،‮ ‬بعد إرساء الحكم الثيوقراطي في إيران منذ عام ‮ ‬1979، ودخول الأخيرة في حرب شعواء مع جارتها العراق على مدي‮ ‬8‮ ‬سنوات، وهي حرب لم تكن واشنطن بعيدة عن إذكاء نيرانها، فيما عرف بالاحتواء المزدوج، وقصد بها تحجيم خطر إيران الثورية، عن طريق العراق الذي تلقي مساعدات أمريكية عسكرية ولوجيستية،‮ ‬كان الهدف من ورائها إبعاد بغداد عن موسكو،‮ ‬حيث كانت واشنطن تري مواجهتها مع النظام الثوري الإيراني في إطار الفصل الأخير من الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي‮. ‬ويرصد الكتاب في هذا الصدد المساعدات العسكرية التي قدمتها واشنطن لنظام صدام حسين على امتداد الحرب، وكذلك انخراط واشنطن المخابراتي في حرب شاحنات النفط في الخليج، التي هددت تدفق النفط العربي إلى الغرب‮.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
ويسهب كريست في تفصيل إخفاقات إدارة رونالد ريجان تجاه إيران، وهو ما يعده إرثا يعانيه الجمهوريون حتى الآن في التعامل مع المسألة الإيرانية‮. ‬ففي كثير من القضايا،‮ ‬وقفت إدارة ريجان عاجزة عن الفعل تجاه سلوك إيران في الشرق الأوسط،‮ ‬خاصة تلك التي قامت بها من خلال حلفائها ووكلائها، وعلى رأسهم حزب الله،‮ ‬الذي استهدف في خضم الحرب الأهلية اللبنانية عام‮ ‬1983‮ ‬الوجود العسكري الأمريكي في لبنان، فأودي تفجير مقر المارينز في بيروت بحياة‮ ‬241‮ ‬جنديا أمريكيا، وهي كارثة لم تحرك واشنطن تجاهها ساكنا،‮ ‬غير أنها انسحبت، فيما ظل مواطنوها هدفا سهلا لعمليات‮ "‬الرهائن مقابل السلاح‮" ‬التي خططت لها إيران ونفذها حلفاؤها، وكان مثالها الأبرز فضيحة إيران كونترا ‮ ‬‭.‬1986‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

 

واشنطن وملف طهران النووي‮‬

طيلة فترة الثمانينيات،‮ ‬عُدت إيران خطرا إقليميا، ولم يكن على واشنطن أن تخوض صراعا مباشرا معها، ثم تحول هذا الخطر إلى تهديد للسلم العالمي،‮ ‬مع اكتشاف قيام طهران بعمليات تخصيب اليورانيوم‮. ‬ويلقي الكتاب الضوء على السلوك الإيراني في التفاوض، وهو سلوك متسم بالغموض والمراوغة،‮ ‬والتذرع بالمشاكل البيروقراطية، وكذلك تعمد إيران إثارة المشاكل بين الحلفاء الأوروبيين والأمريكيين لصالحها‮. ‬ويعتمد كريست في تفاصيل هذا الملف على شهادات المسئولين الأمريكيين، وعلى شهادة مسئول إيراني سابق لاجئ للولايات المتحدة،‮ ‬بعد سجنه في إيران،‮ ‬وهو السيد حسين موسويان‮. ‬وينتقد الكاتب إدارة جورج بوش الابن في تعاملها مع طهران في‮ ‬هذا الملف،‮ ‬جراء تركيزها على الأبعاد الأخلاقية الأيديولوجية التي صاغها المحافظون الجدد،‮ ‬وهو ما قوي شوكة المحافظين داخل إيران‮.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
ومن أهم ما يميز هذا العمل هو كثافة تفاصيله،‮ ‬فقد اعتمد الكتاب على ما يزيد على‮ ‬300‮ ‬لقاء مع شخصيات، واحتوي على‮ ‬45‮ ‬صفحة من الإشارات المرجعية، واحتوي على تفاصيل تبدو دالة في أحيان كثيرة ومهمة لفهم المسألة الإيرانية‮.‬ فعلى سبيل المثال،‮ ‬يتناول الكتاب طبيعة العلاقات بين طهران وجيرانها من العرب، وماهية النظرة المتبادلة بين الطرفين، خاصة لدي الطرف العربي، ومن هذا نصيحة أمير قطر للمفاوضين الأمريكيين بعدم الثقة إلا في النذر اليسير مما يقوله الإيرانيون، أو تنويه نوري المالكي ببعد المسافة بين العرب والإيرانيين،‮ ‬حتى مع المتحالفين معهم‮.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

الحديث مع الخصم‮‬‬

وعلى الرغم من كون كتاب كريست إضافة مهمة للأدبيات الكثيرة التي تتناول الحرب الباردة بين الولايات المتحدة وإيران، فإن المؤلف وقع في خطأ اختزال الجانب الإيراني، فلم يعتمد على شهادات المسئولين الإيرانيين بالقدر الذي أورد فيه شهادات المسئولين الأمريكيين، فيما عدا هؤلاء اللاجئين إلى الغرب أو الولايات المتحدة، كالسيد حسين موسويان،‮ ‬الدبلوماسي والمسئول الأسبق عن الملف النووي في فريق الرئيس خاتمي‮.‬ هذا الفقر في الشهادات الإيرانية يجعل إيران مقدمة بعدسات أمريكية فقط‮. ‬ثم إن القارئ لا يجد ما يجب عليه معرفته عن إيران نفسها‮:‬ ثقافتها، وتاريخها السياسي، وتعقيدات نظامها السياسي، والإرث الديني،‮ ‬وما يحمله،‮ ‬وكذلك أهدافها في المنطقة‮.‬ كما يقع كريست في أخطاء تعميمية تشي باختزالية‮ ‬غير حميدة، كتناوله المفرط في التبسيط لشخصية الرئيس أحمدي نجاد، وغير ذلك من شئون إيرانية،‮ ‬يبدو أن القارئ الأمريكي في حاجة للإلمام بها‮.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
ومع هذا، يشير كريست إلى التحديات التي تواجه تعامل واشنطن في تعاملها مع إيران، ويركز على هيمنة المحافظين والعسكريين التي يجسدها الحرس الثوري،‮ ‬الذي أصبح مهيمنا بشكل أكثر حدة على الداخل الإيراني لدرجة تقلل من قبضة رجال الدين على الحكم‮.‬ ويستخلص من هذا أن الإيرانيين الراغبين في الحوار مع الولايات المتحدة خارج السلطة، وهؤلاء القابضين عليها‮ ‬غير راغبين في التحاور مع واشنطن‮.‬‬‬‬‬
ويتطرق كريست كذلك إلى سياسة الارتباط التي اعتمدتها إدارة أوباما في تعاملها مع طهران، وهي سياسة قامت على تقوية الصلات بالحلفاء في المنطقة،‮ ‬وبالشركاء الدوليين لتحجيم الخطر الإيراني، وهو ما أثمر عن منظومة عقوبات اقتصادية دولية لم تؤد إلى تبني خيار عسكري في التعامل مع إيران‮. ‬ويلقي الكتاب الضوء على محاولات التقارب بين الخصمين اللدودين منذ عام‮ ‬1979‮ ‬حتى إدارة أوباما،‮ ‬فيما عدا إدارة جورج بوش الابن التي رفضت إدارته الانفتاح الإيراني على واشنطن عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر‮.‬‬‬‬‬‬
‬وعلى الرغم من قصور الكتاب في بعض الوجوه،‮ ‬فإنه يعد ضروريا لمعرفة تطور السياسة الخارجية تجاه إيران، خاصة أنه يبتعد عن السرديات الدبلوماسية،‮ ‬ويعتمد على صانعي القرار السياسي في مواقع مختلفة،‮ ‬ومستويات متباينة، وهو يعد تاريخا للدبلوماسية السرية،‮ ‬كما هو تاريخ للحرب السرية الأمريكية،‮ ‬باعتبار أن الدبلوماسية هي الوجه الآخر للحرب‮.‬‬‬‬‬‬‬

*مؤرخ أمريكي بارز

مجلة السياسة الدولية (تصدر عن مؤسسة الأهرام المصرية)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى