الديموقراطيّة بصفتها نضال الأفراد والجماعات

يشكّل مفهوم الديموقراطية في عصرنا الحديث، أحد المفاتيح الرئيسة للاستدلال على طبيعة نظام الحكم السائد. يجري استخدام المصطلح في شكل عشوائي وديماغوجي أحياناً كثيرة، بحيث نادراً ما خلا دستور من دساتير الدول من كلمة الديموقراطية في صلب مواده التشريعية. ولأن المفهوم يغري بالانتساب إليه، فإن الأحزاب السياسية في كل مكان تضع الكلمة في صلب أنظمتها الداخلية. في الواقع، هناك كثير من الكلام عن الديموقراطية، وقليل جداً من التزام ممارستها، سواء تعلّق الأمر بأنظمة الحكم السائدة أو بالأحزاب السياسية في شتى منوعاتها، ليبرالية كانت أم شمولية. على رغم قدم المفهوم والدراسات الواسعة التي تناولته، إلا أن دراسة الديموقراطية وتطبيقاتها لا تزال تحتلّ موقعاً مركزياً في الأدب السياسي في كل مكان في العالم. من الدراسات الجادة في هذا المجال، كتاب «الديمقراطية والتحول الديمقراطي: السيرورات والمأمول في عالم متغير» للكاتب الأميركي غيورغ سورنسن (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ترجمة عفاف البطاينة).

متعدّدة هي التعريفات التي تطاول مفهوم الديموقراطية، هناك من يراها شكلاً من أشكال الحكم يكون الحكم فيها للشعب، وعالم الاجتماع الفرنسي آلان تورين يختصرها بأنها الاعتراف بالآخر. مع تطوّر الليبرالية، بات يطلق على الديموقراطية المذهب الذي يتعلّق بطريقة تحديد ما سيكون عليه القانون. واعتبرت الليبرالية أن من مهماتها تقييد السلطة السياسية المفروضة على المواطنين، وأن جوهر الديموقراطية هو مبدأ المساواة بين المواطنين. ولم يكن النقاش غائباً عن صلة الديموقراطية بالرأسمالية، وما إذا كانت أحد شروط النمو الاقتصادي. خلال القرون والعقود الأخيرة، رست جملة مبادئ ومفاهيم باتت تشكّل شرطاً ضرورياً لأي حديث عن الديموقراطية، لعلّ أهمها: المسؤولون المنتخبون لممارسة الحكم، حق الاقتراع الشامل والعام لجميع البالغين، حرية التعبير بمعناها الواسع للكلمة، من قبيل انتقاد المسؤولين الرسميين والحكومة والنظام السياسي والنظام الاجتماعي والأيديولوجيا السائدة من دون خطر التعرّض لعقوبات، حق المواطنين في الحصول على المعلومات، استقلالية الجمعيات وحقّ المواطنين في تشكيل تنظيمات مدنية وأحزاب سياسية…

تبقى الديموقراطية بمعناها السياسي، المسألة الأهم في سيرورة التحوّل السياسي والاجتماعي. يشير الكاتب في هذا المجال، الى أن الديموقراطية السياسية متى تحققت، يصبح من الممكن إحراز مزيد من الديموقرطية. من جهة أخرى، فإن هذا يعني تحرراً إضافياً، فالحقوق السياسية والحريات الشكلية لا قيمة لها إن لم تكفل في شكل جوهري حقوقاً متساوية للمواطنين. ومن دون دولة الرفاه التي تحول دون الفقر المادي الحاد وأشكال اللامساواة الاجتماعية الاقتصادية الكثيرة، لن تكون الشرائح الفقيرة من السكان قادرة على التمتّع الكامل بحقوقها السياسية. وليس من الممكن ترجمة حقوق المساواة الشكلية الى حقوق مساواة جوهرية إلا بعد استئصال الفقر استئصالاً جذرياً.

تفترض الديموقراطية جملة شروط يصعب من دونها إنجاز الديموقراطية، لعلّ أهمها نمط الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. فالتحديث وتوافر الثروة من العوامل الأساس المواتية للديموقراطية، وتوافر الثروة يساعد على الحدّ من التوترات الناجمة عن الصراع السياسي. في المقابل، تفترض الديموقراطية شروطاً تتّصل بالثقافة السياسية، أي بمنظومة القيم والمعتقدات التي تحدّد سياق الفعل السياسي ومعناه. لكن وعلى رغم هذه الشروط، يذهب باحثون الى القول أن توافر هذه الشروط ليس بالضرورة عبرها الوصول الى الديموقراطية.

لا تهبط الديموقراطية من السماء، فهي تحتاج الى نضال الأفراد والجماعات من أجل تحقّقها. فالديموقراطية في التعريف نظام في وجه التسلّط والاستبداد، ما يعني أن صراعاً مريراً ستخوضه الجماعات المؤمنة بهذا النظام في وجه سلطات لن تقبل التخلّي بسهولة عن امتيازاتها ونمط هيمنتها. لذا عرفت كل المجتمعات التي ناضلت لتحقيق الديموقراطية كراً وفراً، هزائم ونجاحات، وندر أن تحققت الديموقراطية بالضربة القاضية.

إذا كانت الديموقراطية عملية ذات دينامية داخلية في كل مجتمع، وتنجح أو تخفق استناداً الى مدى توافر الشروط الداخلية المجتمعية والسياسية والثقافية، فإن القرن العشرين شهد دعوات من الخارج لترويج الديموقراطية في بلدان تتّسم بنظم استبدادية وبانتهاك لحقوق الإنسان. لعلّ انهيار المعسكر الاشتراكي وقيام نظام عالمي أحادي القطب تمثله الرأسمالية العالمية بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، كانا وراء هذه الدعوة الى إحلال النظام الديموقراطي. وقد خاضت الولايات المتحدة حروباً باسم تحقيق هذا الشعار، حيث ظهر بوضوح التناقض بين الشعار والهدف الاستعماري من خلاله. فإذا كان جوهر الديموقراطية استنادها الى سلطة حكومية قائمة على إرادة الشعب، فكيف يمكن الخارج أن يفرض انتخابات حرة ونزيهة، ويقيم سلطة شعبية قائمة على العدالة والمساواة وحكم القانون؟

يدور نقاش حول مدى حاجة النمو الاقتصادي الى الديموقراطية، ويستشهد باحثون بأمثلة عن دول استبدادية تحقّق فيها هذا النمو من قبيل دول جنوب شرقي آسيا. يخلط كثر بين النمو والتنمية في المجتمع، فصحيح أن النمو الاقتصادي قد لا يحتاج الى الديموقراطية، وهذا تاريخ تكون الرأسمالية والتراكم الرأسمالي الذي كان الاستبداد ونهب الشعوب أحد عناصره الأساسية. لكن التنمية بمعناها الواسع، اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً… لا تتحقّق من دون مشاركة أوسع الفئات الاجتماعية في تحقّقها. والتنمية هي العنصر الفاعل في تطوّر المجتمع بمعناه الشامل، فيما النمو يفرز طبقات ميسورة على حساب غالبية الشعب الواقع في أسر الفقر. من هنا، كانت الوجهة الغالبة في البحث، خصوصاً من منظمات الأمم المتحدة ومن الفكر الاجتماعي، أن التنمية يصعب تحقّقها من دون توافر الديموقراطية.

في ظل الحروب السائدة في العالم، يطرح سؤال عما إذا كان في إمكان الديموقراطية تحقيق السلام والتعاون بين الدول والشعوب. تتناقض وجهات النظر حول هذا الموضوع، فانطلاقاً من الواقع الذي شهده العالم على امتداد القرن العشرين والقرن الحادي والعشرين، لا يبدو أن حجة القائلين بدور الديموقراطية في تحقّق السلام صحيحة. لم تمنع أنظمة الحكم الديموقراطي الكثير من البلدان من خوض حروب ضد بلدان أخرى أو الهيمنة على مقدرات الشعوب ونهب ثرواتها.

إذا كان العالم الغربي لا يزال منهمكاً في نقاش الديموقراطية ووسائل تطويرها على رغم مرور عقود على التزامها، فإن عالمنا العربي، بأنظمته السياسية وأحزابه ومنظماته المدنية، يتشدّق كثيراً بالديموقراطية، لكنه يخضع لأبشع أنواع الاضطهاد والاستبداد على مختلف مستوياته. على رغم ذلك كله، تبقى الديموقراطية أمل الشعوب العربية في تحقيق المواطنية وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية والحرية السياسية والفكرية. ومهما تحدث كثر عن سلبيات الديموقراطية في مجتمعات «غير ناضجة» كالمجتمعات العربية، فإنها تبقى أفضل مليون مرة من هذا الاستبداد المتسلّط على رقاب الشعوب العربية.

صحيفة الحياة اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى