العربي في سرديات أميركا اللاتينية .. صورة غائبة عن أدبنا العربي

ينطلق كتاب “صورة العربي في سرديات أميركا اللاتينية” للباحث ريجوبيرتو إرنانديث باريديس، بترجمة أحمد عبداللطيف ومراجعة علي المنوفي، الصادر عن دار كلمة في العاصمة الإماراتية أبوظبي، من حقيقة ثابتة أكَّدها باحثو الأكرونولوجيا، مفادها أن “تاريخ البشرية هو تاريخ الهجرات، إنه تأكيد صالح لكل الدّول، ولكلّ دولة على حدة في هذا الكوكب”، ليبدأ المؤلف وضع اللبنات الأولى للقدوم العربي إلى الأميركيَّتين بوصف كوبا هي المحطة الأولى التي يعبرها هذا الهاربُ من صراعات تطحن الشرق الأوسط، صراعاتٌ وجد لها الآخرُ مخرجاً بعيداً عن معاني الحرب فكانت إشعارات المجاعة التي ضربت لبنان عقب السيطرة العثمانية واحدة من أكثر المبرّرات التي قدَّمت للوجود العربي الذي بدأ بالأرياف على شكل باعة متجوِّلين أو أطباء حملوا أسماء عربية ولُقِّبوا بالأتراك.

•العرب في كوبا
العرب في كوبا تحديداً، أو الدول التي كانت منفذاً وطريقاً إلى أميركا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، عاشوا بهوية عربية وبأوراق تركية عثمانية وبلقبٍ أطلقه عليهم السكان الأصليون للبلاد،
فكانوا “العربُ الأتراكُ الموريون”، فتصوِّر أعمال كوبا الأدبية العربي على اقتضاب بوصفه التاجر القادر على بيع كل شيء، حاملاً صرَّته، ماشياً في الأرياف البعيدة ضمن ذهنيَّتِه المُرصَّعة بحكايا ألف ليلة وليلة والعالم الساحر للشرق.

يقدِّم المترجم رؤية المؤلف في بحثه عن تأكيدات حرص الرواية الكوبية على ذِكر انتماءات العرب الواصلين حديثاً إلى البلاد، إنها انتماءات إثنية دينية، فمعظمهم من المسيحيين القادمين بالمئات من سوريا ولبنان وغيرها إلى جانب عدد من المسلمين، وهؤلاء بجمعِهِم استطاعوا تحويل محالِّهم التجارية إلى مراكز اجتماع وثِقَل حقيقي في المجتمعات الجديدة، وهذا ما سهَّل عملية اندماجهم بعد أن اشتغل أبناؤهم بالسياسة.

•ماركيز والعرب
بعد كوبا يسوق التقصي – على حد تعبير الكاتب – في البحث لمعرفة الينابيع التي منها استلهم غابرييل غارسيا ماركيز الشخصيات الشرقية ليدخلها لعالمه الأسطوري،
إلى سيرته الذاتية التي يصف فيها السيل المهاجر الذي أغرق أراكاتاكا، القرية التي ولد فيها الروائي وعاش فيها حتى الثامنة، فروايات ماركيز التي أشارت إلى المهاجر العربي هي “ساعة نحس”، “الكولونيل لا يجد من يكاتِبه”، “مئة عام من العزلة”، “سرد أحداث موت معلن”.

حضور العربي لم يقتصر على سرديات أميركا اللاتينية فقط بل تعداه إلى الشعر حيث يتناول الكتاب إبداع الشاعر والصحافي والباحث الكولومبي ذي الأصول السورية خورخي جارثيا أوستا الذي لم يكتب أعمالا سردية توضح بصمة الهجرة العربية في كولومبيا بل ترك ديواناً شعرياً يشكل في حد ذاته – بحسب المؤلف – وثيقة ذات مذاق سردي كما تشير قصائده إلى أبطال كانوا على سفر لاعودة منه إلى منطقة الكاريبي الكولومبي.

صورة العربي عند غابرييل غارسيا ماركيز تحضر بوجود السوري موسى، فهو تاجرٌ عربي يعيش في روايات ماركيز بوصفه عربياً يحمل لغته الأم التي بدأ النسيان يتسرّب إليها، التجارة هي مصدر عيشه وهي مركز انطلاق علاقاتِه مع الآخرين، في ذات الوقت هذا البطل العربي يحمل صفات العرب في الشجاعة والتأمل والبحث عن الحياة والرزق، وهم أيضاً عند ماركيز قطاع حيوي يحظى بالتقدير والاحترام بفضل نشاطهم التجاري واشتغال الجيل الثاني منهم بالسياسة ووصولهم إلى مناصب رفيعة بالدول التي استوطنوها.

لا يمكن دراسة صورة العربي في أدب أميركا اللاتينية دون الوقوف طويلاً أمام “سانتياغو نصار” العربي الذي استحضره ماركيز في رائعته “سرد أحداث موت معلن”، فماركيز رغم حرصه على تقديم المكوّن العربي إلا أنه قدَّمه ضمن بنية تشير إليه على أنه ليس غريباً فهو ابن الأرض الأميركية اللاتينية أيضاً.

•إنتاج مختلف
يستعرض كتاب “صورة العربي في أميركا اللاتينية” تجربة “العرب في أرض الكاكاو” من خلال اللبنانيين والسوريين في روايات جورجي أمادو من خلال روايات “سان جورجي ابن الهوس”، “تيتا دل لوس أجرستس”، “السيدة فلور وزوجاها”، “محل المعجزات”، “توكايا العظيمة”، “غابرييلا والمسمار والقرفة”.
أيضاً يتناول الكتاب الحضور العربي الكبير والفعال في الأرجنتين من خلال صورة الوافد المتحدث بالعربية إلى الأجندة السردية، فيتناول البحث الأعمال الأكثر شهرة في السرد الأرجنتيني لمؤلفين مثل خورخي لويس بورخس، أدولفو بيوي كاسارس، ليوبولدو مارشال، أبيلاردو كاستييو، وكان لا بد من استعراض الشخصية العربية في نموذج “رياض حلبي” صانع الماء المقدس عند التشيلية “إيزابيل اللندي” التي عاشت سنوات من حياتها في دمشق وبيروت.

في أحد فصولِه يتناول الكتاب “الإنتاج الأدبي لأبناء المهاجرين، الحالة التشيلية والكولومبية والمكسيكية، والمهاجرون الفلسطينيون في الخيال السردي التشيلي”، يتحدث المؤلف في إشاراته عن سبعة وثلاثين كاتباً من أصول عربية، فقد طُرحت كتابة الهجرة هذه، كما ينقل الكاتب، التي طورها عدد كبير من التشيليين من جذور عربية، السرد من خلال فكرة الاقتلاع من الجذور والتهميش والتبنّي والتداخل والاندماج، فموضوعات هذه السرديات بحسب الباحثة ماريا أولجا ساماميه يمكن تأويلها في ترميم التشريع الأدبي فيما يخص قضية الهوية، فمثَّلت روايات الهجرة العربية هذه نتيجة الاتصال المستمر بين أفرادٍ من ثقافات مختلفة، ويستعرض لتوضيح هذا الاتجاه من الكتابة، إصدارين لكاتِبَين مُنحدِرَين من أصول عربية فلسطينية، هما والتر غريب صاحب رواية “المسافر ذو البساط السحري”.

•صورة غائبة عن الأدب العربي
والرواية التي تتناول الهجرة الفلسطينية تحت عنوان “المغترب بعينين لامعَتين” لخايمي هالس
، بينما كان النموذج العربي لسرديات كولومبيا هو الروائي المنحَدِر من أجداد لبنانيين لويس فياض من خلال روايته “أقرباء إستر”، ومن المكسيك يستحضر المؤلف مجموعة من الكُتَّاب أمثال هيكتور آزار، باربارا جاكوبس، كارلوس مارتينيث أسد حيث مثَّل هؤلاء نموذجا للتغيير الذي أحدثته مغامرة هجرة الأسلاف في النثر السردي المكسيكي، ليقتصر بالدراسة على رواية كارلوس مارتينيث أسد التي تمثِّل رحلة إلى مركز الماضي من خلال حكاية عائلية في رواية حملت اسم “في الصيف، الأرض” التي أراد بها مؤلفها إثارة القضية المركزية التي تشغل باله في الحاجة لمعرفة نفسه من خلال حياة وأصول أجداده.

•حضور الشعر
حضور العربي لم يقتصر على سرديات أميركا اللاتينية فقط بل تعداه إلى الشعر حيث يتناول الكتاب إبداع الشاعر والصحافي والباحث الكولومبي ذي الأصول السورية خورخي جارثيا أوستا الذي لم يكتب أعمالاً سردية توضح بصمة الهجرة العربية في كولومبيا، بل ترك ديواناً شعرياً يشكل في حد ذاته – بحسب المؤلف
– وثيقة ذات مذاق سردي كما تشير قصائده إلى أبطال كانوا على سفر لا عودة منه إلى منطقة الكاريبي الكولومبي، فيتناول الكتاب ديوان “المملكة الخطأ” بالتحليل من خلال قصائده التي يضعها الباحث في ارتباط وثيق مع موضوع الهجرة، سأقتبِس هذه القصيدة من الكتاب لتعطينا فكرة واضحة عن الشعر الذي كتَبَه شعراء قدِموا من أصول عربية:
“وأنت يا صغيري/ يا كائناً من ذهب/عندما ستشرع في البحث عن مصيرك/عندما ستغني للماء بين يديك/عندما تتجرَّع أسباب السفر/سنعودُ/ لنلتقي/ ربما بعد ألفَي عامٍ/حينَ لن أكون إلياس، أباكَ/ بل بريقٌ تبخَّر في الغياب/استغِل هذه الأنهار الوحشية حيث القمر/كما في رام الله/ طعامٌ للغريب”.

وفي قصيدة أخرى تحت اسم “الخروج، في الطريق من دمشق إلى بيروت 1887″، يقول الشاعر:
“يا رؤوف، ارحل، ثمَّة عالم آخر/خلف هذا البحر الهائل/ثمَّة جبال متراصة/ ثمَّة سموات مقدَّسة بأناشيد المجد/وأراضٍ لم يعد للعزلة فيها مكان”.

في ديوان “المملكة الخطأ” كما يقول مؤلف “صورة العربي في سرديات أميركا اللاتينية” يكتب الشاعر جارثيا أوستا عن جده الحرفي الدمشقي وجدته اللذين وصلا وأقاما في “البايي دي سينو” في بدايات القرن العشرين، وأنجبا سلالة كبيرة، فالشاعر يكتب لأرض أسلافه السوريين، لتلك الذكرى التي تستمر وتعيش بداخله بشكل ما يُدركه هو جيداً.
إن كتاب “صورة العربي في سرديات أميركا اللاتينية” الصادر عن دار كلمة في أبوظبي بحث حيوي يتناول صورةً غائبة عن أدبنا العربي ويؤسس بدوره لأبحاث قادمة ستفتحُ بابها الهجرات العربية خلال السنوات المقبلة، لنتوقف طويلاً أمام إنتاج أبناء اللاجئين اليوم، كما توقفنا أمام الأدب الذي أنتجته “الدياسبورا” التي عاشها ويعيشها آباؤهم اليوم.

ميدل ايست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى