العلاقة بين العلمانية والتسامح

 

تقوم مؤلفة كتاب “ما العلمانية؟” كاترين كنسلر، والتي تعمل كأستاذة للفلسفة في جامعة ليل في فرنسا، بتناول موضوع العلمانية، حيث تعمل على تحليل الأبعاد السياسية والدينية المرتبطة به، وتحاول أن تبين علاقته ببعض الظواهر المجتمعية والتي لطالما مثلت أسئلة جدلية في المجتمعات الغربية، مثل التسامح، وحق الفرد في تقرير مصيره، الانتماء إلى الوطن، والتعارض ما بين الهوية السياسية والهوية الدينية.

ما الفرق بين التسامح والعلمانية؟

تبدأ كنسلر بطرح سؤال حول العلاقة ما بين العلمانية والتسامح، ذلك أن العلمانية في الكثير من الأحيان قد جرى تفسيرها على كونها القدرة على التسامح مع الاختلافات الفكرية، والقدرة على تقبلها من دون الصدام بها، ومن دون الدخول في حالة من حالات الصراع معها.

ترى كنسلر أن التعريف البسيط للتسامح، هو “إمكانية ممارسة الاختيارات الروحية من دون إكراه عليها ومن دون الإحساس بالقلق بسببها، وهو ما يعني أنه ليس لأحد القدرة على إكراه أي شخص لاعتناق دين دون أخر”.

من هنا فإن كنسلر تتفق مع ما ذهب إليه الفيلسوف الإنجليزي جون لوك في كتابه المعروف باسم “رسالة حول التسامح”، عندما أكد على أن الانتماء الديني يتكون لدى الفرد من واقع ظروف خارجية، وأنه انتماء اختياري، لأنه يعتمد بالمقام الأول على استقلال التفكير. وتستشهد كنسلر بما قاله لوك في كتابه “لا يولد أحد عضو في كنيسة ما، ولكن الدين ينتقل إلى الإنسان بقانون الوراثة عن أبيه وأجداده، تماماً مثل الأرض، وكل منا يدين بإيمانه إلى ميلاده وإلى أهله، وليس هناك ما هو أكثر عبثية من هذا الأمر، وهكذا إذن كيف علينا أن نفهم الأمور: إن الإنسان ليس مقدرا ًعليه بالطبيعة أن يتبع كنيسة ما، وأن يرتبط بطائفة دينية، فهو ينضم تلقائياً إلى المجتمع الذي يعتقد أنه يمارس فيه الدين الحق والعبادة المقبولة عند الله”.

هنا تبدأ المؤلفة في شرح العلاقة بين العلمانية والتسامح، عندما تقول إن التسامح يجب أن يدخل بشكل رسمي إلى القانون الحاكم في الدولة، “فالتسامح لا يكفل الحرية الدينية على المستوى الفكري والأخلاقي فحسب، ولكن أيضاً على مستوى السلوكيات العامة”. وتضرب بعض الأمثلة على ذلك، ومنها أن القانون الوضعي مثلاً يحظر التضحية البشرية لأنه ينظر إليها على كونها نوعاً من أنواع الاغتيال والقتل، وذلك في الوقت الذي تضفي بعض الأديان على التضحية البشرية نوعاً من القداسة والاحترام، وكذلك فإن الدين يرفض استيلاء منظمة دينية على ملكية المؤمنين من أعضائها، لأن هذا يُعد احتيالاً واستغلال نفوذ.

وترى كنسلر أن الشرط اللازم توفره حتى يتحقق التسامح في المجتمع، هو أن تطلق الدولة العنان لمواطنيها، حتى يختار كل منهم دينه ومذهبه، من دون إملاء أو رفض، وذلك حتى لو كانت تلك الدولة تنتهج نمطاً دينياً معيناً، كما في حالة الولايات المتحدة الأميركية، التي تعلن عن التزامها المسيحي البروتستانتي بشكل واضح، حتى أنها قد صّدرت عملتها النقدية بجملة مشهورة، وهي “نحن نثق بالله”.

وتؤكد كنسلر على أن من الواجب على الدولة كذلك، أن تجتنب معارضة اعتناق أي دين من جانب مواطنيها، أو الدعوة إلى اعتناق أي مذهب فكري بعينه، لأن هذا الأمر من شأنه أن يزج بالدولة في معتركات فكرية لا يجب أن تنزلق إليها على الإطلاق.

ولكن ماذا بخصوص “الإلحاد والكفر”، هل يمكن أن نعتبره نسقاً فكرياً يمكن تقبله والتسامح معه، كالحال مع باقي الأديان التي تدعو العلمانية إلى مشاطرتها التقارب الاجتماعي، أم أن وضعه مختلف؟

هنا تعرض المؤلفة لرأيين مهمين، الرأي الأول، وهو رأي جون لوك، ومجمله أن الكفر والإلحاد لا يمكن التسامح معهما، ولا قبولهما اجتماعياً، والسبب في ذلك أن الملحد لا يؤمن بأي معتقد أو دين، ولذلك لا يمكن الوثوق فيه ولا الوثوق في اعترافه بسلطة الدولة عليه. ومن هنا فإنه “لا يجوز بأي حال من الأحوال التسامح مع من ينكرون وجود الله، ذلك أن الوعود، والمواثيق، والقسم التي هي روابط المجتمع الإنساني، لا حرمة لها ولا تقديس عند الملحد، فإذا ضاع الإيمان بالله، ضاع كل شيء”.

وتوضح كنسلر، أنه وفقاً لذلك التوجه، فإن الإلحاد يكون أكثر خطراً على المجتمع العلماني من الأديان التي لها طموحات سياسية، وذلك لأن تلك الأديان تكتفي بمجرد الإنكار على مبدأ الفصل ما بين المجالين الديني والسياسي، بينما نجد أن الظاهرة الإلحادية تعمل على تدمير مبدأ الترابط ما بين المجالين بشكل كامل، وبذلك تحدث القطيعة التامة فيما بينهما.

وجهة النظر الأخرى التي تقدمها كنسلر هنا، هي وجهة نظر فيلسوف التنوير الفرنسي بيير بايل، والتي ترى أن من الواجب أن تتسع دائرة التسامح لتشمل الملحدين، كما اتسعت من قبل لغيرهم من المتدينين، وذلك بوصفهم مواطنين في المجتمع، وحجة بايل هنا هي “إذا كان الملحدون يمكن قبولهم في الجماعة السياسية، فذلك بالتحديد لأن غيابهم عن طائفة إيمانية وسلطة تتجاوز المجتمع المدني يجعلهم أكثر ضعفاً، ويخضعهم من باب أولى لقوانينها، ولأنهم محرومون من الآخرة والشريعة الدينية، فلا يمكنهم مناجاة أي إله للتكفير عن سيئاتهم المحتملة”.

وهكذا يرى بايل أن عدم انتماء الملحد لرابطة دينية كغيره من المواطنين المتدينين، يجعله أكثر تمسكاً بالسلطة السياسية، التي تكون وقتها المميز الهوياتي الأكثر قوة وتأثيراً لديه، وهو الأمر الذي يصب في مصلحة اتساع دائرة وهامش التسامح ليشمل جميع الملحدين.

ولكن لماذا نناقش العلاقة ما بين الإلحاد والتسامح، إذا كنا في مجتمعات يغلب عليها التديّن، وتتضاءل بها نسبة الملحدين؟ ألا يبدو هذا كسؤال عبثي فرضه علينا منهج تجريدي يبتعد عن العالم الواقعي؟

تجيب كنسلر على هذا السؤال قائلة “يجب ألا يخيفنا تجريد المنهج، بل على العكس يجب أن نتشجع وندفعه إلى أقصى نقطة تتبين فيها قوته العملية، إذا أعدنا النظر مرة أخرى في الصورة الكشفية للكفر… يمكن أن نقول: إن دولة العلمانية تضمن حرية غير المؤمن قبلياً حتى لو أنه الوحيد، وحتى لو أن الجميع لهم نفس الدين الواحد، ومن هنا يجب أن نذهب حتى النهاية التي تبرز ثراء العملية: حتى ولو لم يكن لغير المؤمن وجود…”.

وتضرب كنسلر مثالاً على ذلك التوجه العلماني – المتسامي كما تسميه- فتقول “لنتخيل أننا في عربة قطار في قسم ممنوع فيه التدخين، ولسنا سوى ثلاثة أو أربعة ركاب فيه، واتفقنا على أن ندخن لأننا لن نزعج أحداً، لكن حينما سيأتي المفتش ويقول: إن هذا ممنوع لأنكم في قسم ممنوع فيه التدخين، سنجيبه نعم ولكننا لا نزعج أحداً ويمكنك أن تسأل الآخرين، فيرد المفتش بالتأكيد ولكنكم في عربة يمنع فيها التدخين. إجابته ليست إشارة على أنه ذو عقل محدود لأننا لو طلبنا منه حجة أخرى، سيجيب “هذا صحيح أنكم لا تزعجون أحداً لكن قد نجد أحداً”، إذاً سنذكره أن ما بين لحظة الركوب والمحطة الأخيرة لن يتوقف القطار في أي محطة أخرى فمن المستحيل أن يركب أحد، وهنا عليه إذن أن يواجه اعتراض الواقع بقرينة خيال القانون “من المحتمل أن يوجد أحد، فأنتم تزعجون غير المدخن الموجود خيالياً بحكم المنع”.

وترى المؤلفة أن ذلك الخيال الرحب المتسع، قد ساهم بشكل فعال في الدول العلمانية، في التأسيس والتنظير لفكرة الحقوق، وتؤكد على أن ذلك العمل النظري قد استطاع أن يُنتج عملاً شرعياً على أرض الواقع، وتستشهد على ذلك بأحد الأمثلة التاريخية المهمة، وهو قانون 13 تشرين الثاني – نوفمبر 1791 في فرنسا، والذي كان “كلرمون تونير” قد صاغه بعبارته الشهيرة في الجمعية التأسيسية يوم 23 كانون الأول – ديسمبر 1789، عندما قال: “يجب أن نرفض كل ما يطلبه اليهود كأمة، ويجب أن نقبل كل ما يطلبونه كأفراد: يجب أن يكونوا مواطنين”.

من هنا، فإن المؤلفة تخلص إلى وجود نموذجين للتسامح، أولهما، وتسميه بـ”التسامح المحدود”، وتتلخص مبادئه في عدم إكراه أي شخص على اعتناق ديانة غير ديانته. كما إنه من الممنوع أن يُكره أي شخص على عدم التدين، ولا يتوافق شكل الإلحاد مع المدنية السياسية في هذا النموذج.

أما النموذج الثاني، والذي تطلق عليه كنسلر اسم “التسامح الرحب”، فيتفق مع النموذج الأول في المبدأين الأولين، ولكن يختلف عنه في المبدأ الثالث، حيث يسمح هذا النموذج بوجود الملحدين في الدولة، ولا يرى في وجدهم عائقاً نحو الاندماج في النظام السياسي القائم.

أشكال العلمانية الخمسة

بعد أن أوضحت المؤلفة نقاط التماس والتلاقي ما بين العلمانية والتسامح، فإنها تقوم بعد ذلك بالتطرق إلى الأشكال الخمسة المختلفة للعلمانية خلال تعاطيها مع المجال السياسي.

الشكل الأول، وهو الذي يُعرف بـ”الجمهوري العلماني”، وهو الشكل الذي يحترم مبادئ العلمانية بشكل كامل، وفيه تمتنع الدولة بشكل كلي عن إبداء أي رأي بخصوص المشكلات والقضايا الدينية أو المذهبية، ويتم احترام جميع الأفكار والتوجهات بشرط موافقتها للقوانين المتبعة.

الشكل الثاني، ويُعرف باسم “الديموقراطي الطائفي”، ويظهر هذا الشكل في المجتمعات التي تعج بالخلافات والتناحرات الطائفية والمذهبية. ويحاول هذا النسق أن يؤسس للتعايش السلمي ما بين الفئات المختلفة، مع تقبل أن يكون انتماء الفرد لطائفته، جزءاً أساسياً من بناء هويته الاجتماعية والفكرية.

الشكل الثالث، ويُعرف باسم “المستبد الشمولي المتطرف”، وهو يرفض التسامح والعلمانية، لأنه -ببساطة- يؤصل لسلطته على أساس مذهب رسمي متعالٍ، يستحيل معه أن تتحقق حرية الرأي، وحرية الاعتقاد والفكر. وفي هذا النسق يقوم الأفراد –مجبرين- بالالتحاق بالمذهب الفكري/ الديني للدولة.

أما الشكل الرابع، فهو “العلماني الشمولي المتطرف”، فهو شكل تُمارس فيه العملية الاستبدادية بشكل كامل، ولكن تحت راية العلمانية، حيث يتم توسيع الحظر على المجتمع المدني بجملته، ويحدث الخلط ما بين الفضاء العام والفضاء المدني ويكون قبول حرية الرأي وحرية الفكر، متاحاً بشكل هامشي، وعلى المستوى الخاص فقط دون العام.

أما الشكل الخامس والأخير، فهو “العلماني الجديد”، وترى المؤلفة أنه قد ظهر تحت شعار العلمانية المفتوحة، وتصفه بأنه شخصية متذبذبة، فهو مخلص لمبادئ العلمانية خلال مواجهته للتعصب اليميني أو الأوروبي، ولكنه يتخلى عن جميع تلك المبادئ التي لطالما تشدق بها، ويصبح طائفياً مستبداً، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بالتعامل مع المسلمين، أو الجماعات المهاجرة من دول العالم الثالث.

كيف تعمل الدولة على نشر العلمانية من خلال المدارس؟

تؤكد كنسلر أن الدولة العلمانية تعمل بكل وسيلة ممكنة على نشر وترسيخ قيم العلمانية بين مواطنيها، ولما كانت المدارس والمعاهد الأولية تبدو وكأنها وسيلة ممتازة لفرض أفكار معينة أو أيديولوجية بعينها، فإن مبادئ العلمانية تفرض نوعاً من الرقابة المشددة على نشاطات تلك المدارس، بحيث لا تستطيع سلطة أو جهة ما أن تتغول عليه.

ولكن كيف يتصدى النظام العلماني لخطر ذلك التغول المحتمل؟

تذكر المؤلفة ثلاثة أساليب مهمة من الممكن استخدامها واللجوء إليها وهي: الأول، هو أن يتم تحرير المناهج الدراسية، فتبتعد بشتى السبل عن النظريات المقولبة، وطرق الحفظ والتلقين، ووجهات النظر الرسمية التي يتم تحفيظها للطلاب، بحيث لا يكون لتلك المناهج التعليمية من مصدر سوى العقل والتجربة وحدهما، فهما السبيلان الأكيدان لتحرير أفهام الطلبة.

أما الأسلوب الثاني، فهو أن يتم توظيف المعلمين على حسب كفاءتهم في المواد العلمية فقط ليس إلا، بحيث لا يكون هناك أي دور للمستوى الاجتماعي، أو الأراء والأفكار والمعتقدات، وبغض النظر عن قربهم أو بعدهم من دوائر السلطة وصناعة القرار في الدولة.

أما الأسلوب الثالث والأخير، فهو أن يكون المعلمون بعد إنها عملية توظيفهم، مسؤولون أمام القانون فقط، وأن يُضمن لهم الاستقلال المادي.

ولكن ومع كل تلك الأساليب السابقة، فإن كنسلر لا تعتقد أن فرض الدولة سيطرتها على التعليم بشكل كامل هو أمر جيد، حيث تدعو إلى تطوير التعليم الموازي، والذي يتحقق على يد رجال الأعمال والجهات الخاصة. وتراهن المؤلفة على أن ذلك النوع من التعليم، عن طريق وجود رقابة حقيقية من قبل النظام العلماني، سوف يتماهى مع التعليم الحكومي الرسمي، وسوف يتفق معه في الأهداف والغايات.

تقول المؤلفة لتشرح تلك النقطة “توجد مؤسسات حيوية عدة لا بد أن تحتكرها الدولة، فهي تضمن رعاية حقوق الإنسان، وطبيعتها تمنع باب التنافس الذي يضر بالحقوق التي تضمنها، فيجب أن نكفل احتكار الدولة لهذه المؤسسات وهي: القضاء، والجيش، والشرطة، والسجل المدني، والشهر العقاري، والعملة. وهناك مؤسسات أخرى لها نفس الأهمية في حماية الحقوق وتقوم بدور مهم في سلطة الدولة مثل المؤسسات السابقة، فطبيعتها مضادة لنظام الاحتكار لأنه يمنع ضمان الحقوق، فيجب أن نترك مؤسسات خاصة تتطور في خط موازٍ للمؤسسات الموضوعة من قبل الدولة، التعليم مثال هذه الفئة، ومثال آخر اليوم هو المستشفيات والمكتبات العامة والمتاحف. وتجانس الجميع يستمر بفضل احتكار الدولة للمراقبة (والمثال على ذلك منح الشهادات). وأخيراً يوجد نوع ثالث من المؤسسات غير الحيوية، ولكنها ذات فائدة عامة، وهي تتلقى دعم الدولة لأغراض خاصة، وهنا تلعب الدولة دول الممول المشارك (جمعيات، وشركات بمساهمات عامة، ومنشآت رياضية أو ثقافية)”.

وترى كنسلر أن المدرسة لا يجب أن يتم التعامل معها في النظام العلماني، على كونها فضاءً اجتماعياً يتمتع بالحرية المطلقة ولا تقيّده قيود، بل إنه يجب التعامل مع المدرسة على كونها “جزءاً من الفضاء المسن للقوانين، ليس بصفتها فضاءً تشريعياً ولكن لأنها، أكثر أصالة، فهي فضاء مؤسس يمكّن المواطنين أنفسهم من بذل قصارى جهدهم من أجل العمل على تعايش الحريات”.

من هنا فإن المؤلفة ترفض أن يتمتع الأطفال بالحرية الدينية المطلقة أثناء وجودهم في المدارس، فالتلاميذ الموجودون في المدرسة ليسوا بحريات تم الانتهاء من تشكيلها وصقلها، كما هو الحال لدى المواطنين الموجودين في الفضاء المدني، لكنهم على العكس من ذلك، “حريات في طور التكوين”.

الديني والمدني: هل من فرصة للتلاقي؟

بعد ذلك تحاول كنسلر أن تعقد مقارنة سريعة ما بين المجتمع المدني والمجتمع الديني، وأن تبيّن أن لكل منهما طبيعة وبنية ووسائل وغايات تختلف وتتعارض مع بعضها البعض.

بالنسبة للمجال المدني، فالمقصود به هو أمور الدنيا، سواء كانت تلك الأمور “ممتلكات أو مصالح دنيوية”. أما المجال الديني، فهو ذلك الذي يختص بالروحانيات، ويكون مثار الاهتمام به “نجاة النفوس وعبودية الله”.

المجالان إذن يسيران مع بعضهما البعض في خطين متوازيين. ومن هنا فإن المؤلفة ترى أنه لا يمكن بأي حال من الأحوال، أن يسعى أحد الأطراف المؤثرة في أي من المجالين، إلى فرض سيطرته داخل الإطار المحيط بالمجال الآخر. فلا يمكن أن تسعى الدولة –بصفتها العنصر المهيمن داخل الحقل السياسي المجتمعي- أن تستغل سلطتها لفرض نوع معين من التديّن، وفي نفس الوقت فإن الكهنوت الديني لا يحق له أن يمارس العمل السياسي.

وتلفت المؤلفة نظر القارئ، إلى أن هناك خلافاً جوهرياً ما بين المجالين المجتمعي والديني، وهذا الخلاف يتمثل في مسألة “تقدير الفعل”. فبالنسبة للمجال المجتمعي، فإن هناك معايير مجتمعية تُضبط بها مسائل الخلاف، فتحدد ما هو قانوني وما هو غير قانوني، تلك المعايير هي القوانين واللوائح. أما فيما يخص المجال الديني، فإنه يُترك تقدير الأمور إلى الشخص نفسه، فتراه يحكم على الفعل الذي يقوم به، من واقع ما يؤمن به، ومن خلال تفسيراته الخاصة للنص المقدس، وهو الأمر الذي تراه المؤلفة يتعارض مع الشكل الجمعي المميّز للوطن أو للأمة.

هذا الاختلاف في تحديد “الحق والواجب”، هو الملمح الأهم الذي تراه المؤلفة يمنع من إتمام عملية دمج المجالين الديني والمجتمعي. ويظهر هذا في استدلالها بكتابات جون لوك، والتي جاء فيها بشأن التعارض بين الديانات المختلفة:

“إن واحداً منها فقط هو الطريق الحق للنجاة، لكن من بين آلاف الطرق التي يسلكها الناس في حياتهم، لا يزال من المشكوك فيه أيها هو الطريق القويم. ورعاية الدولة أو الحق في فرض القوانين لا يكشف للحاكم الطريق المؤدي إلى الجنة، بل يستطيع الشخص العادي أن يكشفه لنفسه بالدراسة والبحث. لنفرض أن بدني سقيم وأني مصاب بمرض خطير ليس له إلا علاج واحد، وهذا العلاج غير معروف، فهل إذن من حق الحاكم أن يفرض علي علاجاً، لأنه لا يوجد غير علاج واحد، وهذا العلاج غير معروف من بين العلاجات المختلفة؟”.

هكذا ترى كنسلر أن الدين هو الدواء الصحيح والطريق القويم للعلاج، ولكن كيف يمكننا الوصول إليه من بين عشرات الطرق التي تدعي أنها هي وحدها الطريق الأمثل؟.

الميادين نت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى