«المنفى والملكوت» … ثنائية الحياة والموت

يبدأ المصري بهيج إسماعيل بهيج روايته «المنفى والملكوت» (العين) بلافتة يقول فيها «لطالما كتب البستاني على أشجار الحديقة: لا تسقطوا الثمار، لكن الريح لا تعرف القراءة». فما الثمار، وما الريح؟ هل هما كناية من الشاعر عن الحياة والموت؟ نعم. أزعم هذا. وحتى عنوان الرواية يوحي بهذا المعنى. فالحياة ملكوت والموت نفي لها. يطوف إسماعيل صاحب الخبرة الممتدة في كتابة الشعر والمسرح والسيناريو، في جدارية هائلة من الحكايات، والشخصيات بالغة الحيوية والأماكن التي تثري السرد.

«يسري»، السارد الرئيس، طبيب جراحّ أعصاب، يتبعه الموت. كان في الثالثة من عمره عندما مات أبوه الطبيب مصاباً بالعدوى في وباء الكوليرا الشهير. ثم خطف الموت ابنه الوحيد حين سقط في الحديقة وهو يراقب لاعب النار، ولم يستطع إنقاذه بل ربما ساعد في موته، فهجر الجراحة إلى الطب النفسي. ومات صديقه «تيم» عندما حاول إقناع خطيبته بأن له قدرات خارقة، بإسقاط سمكة نيئة في فمه، فانحشرت في حلقه. أتيح لـ «يسري» أن يحضر تشريح جثة «تيم»، ولاحظ وجود خلايا غريبة ليست شبيهة بأي من خلايا الجسم المعروفة، وتكررت ملاحظته في دم ضحايا آخرين. أسماها «الخلايا الحرة»، معتقداً أنها لا تظهر إلا في دم العاشقين! وأن الجسم يفرزها كآخر وسائل الدفاع عن الحياة. اعتمد «يسري» على هذه الخلايا في صنع دوائه الجديد، الذي سيواجه به الموت، وسماه «المزيج»؛ معتبراً أن الحب والعلم امتزجا فيه.

فشلت التجربة الأولى على «حامد الجنايني»؛ والد «ندى»، ويبدو أنها أكدت فرضه العلمي بأن الرغبة في الحياة شرط أساسي لظهور «الخلايا الحرة»، و «حامد» المريض، فقد أصلاً الأمل في العيش. يعرف «يسري» أنه مصاب بألزهايمر في بداياته الأولى وفي شكل تراجيدي يعرف أن «ندى» التي كانت تتبرع بالدم أصيبت بالإيدز، من حقنة ملوثة. هو يعرف وهي لا تعرف. هي عاشقة وهو عاشق. تحاول وهو يمتنع بأشكال مختلفة، بل ويتفادى حتى تقبيلها، ما يدهشها ويقلقها ويغضبها أيضاً. تبدأ الرواية بمحاولات «يسري» تجربة مزيجه. استطاع أن ينقل المرض إلى «عايش الغلبان»، وحقنَه بدوائه. لكن «عايش» غاضباً يكسر حقنة الدواء قبل أن تصل إلى ذراع «شروق»، فتموت. بقي أن يحقن «ندى»، لكنها خوفاً من قدوم الشرطة بناء على وشاية في حق «يسري»، حطّمت القارورة وحرقت أوراق بحوثه. باتت «ندى» مرشحة للموت وتنتابها من حين لآخر أعراضه الأخيرة، أما «يسري» فيفقد الذاكرة.

عاد طفلاً وديعاً في حِجرها. عيناه مفتوحتان في نظرة ثابتة إلى المحبوبة، وفمه الخالي من الأسنان يبدو كجرح لم يندمل، بينما رأته ندى فم طفل رضيع ولد في العراء بلا أب، فغمرها حنان جارف. هذا ملخص الرواية، أما المتعة التي تجلبها لقارئها فتكمن في جولاتها في المكان من القصر إلى الحواري والمقابر والمقاهي، ومن الصحراء إلى البحر والفنادق. في كل مكان حكاية، وفي كل حكاية شخصيات تتنفس وتنبض وتتحدث. هنا تتجلى مقدرة بهيج إسماعيل الذي كتب من قبل أكثر من ثلاثين مسرحية، في خلق شخصياته بحيث يصعب أن تغادر الذاكرة. لقد أبدعها برؤى سسيكلوجية وشعبية واجتماعية مختلفة، لتفرض وجودها الحي في فضاء النص.

ربما أكون غير قادر على رصد كل حيله وتقنياته، مع ذلك، سأحاول وأقدم جهد المُقل. ثنائية البناء: يسرى/ ندى، عايش/ شروق. كل من طرفي الثنائية ينتمي إلى عالم مختلف اجتماعياً وثقافياً. يسري/ ندى يعيشان في قصر، بينما «عايش» قضى عمراً في برميل، يحسن إليه العابرون بسياراتهم في الطريق الصحراوي، و «شروق» تنام لياليها على مقاعد المقاهي. التناص: هناك أشباح من التناص من دون الوقوع فيه، مثل رهان «فاوست»، «الحب في زمن الكوليرا»، «عناقيد الغضب»، «روميو وجوليت». أقول إنها مجرد أشباح ترد على ذهن القارئ أسماء حيناً، وتيمات مكتنزة حيناً، يتذكرها فتغني النص وتهيئوه لتقبل دلالات المشهد، من دون أن تفقده فرادته في المعالجة الروائية.

الشعر: تسري في السرد روح شعرية، بل ويأتي مستقلاً في قصائد من حين إلى آخر، أو في ما يستدعيه السارد من أغاني. كما يأتي في هذيانات أو أحلام بمشاهد عن علاقات حميمة لم تحدث. الفانتازيا: كفنتازيا الديك، والخرافة الشعبية عن السحر والجني: «كان عايش العريان متسولاً؛ يعيش في برميل إلى أن رآه رجلٌ هو في حقيقته جني من تحت الأرض.

لبسه ثم تولى رعايته وسهّل له الأمور حتى أوصله إلى الثراء، فبنى هذه الفيلا وسكن معه فيها متخذاً هيئة ديك، إلى أن وقع عايش في حب امرأة وأحضرها إلى الفيلا، ورآها الديك فعشقها وأصبح ينام معها سراً كل ليلة، يرفرف عليها بأجنحته وهي تتلوى تحته وتصيح إلى أن سمعها عايش ذات ليلة واكتشف الخيانة فحاول ذبح الديك لكن الديك استخدم قوته الجهنمية وطار، أما هي فيقولون إن قبيلة الديك جاءوا إليها لابسين الكمامات متخذين هيئة رجال الصحة وأخذوها إلى عالمهم تحت الأرض».

التصوف: كما في حديث حفّار القبور إلى «يسري»: «اسمع يا حكيم. قضى رجل ثلاثين عاماً في السجن لا يزوره إلا سرب من النمل يدخل من تحت عقب الباب في طابور طويل، قرر السجين أن يشغل وقته فأخذ يعلم النمل ويدربه كيف يسير في دائرة بدلاً من السير في طابور. ثلاثون عاماً يدربه ليغير النظام الذي خلقه الله عليه، وحين خرج من السجن حمل النمل داخل علبة وقصد مطعماً ليأكل ولما لم يكن معه نقود، أخرج النمل ووضعه على المنضدة مكوناً به دائرة محكمة، وما إن أتى الجرسون ورأى النمل حتى أسرع معتذراً عن عدم تنظيف المائدة، وبضربة واحدة من كفه قضى على النمل جميعاً… هل فهمت يا حكيم؟». الإجمال: من حيله أيضاً هذه الاجمالات الموجزة، لبعض شخصيات الرواية، وكأنه يستعيدها حية في مخيلة القارئ، كلما تعرّج السرد، وتكاثرت الحكايات. فعلها مع «يسري» و «ندى» و «شروق»… الخ.

النقد السسيو- ثقافي: بهيج إسماعيل الذي أهدى روايته إلى «العقول التي أضاءت لنا»، لا ينسى في بنائه لعالم روايته الأولى أن يكون مماثلاً للعالم المعيش، كاشفاً عن أمراضه التي تتفشى فيه. من ذلك شخصية تاجر القصب، مالك البرج الذي يحجب عنه الشمس، والذي يتعقب أصحاب الفيلات القديمة الجميلة، يشتريها ويهدمها ليقيم مكانها أبراجا قبيحة لا تسيىء فقط إلى المخطط المعماري والذوق العام، بل وتسيىء إلى معايير الصحة، وعلى رغم أنه لم يستطع شراء قصر «يسري» إلا أنه تمكّن أخيراً من الاستيلاء على فيلا «فرحان» بعد موت «شروق»، وها هو يشرع في هدمها، لا يدفعه في كل ذلك سوى الجشع.

صحيفة الحياة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى