“بلا قيود”.. المقالات الصحافية لغابرييل غارسيا ماركيز

إصدرت أخيراً ترجمة كتاب “بلا قيود- مقالات صحفية 1974-1995” للأديب الكولومبي الشهير الحائز على جائزة نوبل، غابرييل غارسيا ماركيز، عن دار الفارابي – بيروت 2017.

ولا تقل مُقدّمة الدكتورة هبة الله العطار أستاذ الأدب الإسباني وأميركا اللاتينية في جامعة كليفلاند الأميركية للكتاب أهمية عن الكتاب نفسه.

تقول العطار “إن ماركيز غني عن التعريف في العالم العربي لأنهم يتلقّفون بشغفٍ روائعه “مائة عام من العزلة” و”الحب في زمن الكوليرا”، عِلماً أن ماركيز هو صحافي من الطِراز الأول في الأساس قبل أن يكون روائيّاً عظيماً”.

إن الأسباب التي دفعت إلى ترجمة هذه المقالات هي أهمية الإنتاج الصحافي لماركيز وعدم توافر ترجمة لمقالاته بالعربية. إلا أن السبب الأهم هو أن القارِئ العربي من خلال هذه المقالات سيتمّكن من الوقوف على تداخّل لغة السّرد الأدبي المُميّزة لماركيز مع لغته الصحافية، ويطّلع على رؤيته لأميركا اللاتينية، وهي رؤية قد تكون صالِحة لقراءة ما يدور في وطننا العربي.

عندما نتحدّث عن الديمقراطية المأمولة في الوطن العربي تكثُر الإشارات إلى التجارُب الرائِدة لشعوبٍ أخرى استطاعت أن تتخلّص من أنظمتها الشمولية، وتُرسي قواعد الديمقراطية. ففي العقود الأخيرة تمكّن كثيرٌ من بلدان أميركا اللاتينية من إرساء الديمقراطية بعد مرورها بمراحل عدّة من النضال الناجِح أحياناً والفاشِل أحياناً أخرى. ونلحظ في تجارِب أميركا اللاتينية أنه كلما كانت حركات التغيير سلمية ومُدعّمة بمنظومةٍ فكريةٍ وعلميةٍ كانت أكثر فاعلية ونجاحاً. بينما نجد أن مُعظم حركات التغيير التي لجأت عمداً أو كرهاً إلى القوّة العسكرية، طالما انتهت بها الحال إلى الانزلاق في فخّ العُنف، بموجاته المُدمّرة. ونلحظ إلى جانب ذلك تفجّر خمس ثورات كبرى خلال القرن العشرين في أميركا اللاتينية: ثورة المكسيك وثورة كوبا وثورة التعليم والثورة الدينية وثورة أهالي القارّة الأصليين.

ماركيز، صاحب “مائة عام من العزلة”، يُشير مِراراً إلى كوبا في مقالاته، إلا أنه من الصعب فَهْم الثورة الكوبية من دون وضعها أولاً في سِياقِ ثورةٍ حاسِمةٍ أخرى سبقتها في مطلع القرن العشرين، وهي ثورة المكسيك – التي سبقت ثورة روسيا – والتي تُعتَبر بحق نقطة بداية جميع الثورات والحركات الإصلاحية في أميركا اللاتينية. فهي سعت إلى تطبيق القِيَم الاشتراكية، وإلى تأميم النفط المكسيكي الذي طالما سيطر عليه الأميركيون، وإرساء قانون الإصلاح الزراعي وتأمين حقوق العمّال والعمل على تقليص الأميّة.

لكن علينا أن نعي أن أياً من تلك الإنجازات لم يكن ليتحقّق من دون عراقيل. فقد أشعلَ المُناضل فرنثيسكو ماديرو فتيل الثورة من أجل التخلّص من حُكم الديكتاتور بورفيريو دياث الذي هيمنَ على السلطة نحو ثلاثين عاماً، قد يكون حقّق خلالها إنجازات اقتصادية. إلا أن المُستفيد من عائِدها من دون غيره النُخبة الحاكِمة والدوائر اللصيقة بها. وظلّ بورفيريو دياث يُراوغ طويلاً بشأن عَزْمِه الترشّح لفترةٍ رئاسيةٍ أخرى. وعمَدَ إلى التخلّص من كل مَن يُهدِّد مشروع استمراره في السُلطة، فسجنَ المناضل فرنثيسكو ماديرو، الذي تمكّن من الفرار في ما بعد، ودعا للإطاحة بحُكم بورفيريو دياث بالقوّة.

وتفجّرت شرارة الثورة من شمال المكسيك، وسُرعان ما وصلَ صداها عبر أرجاء البلاد. وتكوّنت فِرَق مختلفة تحت قيادات مختلفة، فاضطر بورفيريو دياث إلى التخلّي عن الحُكم، مُفسحاً المجال أمام فرنثيسكو ماديرو. لكن الأمر لم ينتهِ بهذه البساطة، فالقوات الثائِرة في ربوعِ المكسيك كان لكلٍ منها مصالحها الخاصة. فقامت ثورة مُضادّة وحصلَ انقلابٌ أطاح ماديرو ونصّب ويرتا في الحُكم بدلاً منه. ثم سُرعان ما انشقّت على الأخير فصائل ثورية أخرى. وهكذا توارت الأهداف الأولى السامية للثورة واضطرم الصراع طويلاً بين الفصائل المُختلفة. فالريف المكسيكي انقسم منذ بداية الثورة تحت قيادتيّ فرنثيسكو فييا في الشمال وإمليانو ثباتا في الجنوب. وانقسمت القوى السياسية في الحَضَر بين الحكومات المُتتالية بجيشها الفدرالي وبين المعارضة بقوّاتها المُقاتِلة. وأسفر عن ذلك كله انحسار الاستقرار واستشراء العُنف.

وفي هذا الوقت كانت الولايات المتحدة تترقّب عمليات التأميم والتوجّه الاشتراكي المُتصاعِد في المكسيك التي تُعدّ أولى جاراتها من الجنوب. فلم تترك الولايات المتحدة فرصة لإحباط الثورة إلا واستغلّتها سواء عن طريق الضغط السياسي أو عبر القوى الناعِمة وعلى رأسها ما مارسته قوى السياسة في واشنطن من ضغطٍ بواسطةِ مدينة السينما في هوليوود. إذاً وجدت إحدى شركات الإنتاج السينمائي ضالّة واشنطن المنشودة في شخصِ زعيمِ منطقة الريف الشمالي المكسيسي فرنثيسكو فييا، الذي انتبه مثل زعماء مكسيك آخرين لأهمية السينما التي كانت حديثة العهد. وأدرك مثل غيره أهمية تصوير الخطب والمعارك في تكوين صورة ذهنية لدى الجماهير، يسهل من خلالها استقطابهم. فلم يقف فرنثيسكو فييا إدراكه واستخدامه للكاميرا عند تصوير الأفلام الوثائقية، بل تعدّاه إلى محاولة الظهور بشخصه في أفلام سينمائية روائية (صامِتة). وكان هذا ما استغلّته إحدى شركات السينما الأميركية، فعقدت معه صفقات تضمن ظهوره في أفلامٍ روائيةٍ عن معاركه. وبينما كان الزعيم بييا يهدف إلى إيصال صورة الواقع المكسيكي إلى المواطن الأميركي، كانت هذه الشركة إلى جانب ما حقّقته من أرباحٍ خياليةٍ من وراء تلك الأفلام، توصل للموطن الأميركي انطباعاً يدعم الصورة الذهنية السلبية عن الثورة المكسيكية، بوصفها ثورة ارتجالية، الأمر الذي يصبّ في مصلحة واشنطن التي أرادت أن يدعم شعبها سياستها المُناهِضة لتلك الثورة.

الخطر الحقيقي على الثورة لم يكن محصوراً بالخارج، بل في الداخل أيضاً. فعلى الرغم من أن العاصمة فيها الكثير من المُتعلّمين، كانت الأحوال المُتردّية في الريف تُسهّل انقياد الكثيرين وراء زعماء مثل فييا في معارك لم يكن الكثير منها محسوباً أو منطقياً مثل حال غارته التي شنّها على إحدى المناطق الواقعة جنوب الولايات المتحدة. فشتّت تابعيه على حساب الثورة واستجلب تدخّلاً أميركياً لا طائل للبلاد به.

ورغم كل سلبيّات الثورة المكسيكية إلا أنه علينا أن نعترف إن ما بدأ كاعتراضٍ على استمرارِ بورفيريو دياث في السلطة، سرعان ما أفرز حركة ثورية سياسية ومجتمعيّة وزراعيّة وفنيّة مُتكامِلة. صحيح أنه لم يتحقّق مع اندلاع الثورة عام 1910 وضع دستور جديد إلا عام 1916 بعدما جاء برلمان يمثّل كل أطياف المجتمع السياسي.

إن أهم الحقائق الواجِب عدم إغفالها هي النُخبة المُثقّفة التي لعبت دوراً حاسِماً في تشكيلِ مجتمعِ ما بعد الثورة في المكسيك. وكان أبرز مُفكّريها الكاتِب والفيلسوف خوسيه لويس فاسكونثيلوس، الذي كتبَ مطوّلاً عن إصلاح التعليم في المكسيك. وكان من أبرز أعماله كتابه “السُلالة الفلكية”، الذي تناول فيه مسألة الأجناس والأعراق، محاولاً تحليل أسباب خضوع شعوب أميركا اللاتينية طويلاً للمُستعمِر الإسباني. والواقع أن المراجعة التي قام بها فاسكونثيلوس وغيره من مُفكّري القارّة أتت ثمارها، فلقد توالت السنوات وجاء كارلوس فوينتس، أحد أعظم روائيي المكسيك، وأبرز ممثّلي أدب “البوم”، وأقرّ في كتابه “المقبرة الدفينة” الصادر عام 1992 بأن الهوية اللاتينو-أميركية بلغت مرحلة عالية من النُضج، سمحت لها باستيعاب كل مقوّماتها، سواء من أهالي البلاد الأصليين أو من الإسبان أو من الساميين عرباً كانوا أو يهوداً أو أفارقة ومهاجرين. اليوم بعد مئة عام من الثورة المكسيكية نجد أن مرحلة البناء لم تكتمل وهناك مشاكل خطيرة معوّقة للتنمية.

تحمل مقالات ماركيز المُترجَمة في هذا الكتاب ملامِح أسلوب الصحافة الأدبية أو ما عُرٍفَ بأسلوب الصحافة الجديدة التي طالما استخدمها روائيو أميركا اللاتينية. ويتميّز هذا النوع بالسّرد وأسلوب الريبورتاج الذي يجمع عدداً كبيراً من المعلومات ثم سردها بأسلوبٍ أدبي تسحر نظر القارئ، فيذوب الثوثيق التاريخي في المقال، مع ثنايا الخيال والوصف الأدبي. فالكاتب اللاتينو-أميركي يميل إلى وصف المتخيّل حيال ذلك الواقع. ولعلّ أول مقالات هذا الكتاب خير مثال على ذلك الأسلوب.

مجموعة مقالات ماركيز الصحافية تُعيد إلى الذاكرة كُتّاباً كباراً أبدعوا في عالميّ الصحافة والأدب وعلى رأسهم طه حسين وصبري موسى وفتحي غانم وإميلي نصرالله، فرغم رحيلهم لا تزال مقالاتهم ورواياتهم تُشكّل مُنطلقاً لأيّ إبداعٍ صحافي أو روائي أو قصصي.

ومن أجمل ما قرأت لماركيز قوله: “عندما تقرّر أن تكتب فيعني إنك تقرّر أن تكون كاتباً عظيماً أو فاشلاً”. فلا يمكن لأيّ كاتبٍ أن “يُهندِس” مقالاته بصورةٍ جذّابةٍ من دون أن “يجوهِر” ذاته بقراءة أهم الروائع الأدبية.

الميادين.نت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى