جامع المعرفة المهووس ينتصر على الدولة البوليسية

عن منشورات المتوسط في إيطاليا صدرت حديثا رواية “عزلة صاخبة جدا” للروائي التشيكي بوهوميل هرابال، ترجمة منير عليمي. ويُعدّ هرابال من أبرز الأدباء التشيكيين في القرن العشرين. وصفه مواطنه الروائي الشهير ميلان كونديرا بأنه “أفضل كتّابنا اليوم… كتاب واحدٌ من كتبه يختصر كلّ ما عجزنا نحن جميعا عن تقديمه لأجل إنسان متحرر، رغم كل ما نفعله بإيحاءاتنا واحتجاجاتنا الصّاخبة”.

نشر هرابال هذه الرواية بنفسه عام 1976، ولم تُنشر في دار نشر إلاّ عام 1989 بسبب رقابة الدولة البوليسية وقتها. وهي تروي قصة رجل عجوز أبله يعمل في إتلاف الورق في براغ؛ يحفظ ويجمع أعدادا كبيرة من المخطوطات والكتب النادرة والمحظورة من خلال عمله. إنها حكاية جامع معرفة مهووس ينتصر على الدولة البوليسية التي أرادت أن تنتصر على المعرفة.

كتبت صحيفة نيويورك تايمز عن هرابال قائلة إنه “صرخة ضد نهاية الإنسانية، وكتابه ‘عزلة صاخبة جدا’ هو إنقاذ من اللامبالاة القاتلة الفعالة في قتل الحرف أكثر من أشدّ آلات الإتلاف تعقيدا”. كما كتب أحد محرري صحيفة الغارديان أن “حكايات هرابال أطلقت عن الناس العاديين ثورة سينمائية في وطنه، وأصبحت الحانة التي اعتاد على ارتيادها في براغ مزارا لكبار الشخصيات. أثبت هرابال أنه أسطورة زمنه”.

ولد بوهوميل هرابال عام 1914 في مدينة برنو، نتيجة علاقة عابرة بين أمه ماري وأحد شباب المدينة، ثم تزوجت فرانتيشك هرابال محاسب مصنع “البيرة” في مدينة بولنا، فحمل الابن اسمه ووجد فيه نعم الأب. انتقلت أسرته فيما بعد إلى مدينة نيمبورك على نهر إلْبِه، حيث تلقى تعليمه وأمضى سنوات يفاعته. وقد ظهرت تجارب هذه المرحلة في ثلاثيته القصصية “بلدة على شاطئ النهر” وفي “البلدة التي توقف فيها الزمن”.

لم يبدِ هرابال اهتماما بالمدرسة وواجباتها، بقدر اهتمامه بالحياة الملوّنة في معمل البيرة وبشقيق زوج أمه الذي أتى بقصد الزيارة، فبقي أربعين سنة حتى وفاته، وقد أطلق هرابال على أسلوبه في الحديث صفة “النهر المتدفق”، واتّبعه في معظم كتاباته، لا سيما في قصته الطويلة “آلام العجوز ڤرتر” التي غيّر عنوانها ونشرها عام 1964 بعنوان “دروس رقص للكبار والمتقدمين”.

بعد حصوله على الشهادة الثانوية عام 1935 انتسب هرابال إلى كلية الحقوق، وصار يحضر في الوقت نفسه محاضرات تاريخ الأدب والفن والفلسفة، ولم يتمكن من إنهاء دراسته حتى عام 1946 بسبب إقفال الجامعة في فترة الاحتلال النازي لبلده، فعمل أثناء الحرب في الخطوط الحديدية، وفي شركة للتأمين، وبائعا متجولا، ثم في معمل لصهر الحديد. وتعرّض عام 1953 لحادث مؤلم اضطره إلى الانتقال إلى مستودع لجمع الورق القديم. وتجلت تجارب هذه المرحلة في بعض أبرز أعماله السردية مثل “عزلة صاخبة جدا”.

كتب في الثلاثينات من القرن العشرين الجزء الأول من سيرته الذاتية الثلاثية “أعراس في البيت” و”خدمتُ ملك إنكلترا”، لكنه لم ينشر أيا من كتاباته حتى خمسينات القرن الماضي، ولم يتفرغ كليا للأدب حتى عام 1963. لكن السلطات السوڤييتية في تشيكوسلوڤاكيا منعته من النشر منذ عام 1970، فصار ينشر بعض أعماله في مجلات المهجر ودور نشره.

نشر عام 1975 مقالة في النقد الذاتي في مجلة “تڤوربا” في براغ، أدت إلى التساهل معه رقابيا، ولكن بحذر بالغ. وبعد تفكك المنظومة الاشتراكية عام 1989، وقيام جمهورية تشيكيا، صدرت مؤلفاته الكاملة بين عامي 1991-1997 في تسعة عشر مجلدا عن دار نشر “خيال براغ”، وبلغ مجموع ما طُبع من كتبه باللغة التشيكية حتى اليوم ثلاثة ملايين نسخة، كما تُرجمت بعض مؤلفاته البارزة إلى ثلاثين لغة، وكان أحد أسباب شهرته عالميا هو تحويل روايته “قطارات مراقبة جيدا” إلى فيلم سينمائي نال جائزة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي عام 1967. كما أعيد اقتباس الرواية للسينما مرة ثانية في الولايات المتحدة الأميركية عام 1971.

توفي هرابال في أحد مستشفيات براغ بعد أن سقط من شرفة الطابق الخامس عندما كان يطعم الحمام البرّي. وقد شك بعضهم في كون سقوطه انتحارا وليس حادثا، لا سيما أن الأسلوب قد ورد في مشهدين من أعماله.

اعتمد هرابال في موضوعات رواياته وقصصه على أحداث من الحياة اليومية يتورط فيها أناس عاديون من دون أن تكون لهم سلطة على سير الأمور أو قدرة على استيعاب ما يجري. ويتسم أسلوبه بقدرة تعبيرية بصرية عالية، وبميل إلى الجمل الطويلة المتدفقة، إلى جانب حس فكاهي ساخر وساحر، يعتمد كثيرا على شخصية “الأحمق الحكيم” الذي تبدر عنه في اللحظات الحرجة أفكار في غاية العمق.

من الرواية
“أُسرع مباشرة إلى عملي، إلى جبل من الأوراق، كما لو كنتُ آدم، وهو يستلقي بين الأعشاب، ثمّ ألتقط كتابا. تنفتح عيناي على عالم غير عالمي؛ لأنني عندما أشرع في عملية قراءة، أكون في مكان معلوم ومختلف، أكون مع النصّ، نصّ مختلف ومذهل. عليّ أن أعترف أنني كنتُ أحلم، أحلم بأرض ما، بجمال عظيم. كنتُ في قلب الحقيقة. عشر مرّات في اليوم أتساءل أيّ إنسان غريب أنا؟ أيّ هدوء ينتابني وأنا أنعزل مع ذاتي وأهرب من نفسي؟ أذهب ناحية المنزل، أجوب الشوارع في صمت. في هدوء رهيب، أعبر والقطارات والسيارات والأرصفة في غيوم من الكُتُب التي جئتُ بها، وحملتُها في حقيبتي. أنا ضائع في أحلامي، أحيانا أجتاز الإشارات الضوئية لأن حقيبتي مليئة بالكُتُب، وأخاف أن يستفسر أحد ما عن هويّتي، فلا أجيبه”.

مجلة الجديد اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى