جبران خليل جبران ينقل الشعلة الزرقاء إلى مي زيادة (حازم خالد)


حازم خالد


الحب هو الذي ينقل الإنسان إلى تلك الواحات الضائعة، واحات الطهارة والشعر والموسيقى لكي يستمتع بعذوبة تلك الذكريات الجميلة، لم يحب رجل امرأة مثلما أحب جبران خليل جبران مي زيادة، لكن بقي الحب عفيفًا، وبقيت ناره مشتعلة في قلبيهما إلى أن فارقا الحياة، هذا العشق نادر في ذاته وفي حالاته، فلم يلتقِ جبران مي ولم ترَ مي جبران، لكن سهام الحب سكنت قلب كليهما. ويعتبر جبران خليل جبران من الأدباء الذين أثروا فن المراسلة عند العرب بما تركه من رسائل لفتت نظر الباحثين وأثارت فضولهم، فولجوا عبرها إلى عالم جبران المليء بالرموز والأسرار.
وفي طبعة جديدة عن "وكالة الصحافة العربية" بالقاهرة صدر كتاب "الشعلة الزرقاء .. رسائل جبران خليل جبران إلى مي زيادة"، فنطالع من جديد رسائل جبران خليل جبران لمي زيادة، فهما لم يلتقيا إلا عند طريق الرسائل.
وقبل الخوض في رسائل جبران لمي زيادة، كان لا بد أن نستعرض بعض الملامح عن حياة الأديبة مي زيادة.
ولدت "مي" بالناصرة بفلسطين عام 1895، واسمها الحقيقي ماري بنت إلياس زيادة، جاء بها والدها وهي دون البلوغ إلى مصر، حيث عكفت على المطالعة والتحصيل والتضلع في مختلف العلوم والفنون، وعرفت من اللغات العربية والفرنسية والإنجليزية والإيطالية والإسبانية، وأتقنتها، فاستكملت ثقافتها وتميزت بالذهن البارع والذوق السليم. وكانت "مي" توجه المناقشات والأحاديث بلفظها الرشيق وبيانها الناصع، وأصبحت دارها منتدى أدبيًا. لم تحاول "مي" الخروج من الأغلال الخارجية التي تقيد المرأة فقط، بل وجدناها تحاول الخروج من أغلال الذات، فكانت رائدة في محاولة التعبير عن أعماقها عبر الأدب "الرسائل" المقالة، الخاطرة الوجدانية التي وجدناها في كتبها، أي عبر أجناس أدبية تظهر صوت "الأنا" صريحًا واضحًا، وبذلك استطعنا أن نعايش أعماقها بكل ما يعتلج فيها من عواطف وأحلام وصراعات، إذ من المعروف أن الكاتبة العربية لم تجرؤ على الخوض في هذا المجال إلا بعد "مي" بأكثر من خمسين سنة.
ويجدر بنا أن نوضح أن "مي" لم تكن في بداية علاقتها بجبران امرأة منطلقة في التعبير عن ذاتها، فقد اكتفت في البداية بالعلاقة الفكرية، بل دعت جبران للالتزام بحدودها، فاتسمت لغتها بالحذر، وتحصنت باللهجة الرسمية في الخطاب، فأخفت مشاعرها بألف قناع، حتى وجدنا جبران يتساءل مستغربًا بشدة ترددها وحذرها: "أهو الخجل أم الكبرياء أم الاصطلاحات الاجتماعية؟"، لعله كان يقارنها بالمرأة التي التقى بها في الغرب، والتي تتمتع بحرية التعبير عن أعماقها!
وهنا كتب جبران رسالته لمي زيادة من نيويورك 24 يناير/كانون الثاني 1919، قائلًا: حضرة الأديبة الفاضلة.. الآنسة ماري زيادة المحترمة.. سلام على روحك الطيبة الجميلة، وبعد.. فقد استلمت اليوم أعداد "المقتطف" التي تفضلت بإرسالها إليّ فقرأت مقالاتك الواحدة تلو الأخرى، وأنا بين السرور العميق والإعجاب الشديد.
ولكن لي سؤال أستأذنك بطرحه لديك، وهو هذا: ألا يجيء يوم يا ترى تنضر فيه مواهبك السامية من البحث من مآتي الأيام إلى إظهار أسرار نفسك واختباراتها الخاصة ومخبآتها النبيلة؟ أو ليس الابتداع أبقى من البحث في المبدعين؟ وكلامي هذا لا ينفي كونك تستطيعين إظهار اختباراتك النفسية الذاتية في كتابة تاريخ الفنون المصرية.. ليس ما تقدم سوى شكل من الاستعطاف باسم الفن.. أرجوك أن تثقي بإعجابي وأن تتفضلي بقبول احترامي الفائق والله يحفظك للمخلص.. جبران خليل جبران.
ويبدأ رسالة أخرى، قائلا: عزيزتي الآنسة "مي".. رجعت اليوم من سُفرة مستطيلة إلى البرية فوجدت رسائلك الثلاثة والمقال الجميل الذي تفضلت بنشره في جريدة "المحروسة".. ولقد انصرفت عن كل ما وجدته بانتظاري في هذا المكتب لأصرف نهاري مُصغيًا إلى حديثك الذي يتمايل بين العذوبة والتعنيف، أقول "التعنيف" لأنني وجدت في رسالتك الثانية بعض الملاحظات التي لو سمحت لنفسي الفرحة أن تتألم لتألمت منها.
وفي 15 نوفمبر/تشرين الثاني 1919 تلقت مي زيادة رسالة يحمل مغلفها التاريخ آنف الذكر، كانت عبارة عن بطاقة دعوة لمعرض فني كبير أقيم في نيويورك لفنانين أجانب وأميركان، وقد كتب جبران على تلك البطاقة إلى مي العبارة التالية: "هذه دعوة إلى وليمة فنية.. فهلا تكرمت وشرفتينا".
وبعد أسبوعين، أي بتاريخ 30 نوفمبر/تشرين الثاني 1919 استنادًا إلى ختم البريد في مصر المسجل على المغلف، تلقت مي رسالة أخرى تتضمن دعوة من نادي "ماكدويل" في نيويورك لحضور أمسية فنية أدبية في 2 ديسمبر/كانون الأول 1919 يقرأ فيها جبران بعضًا من حكاياته وأمثاله، وينشد فيها "ويتربابيزز"، بعضًا من أناشيده وقد كتبت جبران على هامش البطاقة بالإنجليزية ما يلي بعد الترجمة: "حبذا لو كنت هنا لتعيري أجنحة إلى صوتي وتحيلي همهماتي إلى تراتيل، ومع ذلك فسوف أقرأ وأثق أن لي بين الغرباء صديقًا لا يرى، يسمعني ويبتسم لي بعذوبة وحنان".
يا صديقتي يا مي.. نيويورك 3 نوفمبر 1920..
لم يكن سكوتي من الآونة الأخيرة سوى الحيرة والالتباس، ولقد جلست مرات بين حيرتي والتباس في هذا "الوادي" لأحدثك وأعاتبك ولكن لم أجد ما أقوله لك، لم أجد ما أقوله يا مي لأنني كنت أشعر بأنك لم تتركي سبيلًا للكلام.
وماذا أقول لك الآن ورسالتك العذبة أمامي؟ إن هذه الرسالة العلوية قد حولت حيرتي إلى الخجل، أنا خجول من سكوتي، وخجول من ألمي وخجول من الكبرياء الذي جعلني أصابعي على شفتي وأصمت، كنت بالأمس أحبك "المذنبة"، أما اليوم وقد رأيت حلمك وعطفك يتعانقان كملاكين فقد صرت أحسب نفسي المذنب.
يقول بعض الناس إنني من "الخياليين" وأنا لا أعرف ماذا يعنون بهذه الكلمة، ولكن أعرف أنني لست بخيالي إلى درجة الكذب على نفسي، ولو حاولت الكذب على نفسي فنفسي لا تصدقني، قد أجبت على سؤالاتك، ولم أنسَ شيئًا. وقد بلغت الحد في هذه الصفحة قبل أن أقول كلمة، مما أردت قوله عندما ابتدأت في رأس الصفحة الأولى، لم ينعقد ضباني قطرًا يا مي، وتلك السكينة المجنحة المضطربة لم تتحول إلى ألفاظ، ولكن هلا ملأت يدك من هذا الضباب؟ هلا أغمضت عينيك وسمعت السكينة متكلمة؟ وهلا مررت ثانية بهذا الوادي، حيث الوحشة تسير كالقطعان وترفرف كأسلوب الطيور وتتراكض كالسواقي وتتعالى كأشجار السنديان؟ هلا مررت ثانية يا مي؟ والله يحفظك ويحرسك.. جبران.
نيويورك فى صباح الاثنين 30 مايو 1921..
يا مي يا ماري يا صديقتي (ماري هو اسم مي الأصلي، إلا أنها اختارت الثاني واشتهرت به وأصبح اسمها الأدبي والشخصي) استيقظت الساعة من حلم غريب، ولقد سمعتك تقولين لي في الحلم كلمات حلوة ولكن بلهجة موجعة، والأمر الذي يزعجني في هذا الحلم هو أنني رأيت في جبهتك جرحًا صغيرًا يقطر دمًا، لا أذكر أنني حلمت في الماضي حلمًا أوضح من هذا الحلم، لذلك أرني مشوشًا مضطربًا مشغول البال.
ماذا تعني رنة التوجع في كلماتك الجميلة؟ وما معنى الجرح في جبهتك؟ وأي بشري يستطيع أن يخبرني مفاد انقباضي وكآبتي؟ سوف أصرف نهاري مصليًا من قلبي، أصلي لأجلك في سكينة قلبي.. وسوف أصلي لأجلنا.. والله يباركك يا مي ويحرسك.. جبران.
تلقت مي مغلفًا صدر بتاريخ 31 ديسمبر 1923 يتضمن بطاقة بريدية تحمل رسالة قصيرة، بدأها في أسفل الصورة وأتمها على ظهرها هذا نصها:
كان هذا الوادي في الصيف الغابر يذكرني بأودية لبنان الشمالي.
لا، لا أعرف عيشًا أهنأ من عيش الأودية، وأحب الأودية يا ماري في الشتاء، ونحن أمام موقد ورائحة السرو المحروق تملأ البيت، والسماء تنثر الثلوج خارجًا، والريح تتلاعب بها، وقناديل الجليد مدلاة وراء زجاج النوافذ، وصوت النهر البعيد وصوت العاصفة البيضاء يتآلفان في مسامعنا.. ولكن إذا لم تكن صغيرتي المحبوبة قريبة مني فلا كان الوادي، والثلج، ولا رائحة عود السرو، ولا بلور قناديل الجليد ولا أنشودة النهر، ولا هيبة العاصفة.. بعدًا "لها كلها"، إذا كانت صغيرتي المباركة بعيدة عنها وعني، وأسعد الله مساء الوجه الحلو المحبوب.. جبران.

• الشعلة الزرقاء

وبعد عرض بعض الرسائل المرسلة من جبران لمي، كانت مي في حياة جبران الصديقة، والحبيبة الملهمة وصلة الوصل بينه وبين وطنه، وأكثر ما أحب فيها عقلها النير الذي تجلى في مقالاتها وكتبها وأحب فيها حبها له أعجابها بشخصيته وإنتاجه الأدبي والفني الذي كانت تتناوله بالتقريظ والنقد في مقالاتها في مصر.
وعلى الرغم من كل ما كتب عن علاقات جبران، الغرامية من النساء أمثال "ماري هاسكل" و"ميشلين"، فإن حبه لمي كان الحب الوحيد الذي ملك قلبه وخياله ورافقه حتى نهاية حياته، فقد كان حبه لها معادلًا حبه العارم لوطنه لبنان.. ولروحانية الشرق وبالدم العربي الذي يجري في عروقه، وهذا مما تؤكده رسائل الشعلة الزرقاء التي هي جوهر النفس الإنسانية في أسمى صفائها.
يذكر أن الطبعة الجديدة من كتاب "الشعلة الزرقاء.. رسائل جبران خليل جبران إلى مي زيادة" صدرت ضمن مطبوعات وكالة الصحافة العربية بالقاهرة 2012 ويضم نحو 122 صفحة من القطع الكبير.

ميدل ايست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى