رسائل ليدي جوردون من مصر: روح التسامح والإصغاء

كانت إقامة ليدي جوردون Luci Duff Gordon في مصر، وبشكل خاص في صعيدها، أطول فترة قضاها أوروبي في هذا الجزء من مصر، وقدمت الملاحظات المتعاطفة والنفاذة التي ضمنتها رسائلها، إلى عائلتها صورة لمصر لم يستطع أن يجاريها فيها أحد.

ولدت ليدي جوردون عام 1821 لوالدين جادين عرفا بحبهما الكتابة والتأليف. كان أبوها محامياً أكاديمياً كتب الكثير عن فقه التشريع، وأورث ابنته نزعة فطرية إلى الدقة، وكانت أمها تترجم الكتب عن الألمانية وتكتب المقالات عن التعليم. وكان أصدقاء الأسرة من الراديكاليين المتحمسين في تلك الأيام، مثل: بنتام، جون ستيوارت ميل، مالكون وونستون سميث، وقد نمت ليدي طفلة وحيدة ومبكرة النضج في مثل هذا المناخ.

وفي بداية الأربعينات من عمرها أصيبت بالسل، الأمر الذي نصحها معه الأطباء بضرورة الابتعاد عن جو إنكلترا، فسافرت إلى جنوب أفريقيا عام 1861 ومنها كتبت رسائلها letters from cafe، التي نشرت عام 1864. غير أنه لما كانت ابنتها جانيت متزوجة من رجل أعمال وبنوك يعيش ويعمل في الإسكندرية، فقد نصحت بالاستفادة من جو مصر وفي الوقت نفسه الاحتفاظ بصلاتها بأسرتها. وهكذا وصلت إلى القاهرة عام 1862 وكتبت عند وصولها «عن الجو الذهبي حيث كل شيء تغمره أشعة الشمس والشعر»، ولكنها ما لبثت أن اكتشفت أن مناخ القاهرة في شهور الشتاء لا يلائمها، ولذلك اختارت أن تتوجه إلى الصعيد لتعيش هناك، وقدمت لها الأقصر بوجه خاص بديلاً سحرها تراجعت أمامه القاهرة. وهكذا كانت أيامها «الذهبية» في القاهرة محدودة، إذ اتجهت إلى الأقصر التي ظلت تعيش وتكتب فيها رسائلها حتى وفاتها في بولاق في 14 حزيران (يونيو) 1869، وإن كانت تود أن تموت «بين ناسها» في الصعيد.

وإذا كان اكتشاف مصر الحديثة الذي ملأ أرفف مكتبة كاملة بدأ مع غزو نابليون لمصر عام 1798 وفتح كتاب «وصف مصر» أعين أوروبا على العالم غير العادي لمصر القديمة، كما جاءت كتابات إدوارد لين «عادات وتقاليد المصريين القدماء» الذي نشر عام 1836 وكتاب «المصريون القدماء»، قدمت وصفاً لمصر العصور الوسطى، فإن مصر التي عاشت تحت وطأة محاولات التحديث المتسرعة لمحمد علي وخلفائه، فقد جاءت رسائل ليدي جوردون كلمات تقدم وصفاً وتعليقاً لا يقدر حول آثار ذلك وبشكل خاص من خلال حكم الخديوي إسماعيل.

التعاطف مع المقهورين

وترافق وصول ليدي جوردون إلى مصر مع لحظة مصيرية، اذ تولى إسماعيل الحكم لكي يواصل جهود محمد علي المندفعة لبناء الدولة ويصل إلى مستويات من استغلال شعبها بكل فئاته ويقوض النخبة الدينية والريفية. كذلك توافقت سنوات إقامتها في مصر مع العمل في شق قناة السويس التي افتتحت في العام الذي توفيت فيه 1869 ، لذلك حفلت رسائلها بمظاهر ما تعرض له الشعب المصري من قسوة الحكام ومن ظلم النظام وعدم كفاءته وأساليب التجنيد الإجباري وتفريغ الريف من سكانه. وكتبت لزوجها عام 1863: «إن كل فرد يلعن الفرنسيين هنا. إن 40.000 يعملون في قناة السويس عند حد المجاعة وثمة اهتياج وتخوف كبير مما ما سيفعله الباشا الجديد (إسماعيل)». كما كتبت في إحدى رسائلها تصف وقع قسوة الضرائب التي فرضها إسماعيل عام 1867 بعد خفض أسعار القطن نتيجة عودة القطن الأميركي إلى السوق العالمي».. وحتى الوجهاء دخلوا السجن، حيث وجدوا من المستحيل على الفلاحين دفع كل الالتزامات الكاملة لقواهم. وحول الأقصر تحول ملاّك الأرض إلى مجرد مشاركين في المحصول، وعرضوا عليها جزءاً كبيراً من المحصول إذا ما ساعدتهم على دفع الضرائب أو جعلها تتدخل نيابة عن زميل لهم مسجون، وكتبت لأمها: «إنه لشيء مثير حين يكشف صديق عن ملابسه لكي يظهر علامات وقروح السلاسل حول عنقه»، الأمر الذي لم تكن تستطيع أن تساعدهم فيه، وبدت التغيرات من خلال إقامتها في مصر، أكثر مما تستطيع تحمله «إنني أتذكر ما طالعته عيناي من نافذتي عند وصولي من مناظر طبيعية جميلة، وحيث كانت تعج بالبشر والحيوانات، ثم أنظر إلى مظاهر الضياع المفزع أمامي الآن فأشعر حقاً بمدى ثقل قَدم الحاكم ووطأته». كما تصور في رسالة أخرى قسوة الحياة على الناس فتقول: «… في يوم قد يجد الإنسان طعامه، وفي يوم آخر لا شيء على الإطلاق. والأطفال يرتجفون من سوء الطعام والقذارة وكثرة العمل».

ثم تحكي ما رواه لها شاب من أكثر الناس احتراماً، حين جلس إليها ينقل ما سمعه بالأمس ممن جاؤوا عبر النهر من قصص مرعبة عن الجثث المتمددة من دون دفن بأمر الباشا، ويقول لها: «بين كل العالم ليس هناك أكثر بؤساً منا نحن العرب. إن الترك يضربوننا، والأوروبيين يكرهوننا ويقولون: تماما، والله أن من الأفضل لنا أن نخفي رؤوسنا في التراب (أن نموت) وندع الأجانب يأخذون أرضنا ويزرعون القطن لأنفسهم، وبالنسبة إلي فأنا متعب من هذه الحياة البائسة والخوف على مصير بناتي الصغيرات المسكينات».

كان من الواضح أن تعاطف ليدي جوردون مع ما رأته من معاناة المصريين إنما كان يعود إلى تكوينها الثقافي والمناخ الذي نشأت فيه، بين أقطاب الراديكالية الليبرالية في أيامها، الأمر الذي وضعها بشكل حاسم في صف المقهورين. واستبقت ليدي جوردون في هذا جيلاً من نقاد التجربة الاستعمارية، مثل ولفرد بلنت وسيمورتكي اللذين انتقدا دور بريطانيا في مصر. وعلى رغم أن ليدي جوردون لم تشهد حدثاً درامياً مثل ثورة عرابي عام 1882، فإنها تعد أكثر إحساسا من غيرها من البريطانيين في مصر بمحركات الثورة. وبالإضافة إلى شخصيتها الاجتماعية، فإن مصدر قدراتها غير العادية على الملاحظة المتعاطفة ربما نبع من الاختلاف بين هدف وجودها في مصر وهدف معاصريها، فلأنها لم يكن لديها أي مصالح أو ولاءات إمبريالية، بسبب إقامتها في مصر، لذلك كانت أقل تعرضاً لترديد الآراء النمطية. وربما ساعدت في هذا أيضاً ظروفها الصحية والمالية التي لم تشجعها على الاختلاط والاشتراك في شكل كامل في حياة المجتمعات الأوروبية والبريطانية في مصر. وعلى العكس من هذا، فإن قدراتها الطبيعية في اللغات التي جعلتها تتعلم اللغة العربية دفعتها لأن ترتبط وتعتمد أكثر على المجتمع المصري وأن تتعامل مع المصريين ليس كموضوعات للتحليل والسيطرة وإنما كقوم يستضيفونها ورافقوها حتى أيامها الأخيرة.

لخصت ليدي جوردون خبرتها في مصر وحياتها بين شعبها بقولها: «حين أجلس الآن مع الإنكليز أشعر وكأنهم أجانب بالنسبة إلي، وهكذا فإني أشعر الآن تماماً بأني بنت البلد هنا». والواقع أن هذه الخبرة كانت نتيجة معايشة يومية للواقع المصري والالتصاق بكل فئاته وبمواضعاته الاجتماعية والثقافية. مثلما عاشت ليدي جوردون بين الحكام والقضاة ورجال البوليس والمدرسين وقناصل الدول والمشايخ، عاشت في شكل أكثر التصاقاً بين الفلاحين وأكلت معهم وجلست بينهم وبين الجِمال تأكل اللبن الرائب والبلح، وغشيت حفلات الزواج والذكر والمآتم، وشاركت وراقبت المناقشات الدينية، واستمتعت بصحبة النساء المصريات وأطفالهن وحسن ضيافتهن، الأمر الذي أكسبها حب كل هذه المستويات الاجتماعية، بخاصة الفقراء فيها، وهو ما جعلها تكتب: إن الناس يأتون ويربتون على كتفي بأيديهم إلى الحد أن طرفاً من عباءتي قد بهت من كثرة التقبيل، وأصبحت أُلقب بــ «الست بتاعتنا». وفي مناسبات كثيرة رفضت عرضاً من البكباشي. هو رجل فظ مثل الأرناؤوط يمارس لعبته التركية في نصحي أن آخذ حذري، ويقول للعرب إن «الحكماء المسيحيين سوف يسمعون المسلمين». وعن مدى قربها من بيئتها وإقبال الناس عليها كتبت تقول: «… إني أعلم كل فرد في قريتي، وقد أشاعت نساء ماكرات أن مَقْدَمي يجانب السعد، ولذلك فكثيراً ما يطلب مني أن ألقي نظرة على عروس، وأن أزور منزلاً يشيد أو أتحسس الماشية. كما كانت تشعر خصوصاً بالسرور حين يوكل الآباء إليها علاج أطفالهم، وفي بعض الأحيان كان يتجمع عشرون أو ثلاثون فرداً خارج منزلي، ويأتي العديد منهم على جِمالهم من الصحراء مما وراء ادفو، وحين أسالهم ماذا جاء بهم، يجيبون أن الشاعر قصَّ عليهم أنني زهرة فوق رؤوس العرب وأن المرضى منهم يجب أن يذهبوا ليشموا رائحة هذه الزهرة».

وتروي ليدي جوردون، في ما يتعلق بأمور العلاج، ما يكشف شك الناس في الحكومة حتى في أمور الصحة، فقد ذكر عنها علي أفندي الحكيم كيف حاول أن يعالج هو مرضاها وأن يراهم ولكنهم رفضوا. «وحين غادر جاؤوني بأمراضهم، وحين نبأتهم بذلك قالوا: «والله يا ست يا حكيمة هذا الحكيمباشي سوف ينقلنا إلى المستشفى في قنا ثم يضعون لنا السم. نفيتُ لهم ذلك وقلت إن على أفندي رجل طيب وهو يقدم لهم النصيحة، ولكن بلا جدوى، فهو طبيب الحكومة وهم يفضلون الموت على ذلك، ولكنهم سوف يتقبلون أي شيء من الست «نور على نور» كما كانوا يسمونني».

وواضح أن التصاق ليدي جوردون بالمجتمع بكل فئاته ومراقبتها اليومية للعلاقات والسلوك والدوافع، كانا وراء ملاحظاتها التي سجلتها عن تفاصيل الحياة اليومية كافة وعن عادات المصريين وأخلاقهم. ونجدها تعقد مقارنة بين المرأة المصرية والبدوية… «أن تشاهد البدوي وامرأته يسيران في شوارع القاهرة لهو أمر رائع حقاً. فيدها تستريح على كتفه ونادراً ما تتنازل لكي تغطي وجهها المترفع وتنظر إلى المرأة المصرية المتحجبة التي تحمل أعباء ثقيلة وتسير خلف سيدها». كما تتذكر»… المرأة النوبية الشابة التي تريد أن تقدم لي أفضل هدية يمكن أن تفكر فيها، حصيرة صنعتها بيديها وكانت سرير زواجها. أما بالنسبة إلي فقد كانت هذه الهدية تجمع بن الصداقة والشرف، وقد قدرتها على هذا النحو».

الروح الاجتماعية

كي تسجل ليدي جوردون الروح الاجتماعية للمصريين ومقابلتهم الود بالود والمحبة كتبت: «… إذا ما تغاضيت عن المتطفلين الذين يبحثون عن البقشيش، فسوف تجد الكثيرين، وربما كانوا حفاة الأقدام، مستعدين أن يشعروك باهتمامهم، بخاصة إذا رددت عليهم بتحية أو نظرة رقيقة، وإذا ما شاركتهم عيش الذرة والبلح، واللبن الرايب وتناولته معهم بشهية». كما تورد ملاحظتها على سلوك المصريين في تجمعاتهم وجلستهم «… من الأمور الغربية أن تجد الضجة في الشارع، ولكن ضع نفس هؤلاء في مقهى في أي مكان فستجد أن واحداً منهم فقط هو الذي يتحدث، أما الآخرون فينصتون إليه ولا يقاطعونه أبداً، إن عشرين رجلاً لا يصنعون الضجة التي يصنعها ثلاثة أوروبيين». كما تبدي تقديرها لقوة الإنسان المصري وتحمله وتسخر من دعاوى كسله.

وتروي ليدي جوردون واقعة زواج أحد معارفها من المصريين من زوجة شقيقه الذي توفي، ووجد أن من واجبه أن يحميها وأطفالها وأن لا يتركها تتزوج من أجنبي، وتستخلص من ذلك أحد دوافع ظاهرة تعدد الزوجات ومعانيها، وتفهم منها… «أنها ليست دائماً سبب الانغماس في اللذة الحسية، فقد يتحمل تضحيات كثيرة تعاطفاً مع زوجة شقيقه المتوفى. إن هذا هو المسلم الحقيقي».

وكثيرا ما لاحظت ليدي جوردون في رسائلها الدرجة العالية من التسامح والتعايش بين الأديان، وفاخرت بحوارها وأحاديثها مع المسؤولين، ولم يزعجها ما قد يبدو من قلق ديني، ولم تهتم بالمفاهيم التي أشاعها المستشرقون حول الإسلام واعتبروها شيئاً مختلفاً تماماً عن المسيحية، وكانت ترى أن الإسلام يمر بعملية إحياء شبيهة بتجربة البروتستانتية في أوروبا «… أعتقد أن تغيراً عظيماً يجري بين العلماء لا يصبح معه الإسلام مجرد راية لجانب ما. إن كل الجانب المعنوي أصبح موضع نظر وتدقيق».

واتخذت ليدي جوردون من صديقها «الشيخ يوسف» مرشداً في هذه الأمور، فقد اتخذته أولاً لكي يعلمها اللغة العربية ثم أدركت أنه ليس فقط مجرد مدرس للغة العربية ولكنه شيخ الإسلام للأقصر كلها. وكان يمثل كلاً من السلطة الدينية والقانونية في المدينة، لذلك فقد علمها طرق الإسلام بل واقترح عليها أن يضعا معاً كتاباً يعلم الإنكليز أن الإسلام ليس ديناً متعصباً.

وشجعها ما لمسته من تسامح على أن تقول: «في الوقت الذي يكره فيه الأوروبي أن يدعى بالنصراني، فإنني أقول هنا بشجاعة: أنا نصرانية والحمد لله، وأجد في هذا موافقة شديدة من المسلمين وكذلك من الأقباط». وثمة أشياء غريبة تراها هنا في ما يتعلق بالدين: مسلمون يصلون قرب قبر مار جرجس. كما لاحظت أن الترجمان يلقب أحد الإنكليز الذين زاروا مصر بـ «الشيخ»، وحين سألت الترجمان عمن هو «الشيخ ستانلي»، أجابها أنه القسيس الذي رافق ابن الملكة خلال زيارته مصر، وأضاف: «في الواقع إنه شيخ حقيقي وواحد ممن يعلمون الأمور الحقيقية للدين، لقد كان رحيماً حتى مع الجياد، وإنه لمن رحمة الله على الإنكليز أن يكون هذا «إماماً» للملكة والأمير». وحين سألته وكيف تتحدث بهذا الشكل وأنت درويش بين المسلمين، عن قسيس نصراني؟ أجاب بأن من يحب كل مخلوقات الله فلا بد أن الله يحبه كذلك، ليس هناك شك في هذا». وتعقب ليدي جوردون: «ليس هناك أمل بتفاهم مجيد مع الشرقيين حتى يقتنع المسيحيون الغربيون ويدركوا العقيدة المشتركة التي تتضمنها الديانتان».

وتروي ليدي جوردون عدداً من الوقائع التي أكدت لها روح التسامح بين المسلمين تجاه المسيحيين، ففي أحد مجالسها جاءت سيرة الأجانب الغرباء الذين يموتون ويدفنون في مصر وما يتكلفه هذا، فعقبت بالقول: «معلهش، إن الذين كانوا كراماً في ضيافتي وأنا حية عليهم أن يكفوا عن هذا حين أموت، ولكن أعطني قبراً بين العرب»، ورد رجل عجوز: «أتمنى ألاّ نرى هذا اليوم يا سيدتي، ولكنه في أي مكان ستفنين فيه فإنك بالتأكيد سترقدين في قبر مسلم»، حينها تساءلت: «كيف يكون هذا؟»، أجاب: «لأنه حين يموت مسلم سيئ فإن الملائكة يأخذونه من قبره ويضعون بدلاً منه المسيحيين الطيبين». وتحكي عن مشهد دفن أحد الإنكليز الشباب، حين «تعاون الأقباط والمسلمون في حمل الغريب»… وفي مشهد غاية في التأثير «ساعة وضعه في القبر والصلوات الإنكليزية تتلى والشمس تهبط في فيض مجيد من الضوء على الطرف البعيد من النيل، قالت امرأة من العبابدة والدموع في عينيها وهي تضغط على يدي تعاطفاً مع هذه الأم البعيدة ومن جنس مختلف: هل كانت له أم؟ لقد كان شاباً».

صحيفة الحياة اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى