رواية إبراهيم نصر الله..غاب الشاعر وحضر الروائي

ينطلق إبراهيم نصر الله في ما قرأت له من أعمال روائية من التاريخ العربي الحديث نسبياً وبدافع من اهتمامه العميق بالقضية الفلسطينية، فإن أحداث هذه الروايات وشخوصها تتحرك في فلسطين ومحيطها الجغرافي. وسبق لي أن كتبت شيئاً عن رواية «الخيول البيضاء» وألمحت إلى أبعاد التلاحم الحميم بين هذا الروائي والقضية من ناحية وبين الواقع التاريخي والتخييل من ناحية ثانية. وإن كان التاريخ يتغلب أحياناً حتى ليظن القارئ ـ برغم مساحة التخييل ـ أنه يقرأ فصولاً من التاريخ وفي ذلك دلالة واضحة على نجاح الروائي في استحضار الوقائع التاريخية ومزجها بالخيال. وتبدو هذه السمة أكثر وضوحاً وحضوراً في روايته الأخيرة «قناديل ملك الجليل» التي تقدم بانوراما فنية لوقائع من القرن الثامن عشر ودور تركيا العثمانية وهي في عنفوان سطوتها وتمددها في إثارة النزاعات وفرض الأتاوات الجائرة على أبناء الأقطار العربية التي انضوت في البداية تحت سلطانها بلا مقاومة ولا شعور بغضاضة في الخضوع لما سمي بدولة الخلافة الإسلامية.

وفي هذه الرواية اختفى الشاعر وحضر الروائي بكل إمكاناته وتقنياته الحوارية والسردية وأثبت ـ وهو كان واحداً من الروائيين الذين جاءوا عن طريق الشعر ـ أنه بات يعرف معايير الكتابة ويدرك الفارق بين حالتي الكتابة الشعرية والكتابة الروائية، وهو في هذه الرواية لا يتخلى نهائياً عن موهبته الإبداعية الشعرية ولكنه ينحي ببراعة بين ما هو شعري وما هو نثري ويتحول إلى سارد يقظ يلملم الأحداث ويتابعها بدقة ويربط أجزاءها الصغيرة والكبيرة على السواء، ويهتم بملامح شخصيات الرواية حتى الثانوي منها ويغذيها بما تحتاج إليه من عناصر الوجود المكتمل حتى لا تغيب عن ذهن القارئ أو تتسرب خارج السياق المليء بعشرات إن لم نقل بمئات الشخصيات ذات الحضور الفاعل. ويصح القول إن أغلب الشخصيات الثانوية إن لم تكن كلها من صنع خيال الكاتب إلاّ أنها تأخذ مكانها في الواقع الروائي كأنها جزء منه، تعيش، وتنبض، تتألم، وتنوح، وتغضب، وتقوم بدورها الإنساني وفق ما رسمته مخيلة الروائي وما حشده من رؤى وتقنيات.

وثائق

يضم هذا العمل الروائي ثبتاً تاريخياً قصيراً يشير إلى الوثائق التي اعتمدها في بناء المقاربات التاريخية ومنها هذه الإضاءة الموجزة: «في القرن الثامن عشر، وعلى ضفاف بحيرة طبرية وفي جبال الجليل ومرج بني عامر، بدأ رجل من عامة الناس رحلته، نحو أكبر هدف يمكن أن يحلم به رجل في تلك الأيام: تحرير الأرض وانتزاع الاستقلال وإقامة الدولة العربية في فلسطين، متحدياً بذلك حكم أكبر دولة في العالم آنذاك (الدولة العثمانية) وسطوتها المنبسطة في ثلاث قارات: أوروبا، آسيا وأفريقيا. كان اسمه: ظاهر العَمر الزيداني 1689 ـ 1775م «. انتهت الإضاءة التاريخية وبدأ التركيز على شخص الظاهر بطل الرواية الأول، وحوله تتمحور بنيتها وتتجمع أحداثها. وكم نحن بحاجة إلى أن نعيد قراءة تاريخنا والقرب منه خاصة، تاريخ القرن الثامن عشر والتاسع عشر وما صاغته أحداثهما من حقائق قادت في مجملها إلى الواقع الراهن بكل انكساراته وهزائمه. والعودة إلى تلك المرحلة تشكّل في واقع الحال الراهن المقدمة الضرورية للتفكير الجاد في أوضاعنا وكيف الخروج منها بحلول سياسية وفكرية ناجعة.

الرواية إذاً صدر مفتوح على الإحالات المباشرة والمضمرة، تفيد من الحياة بأبعادها المختلفة وتنهل من الواقع ومن التاريخ والأسطورة والخرافة أيضاً، وعبقرية الروائي تتجلى في مقدرته على إجادة التمازج بين هذه العناصر في تكوين عمل روائي يبقى أثره عالقاً بالفكر والوجدان ولا ينطوي مع قراءة آخر صفحة من صفحاته. ومن أهم ما يلفت الانتباه في هذا العمل للروائي إبراهيم نصر الله، إنه يشير بوضوح في إحدى مستوياته إلى أن العرب انفصلوا عن تاريخهم القديم والحديث. وأن هذا الانفصال قد وضعهم في دائرة مظلمة يكررون فيها أخطاءهم، وأن استرجاع جوانب من هذا التاريخ في إطار سردي قد يوقظ الأذهان ويعيد إلى الذاكرة ما حاولت الظروف الغريبة والاستثنائية في غرابتها من إبعاد لها عنه. لقد أخرجت المنطقة العربية في مراحل معينة من التاريخ الحديث قادة على درجة كبيرة من الوطنية والشعور بالمسؤولية تجاه أمتهم ووطنهم، وكان هؤلاء القادة عرضة للتآمر والكيد حتى من أقرب الناس إليهم. وكان الأعداء ـ وذلك شأنهم ـ يحرضون على هؤلاء القادة الوطنيين ويضمون إلى صفوفهم أقرب المقربين منهم حتى أولادهم، كما حدث مع ظاهر العمر، وكانت الأطماع في الحصول على نصيب من السلطة أو المال يغري بالـتآمر والانشقاق والخروج عن قاعدتي الوطنية والأبوة، وما تفرضانه من وفاء وإخلاص، وهي ظاهرة تتكرر الآن وبصورة مخزية ومخجلة، وكأن الظروف الراهنة تعيد إنتاج الخيانات التاريخية بحذافيراها.

جغرافيا حقيقية

ليس في رواية «قناديل ملك الجليل» مدينة أو قرية تنتسب إلى الجغرافيا المتخيلة إذا جاز التعبير، كل المدن والقرى واقعية وما تزال قائمة بأسمائها وفي أماكنها وما تزال مسكونة بالبشر الذين ربما زاد عددهم وتضاعف عما كان عليه الحال في زمن «الظاهر» وحروبه، لكن هذه المدن والقرى ـ جرّاء ما طرأ عليها وعلى المنطقة كلها من تحولات ـ لم تعد قادرة على مقاومة العواصف وتجنب الوقوع في حقول الألغام السياسية والمؤامرات، ولكي لا تسقط في براثن أعداء ما كان «الظاهر» وأبناء جيله ليصل بهم الخيال إلى تصوره أو الشك في وقوعه، وإن كانت مقدمات حدوثه موجودة في الخلافات التي هيأت الظروف، وساعدت على تمزيق النسيج الوطني العربي، ومن يقرأ الرواية بإمعان ويدرك أبعاد الانقسامات التي كانت دائرة داخل الأرض الفلسطينية وخارجها لا بد أن يلمح أبعاد ما يحدث الآن ويدرك أنه كان قيد التشكل من ذلك الحين، ومنها تقويض كل محاولة جادة لإقامة وحدة أو اتحاد يحميان سيادة المنطقة واستقلالها.

في مثل هذه الحالة يكون الروائي قد نبه بعمله الإبداعي المتميز إلى ما كان محتملاً أن تقع فيه الأمة العربية. وكل روائي يتعامل مع التاريخ بحاجة إلى مقدرة تخييلية تمكنه من استرجاع الواقعي منه وربطه بإطار من الخيال الذي يقيم جسراً من شغف القارئ بحقائق التاريخ ورغبته في اقتناص المتخيل والاستمتاع بمناخاته. والروائي إبراهيم نصر الله لا يقدم في أعماله الروائية التاريخية مثل هذه الخاصية فحسب، بل هو ـ كما سبقت الإشارة ـ يجمع في رواياته بذكاء لمّاح بين كلٍ من الواقع والخيال على نحو يجعلنا نرحل معه عبر مرحلة كان يمكن لها أن تضع أساساً لمستقبل يختلف تماماً عمّا ظهر عليه. وإذا كان الروائي لأسباب فنية لا يكشف عن الفواصل القائمة بين الواقع والخيال فإن القارئ يستطيع ذلك حتى لو بدا له الواقعي أكثر غرابة من الخيال كما تقول أحداث هذه الرواية المكتوبة بعناية فائقة وشعور وطني وقومي وإنساني لا يتجاهل حركة الصراع والتحديات القائمة بين الإنسان وأعداء الحرية والعدل والكرامة في كل زمان ومكان.

وما يثير الانتباه أكثر في هذه الرواية أن المرأة تبدو أكثر صدقاً والتزاماً من كثير من الرجال، وربما كانت كذلك في الواقع، وتعد «نجمة» وهي عمة الظاهر أيقونة ذلك العهد بما امتلكته من سخاء وحكمة واستعداد للتضحية، ومن اقتدار على مواجهة الشدائد مهما استفحلت وطأتها، كما كانت ـ من خلال دورها وموقعها ـ مستبصرة تنظر إلى ما هو أبعد من اللحظات العابسة والعابرة، وكانت هذه النجمة هي الوحيدة التي يلجأ إليها «ظاهر العمر» في اللحظات الحاسمة فتعيد إلى نفسه الأمل ولا تراه إلاّ منتصراً، ومن حبها لبلادها كانت لا تمشي على الأرض إلاّ حافية القدمين في جميع فصول العام كأن جسدها تماهى مع الأرض وصار يرفض أن يكون بينه وبينها عازل أو فاصل. النساء في الرواية كثر ولا مجال في قراءة موجزة كهذه للحديث عن أدوارهن أو حتى أدوار بعضهن.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى