روبرت زيتالر: حنين لا شفاء منه

كانت سنة 1983 تحمل مفاجأة صاعقة للمشهد الروائي العربي حين نُشرت في مجلة «الكرمل» فصول من رواية لا تزال إلى اليوم (وستبقى) علامةً فارقة في الرواية العربيّة. تلك الرواية كانت «التيه»، أول أجزاء خماسيّة «مدن الملح» للمبدع الراحل عبد الرحمن منيف. من بين عشرات الأمكنة والشخوص والأفكار المتداخلة العديدة في الملحمة، بقيت شخصيّة متعب الهذّال في الذاكرة مع أنّه اختفى منذ الثلث الأول من «التيه» ولم يعد بعدها. كان متعب الهذّال هو الأمل في تغيير ما سيبقى عصيّاً على التغيير. كان الحلم المستحيل. كان صدى ستردّده الصحراء على الدوام وهي تتألم من الفاجعة التي سيطرت عليها وغيّرتها كلياً. كان متعب الهذّال كيخوته مدن الملح. وربما لم تكن تراجيدياه الفعليّة هي النفط وتغيّر معالم المكان الذي يحمله في قلبه كوشم، بل في كونه وحيداً بلا سانتشو بانثا.

كان سانتشو سيضبط إيقاع هذا الصراع لأنّه الشخصيّة الأصلح لذلك الزمن. كان سيرضخ لوحش الآلة من دون أن ينسحق أمامه. كان سيحاول التأقلم مع الوضع الجديد مع احتفاظه بالشروط التي تبقيه مختلفاً في جحيم التماثل. كان سيبقى حياً على الأقل من دون أن يكون مجرد ضحيّة.

كان سيعيش على الذكريات التي ستمثّل نقطة قوّته. كان، ببساطة، سيحاول التحوّل إلى صورةٍ أخرى مع إبقائه على الجوهر ذاته. كان سيتحول إلى شخص آخر، باسم آخر، وسينتقل إلى مكان وزمان مختلفين. كان سيصبح شخصيّة مختلفة في رواية أخرى. كان سيصبح أندرياس إيغر في رواية «حياة كاملة» للنمساويّ روبرت زيتالر التي صدرت أخيراً بترجمة ليندا حسين عن «دار التنوير».

«كانت تلك هي المرة الأولى التي يتردّد فيها صدى الهدير العميق لمحركات الديزل في الوادي… ودَّ إيغر لو يهتف مع [سكّان القرية]، إلا أنّه لسبب ما بقي جالساً على جذع شجرته. كان يشعر بالغم من دون أن يعرف لماذا». هكذا تبدأ تراجيديا القرية النمساويّة في جبال الألب بعد دخول الشركات بآلاتها لبناء سكة الحديد والتلفريك وتغيير معالم المنطقة بحيث لن تعود كما كانت. كان متعب الهذّال سيحارب بعصاه وناقته، ولكنّ أندرياس إيغر أخذ وقته وهو يحاول استيعاب ما يحدث، وما لبث أن قرر الانضمام إلى الزمن الجديد، وهتف مع الهاتفين. لكنّه بقي مختلفاً عن الجميع. بدا غريباً وكأنه لم يولد يوماً بين هؤلاء الناس، ولكنّه أدرك تماماً بأنّ هناك ما لم ولن يتغيّر: جوهر الطبيعة. لذا بقي يؤدّي عمله كأيّ عامل آخر، كأيّ رقم آخر، ولكنّ حياته الفعليّة تبدأ حين ينتهي العمل.

حين يعود إلى الأرض والجبال بلا آلات. حين يتلاشى صوت هدير الديزل وتعاود الجبال تنفّسها، فيتنفّس إيغر منها وفيها.

تمتد رواية «حياة كاملة» على طول تسعة وسبعين شتاءً هي مسيرة حياة أندرياس إيغر. بدأها وحيداً وأنهاها وحيداً، وبقي بينهما وحيداً تقريباً. لم يقطع وحدته إلا ثلاث نساء: جدّته التي ماتت وهو صغير، وماري زوجته، وآنا هولر التي أدفأته ليلة واحدة. بينما كان كلّ مَنْ تبقّى، حتى أعز زملائه في العمل أو السجن، محطات عابرة مثل رياح تهزّ شجرة وحيدة في الجبال.

وحدها المرأة هي من تجلب الدفء إلى صقيع أندرياس. لكنّ الصمت هو أساس كل علاقات أندرياس حتى مع نسائه، إذ تعامل معهنّ كما يتعامل مع الجبال والوديان والرياح والثلج والليل.

يتبادل معهنّ الصمت. وأيام بل سنوات الصمت في رواية زيتالر أهم من الكلام كله. زيتالر بارع في رسم لحظات الصمت، حيث لا نسمع إلا التنفّس، ولكنّه يكفينا لنفهم ونعيش حياة تلك القرية الصقيعيّة وسكّانها وسيّاحها الذين توافدوا بعد انتهاء حرب هتلر، وعودة أندرياس من صقيع روسيا التي عاش فيها أسيراً عدة سنوات، حيث قاسى أسوأ فترات حياته مع أنّه يبدو للوهلة الأولى ضمن الطبيعة ذاتها.

الثلج والجبال والصقيع. ولكنّ ذلك الصقيع الروسيّ يختلف كلياً عن صقيعه الحميم. هناك وصلت تراجيديا أندرياس إيغر إلى أقصاها، فبدأ ينمّي الحنين داخله بحيث بات خبيراً به حين عاد إلى قريته، وعلّمه للسيّاح.

عاش أندرياس إيغر حياته من دون أن يسمح لشيءٍ أو شخص أن يكسره. وحدها الطبيعة كسرته حين حرمته من ماري بعدما انهار بيته في السيل الجليديّ.

كان هذا البيت عشّ ماري وقبرها. ولأنّه كان لماري وحدها، لم يُعد أندرياس بناءه وبقي يغيّر أماكن نومه بلا استقرار كأي سائح. ومع أنّه بقي قوياً ظاهرياً، حيث لا تزال وقفته الراسخة هي ذاتها، إلا أنّه أدرك أنّ الزمن قد هزمه أخيراً، وتركه مجرّد شجرة متآلكة من الداخل، فانسحب ليمضي سنواته الأخيرة وحيداً. وهنا بدأ أندرياس الكلام، وكأنّ الصمت في الماضي كان وسيلته للنجاة، أو وسيلته لمقارعة الطبيعة، أما الآن فلم يبق إلا الكلام. صار مثل الجميع، يتحدث ويتحدث ويتحدث، حتى لو لم يكن يخاطب إلا نفسه.

رواية «حياة كاملة» هي أولى روايات زيتالر التي تُترجم إلى العربيّة، وهي أولى ترجمات ليندا حسين عن الألمانيّة.
كانت الرواية قد وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة «مان بوكر الدوليّة» عام 2016، وحققت حضوراً كبيراً بالرغم من عدم فوزها بالجائزة. يكتب زيتالر ببراعة وتكثيف مدهشين، ولذا حفر مكانه بجدارة بين روائيّي العقدين الأوّلين من الألفيّة.

«حياة كاملة» رواية قصيرة، ساحرة، تؤكّد عظَمَة الأدب النمساويّ الذي عاد بقوة في السنوات الأخيرة تأليفاً وترجمة.

صحيفة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى