سمر نور تواجه العالم بروح «السِت»

تداعب سمر نور، في روايتها «السِت» (العين- القاهرة)، الوجدان العام عبر عنوان يحيل إلى سيدة الغناء العربي، ودرته أم كلثوم، من جهة، كما يحيل إلى نساء الرواية المأزومات، والباحثات عن الونس وبعض من البهجات العابرة، من جهة ثانية. وهكذا، تنفتح دلالة هذا العنوان على أفق الحكاية الواسع لامرأة قرّرت أن تعيش بمفردها، وأن تخوض دراما الصراع مع الحياة بلا رجل في ظل مجتمع ذكوري.
تتواتر المشاهد السردية الثلاثة الأولى في الرواية عن العجوز الطاعن في السن والباحث عن أمان مبتغى، والفتاة الباحثة عن استقلاليتها وأمانها الداخلي، ورغبتها في النهوض ومغالبة حواجز الخوف والفضول والتربص، وصولاً إلى «العم فتحي» دهّان الحوائط الذي ترتعش يداه، مثلما ترتعش حياته تحت سيل التناقضات والظلم الاجتماعي والفقر ومنظومة التقاليد البالية.

تستبطن سمر نور سيكولوجية شخصيتها المركزية جيداً، حيث البطلة التي ترى في استقلالها علامة على إنسانيتها، تلك الإنسانية المهدرة عبر عشرات الممارسات الاجتماعية اليومية التي تنظر الى المرأة بوصفها ظلاً للرجل، والتي تختزلها الجملة الدالة من جارها المصوّر، خمسيني العمر: «هاتيلي راجل أكلمه»، لتبدأ بعدها الساردة/ البطلة في استقراء الموقف الدرامي، عبر التوظيف الدالّ للنزوع التحليلي للسرد: «لم يكن عقلي قد استوعب بعد ما يقصده هذا الرجل، كانت عيناي تتخذان رد فعلهما الفوري، اللاوعي أعطى أمره لعيني، وعيناي حدقتا في عينيه بذهول. اتسعت حدقتا عيني كأنني على وشك ارتكاب جريمة قتل. أحتاج إلى قدر من الإرهاب للضحية» (ص38).

عبر خمسة عشر فصلاً يتشكل المتن السردي للرواية، التي تبدأ بافتتاحية، وتنتهي بخاتمة، في ظل روابط رؤيوية، وتقنية، وتوظيف لآلية البناء الدائري. يبدأ النص بالحكي عن العجوز الباحث عن ونس، في صخب «المول» وبين موظفيه الذين يتعاطفون معه، ثم عودته إلى شقته التي يسكن فيها مع ابنته المنشغلة بعملها لساعات طويلة في مجال الدروس الخصوصية. ما بين المفتتح والمختتم، ثمة ساردة تغالب وحوشها، حتى تتآلف معها في النهاية، بل تصبح أكثر قوة في مواجهتهم.

تحضر الشخصية المركزية بوصفها كاتبة، تحمل زاوية نظر صوب العالم والكتابة معاً: «كنتُ أكتب لأقتل وحوشي، وكانت تلك هي الوسيلة الوحيدة للتعامل مع كل هذا الوجع» (ص32/33). وتعمق سمر نور هذا الخيط الفكري والتقني في آن، فعلى مستوى رؤية العالم الحاكمة للنص سنجد هذا القلق المراوغ المهيمن على فضاء الحكاية، ونرى هؤلاء الشخوص الموزعين بين عوالم متباينة، بدءاً من البطلة المركزية التي تغالب خوفها، وترددها بين أن تستمر علاقة الحب مع «حبيب مجهول» بوصف صديقها «سمير»، أو أن تنتهي العلاقة.

مأزقها بين أن ترى العلاقة نفسها متناً أم هامشاً؟ ليصبح انتقالها إلى شقة في منطقة سكنية مختلفة عما عاشت فيه مع أسرتها، بداية عهد جديد، تقاوم فيها مخاوفها الساكنة، والعميقة، والمتواترة من بنية اجتماعية صدئة، وتراث أسطوري في معظمه، وسطوة ذكورية تجعل من المرأة تابعاً أو محلاً للفعل، فتبدو مسكونة بميراث وجودي من القهر والخيبة والإخفاق: «أحياناً أخرى كانت تهاجمني الأحزان، أستعرض الماضي بكل خيباته، فأذرف دموعاً ساخنة.

مع الوقت كنت أقاوم أيضاً تلك الأفكار، لكنني لم أستطع مقاومة الإحساس بالقهر» (ص31). وعلى المستوى التقني، نجد تماهياً بين صوت السارد الرئيس والمؤلف الضمني للعمل، ويكشف المقطع التالي عن هذا المنحى، وبما يفضي إلى كسر الإيهام المصطنع بين المتلقي والنص: «من يعرفني يعرف أنني بعيدة تماماً عن قصص الحب، لن تجدها في نصوصي سوى لماماً، كأنها لقطة مهزوزة لحدث لم يقع بعد» (ص68).

توظف الكاتبة الفنون البصرية، بخاصة السينما، في التعبير الجمالي عن موضوعها المركزي، حيث تحيل إلى الفيلم الإسباني الشهير «تحدّث إليها»، والذي يحكي عن رجلين باعتبارهما بطلي العمل ليظل المشاهد مخدوعاً بمظهرهما طوال الفيلم ويكتشف في نهايته أن الرجلين ما هما إلا روحين لامرأتين غابتا عن الوعي فماتت إحداهما وأعيدت الأخرى إلى الحياة عبر منحة عاشق وهبها ما بقي له من العمر ومات. يبدو الكل مرتعشاً، يسكنه وحش الخوف الذي يشبه الآلة الجهنمية لجان كوكتو.

وحش خرافي يأتي حاملاً معه اغتراباً، وميلاً الى الوحدة، ينفصل معه الفرد عن البنية الاجتماعية المحيطة به، أو يشعر أيضاً مثل بطلة الرواية بإخفاق ما. وعلى رغم المقاومة التي تبديها البطلة في النص، ثمة هزيمة سحيقة تسكن في تجاويف الروح، تبدو مثل هزيمة روحية يعاني منها المجموع، هزيمة اجتماعية تعانيها المرأة تحديداً تحت وطأة أغلال العُرف والاستلاب العام.

توظف الكاتبة مجموعة من الألعاب، مثل تمثيلية الظلّ والنور، وتلعب على مساحات الألوان ورمزيتها، بخاصة «الأزرق والأصفر»، والتمازجات القائمة بين النجوم والأفلاك، مثلما تمنح متلقيها طرفاً من تدريب الخروج من الحفرة والانطلاق نحو الآفاق، كما يصفه «خبراء» التنمية البشرية، وبصداه النفسي الذي يعاني خروجاً من نفق الاغتراب الذاتي الذي يعانيه بلايين البشر. تفعل سمر نور ذلك بلا صخب أيديولوجي أو بلاغي، تستعمل اللغة استعمالاً يتسم بالدقة والأداء المنتج للمعنى.

ويبقى أن شخصية سمير كانت في حاجة إلى تعميق، في بنـــاها وتصوراتها.تتقدّم سمر نور بثبات مــدهــش في التعاطي مع عالم يخصّها، تنـــحت فيه مــفرداتها وتصنع شبكة العلاقات الجامعة بين شخوصها المختلفين، وتدرك أن الخيوط واهية جداً في عالم يستند إلى العزلة والوحدة والاغتراب، عالم يتكئ على الفقد والوحشة، يبحث فيه الكل عن الونس، وتخلق أسطورتها «أســـطورة كــائن الصُدفة»، وتكتب بعد روايتها الأولى «محلك سر» ومجموعتيها المتميزتين: «بريق لا يحتمل»، و «في بيت مصاص دماء»، رواية رائقة ومشغولة بالمعنى والتجربة والتجريب أيضاً.

صحيفة الحياة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى