شخوص جنى نصرالله تائهة بعد رحيل مدنها

لم يتخطّ الكتّاب اللبنانيون حربهم الأهليّة في رواياتهم، حتى غدا الموت هاجسهم. ذكريات وأحداث لا تزال عالقة في البال، وعلى شرفات المباني المتضرّرة وحيطانها. ولعلّ عمليات إعادة الإعمار، التي لم تنته بعد، على رغم انتهاء المدّة الزمنية المخصّصة لها، ساهمت في ترقيع الصورة، إلا أنّ تشتّت الشباب اللبناني في مختلف بقاع الأرض إبّان الحرب الأهلية اللبنانية، خلّف أثرًا لا يُمحى وطلقات لا يمكن استردادها.

حزن وعزاء ونفور من التقاليد شكّلوا مستهلّ رواية «رحيل المدن» (رياض الريس للكتب والنشر) للصحافية اللبنانية جنى نصرالله، التي أصدرت روايتها الأولى «النوم الأبيض» في العام 2015. العادات الغربيّة والأخرى العربية، والحلال والحرام من خلال ملامسة اليد، وأعراف أخرى كانت هي محور الصفحات الأولى في مجلس تقبّل العزاء في الوالد جهاد قرب منزل العائلة الكائن في الحمراء.

مايا ولمى توأمان في منتصف الخمسينات، تكبرهما شقيقتهما ورد وشقيقهما رامي. جميعهم في المهجر بتدبير من والديهما ساره وجهاد بيضون، خوفًا عليهم من موت ربّما يكون محتّمًا في بلد مثل لبنان: مايا طبيبة نفسية في دبي منذ العام 2000، لمى في باريس منذ الاجتياح الإسرائيلي لبيروت عام 1982، ورد متزوجة من زميلها مروان وانتقلا للعيش في سورية إثر الحرب اللبنانية، وقد هجّرتهما الحرب السورية الأخيرة إلى تركيا. أما رامي فموجود في كوبا منذ الحرب اللبنانية كذلك.

قبل وفاتها، خصّت الوالدة كل واحدة من بناتها بمغلّف خاص، فيه الكثير من الذكريات والأسرار. أسرار لم تفك ألغازها سوى السريلانكية شاندرا- التي خدمت الوالدة مدة طويلة- في اتصال مع بناتها عبر سكايب. لقد أرادت سارة لمايا ألّا تحب الناس، كما هي أحبّتهم، حتى لا تُصدَم لاحقًا بقلّة وفائهم وخيانتهم. واختارت شارع الحمراء لورد التي كانت تشاركها حبّها له وتعلّقها به. وتمنّت أن تتصالح لمى مع لبنان وألا تحقد عليه. ذكريات سارة تكدّر حياة بناتها، وتجعلهنّ تحت سيطرة مزاج كئيب، بعدما شعرنَ كم كنّ بعيدات عنها، ولا سيما عندما احتاجت إليهنّ، فلم يشعرن بمشاكلها، ولا كنّ على درايةٍ بمعاناتها. ربما لو سألنها عن أحوالها، وعن صديقاتها، وعن يومياتها، لأخبرتهنّ. كم يصبح الشعور قاسيًا ومؤلمًا حين يستحيل التعويض عمّا حصل!

جهاد الوالد، الذي انتسب إلى المدرسة متأخرًا وسرًّا عن أبيه، نقل نفسه من البيئة الشعبية التي نشأ فيها إلى البيئة المثقفة والمتعلّمة التي انتمى إليها. لم يؤثّر الفقر في تكوين شخصيته، ولا حدّ من طموحه في بناء حياة مختلفة عن تلك التي يعيشها أقرانه. هو الآن وحيدًا بعد وفاة زوجته، وأصبحت شاشة «سكايب»، وحدها، تجمعه ببناته. تقدّم علميّ خفّف من وطأة الغربة.

هذا هو واقع هذه الأسرة، حالها حال الكثير من العائلات اللبنانية. فهل سنكون قادرين على تخطّي حربنا أم نحن نسير نحو دمارنا؟ عقود تتحوّل خلالها هيئات المدن، فترحل بيروت ومن بعدها حلب. رحيل وظّفت خلاله الكاتبة السرد لعرض البيئة الحديثة المروّعة، والتي تتجلّى بالقدرة الاستيعابية عند الأهل إبّان الحرب، بحيث يعمدون إلى تهجير أبنائهم بهدف البقاء على قيد الحياة. استيعاب يتجاوز قدرات العاطفة التي تشتّتت وتدمّرت شأنها ِشأن المدن والقرى، ومن ثم نتج منها إنسان من نوع جديد، وعالم من نوع جديد.

تحكي الكاتبة قصص عائلة، لم تجتمع إلا لماماً، لتختصر حكايا الكثيرين ممّن عاشوا تلك المرحلة وانتهوا إلى مصائر مشابهة. هي أكبر مآسي لبنان في الوقت الحاضر، بذنوب فكرية ثقيلة. وترى الكاتبة إخفاقات هذه النظرية من خلال وفاة ليا ابنة لمى، في نهاية الرواية، ليس في انفجار حدث في لبنان، وإنما في عمليّة دهس إرهابيّة وسط الولايات المتحدة، تلك البلاد التي ينشدها كثيرون بحثاً عن الأمان. أمن وأمان غير متكافئين في المجتمعات كلّها.

وبذلك تؤدّي الكاتبة دور المحلّلة الاجتماعية والنفسية لنقطة تحوّل كبيرة في الشؤون البشرية، أهمها تفتّت العائلة ودخول عناصر غريبة عليها، لترسم بذلك الخريطة الصحيحة لهذا المسار الذي نعيشه راهنًا، من دون طرح العلاج، لأنه لا يتم بمجرّد العودة إلى أحضان الوطن، بل بتفريغ تلك الأضداد المتطرفة والتي تتخلل حاضر المجتمع الحديث ومستقبله. مكان الرواية هو الحنين على تعدّده، وزمانها هو الماضي بامتياز.

تنتقل دبي من «برّ دبي» إلى «دبي مارينا». وكذلك باريس التي تعيش فيها لمى مع ابنتها ليا، انقلبت إلى نقيضها، حيث زادت العنصريّة وتفاقمت الإسلاموفوبيا. وعلى رغم مضي أعوام على وجود الأخوة (شخصيات الرواية) في الغربة، ما زالوا يعتبرون أنهم مقيمون في تلك البلاد في شكل موقت، ولو بنِسَب متفاوتة. لا يشعرون بالانتماء ولا حتى بالاستقرار، وهم متأهبّون دائماً كأنهم راحلون عنها غداً.

ترسم جنى نصرالله، من خلال شخوصها وأحداث روايتها، صورة لبنان ما بعد الحرب. وهو عالم تعدّى الأفكار التجريدية، إلى حياة أجيال تؤدي الأدوار نفسها، في عالم استهلك قدرته على التحمل: أولاً الحرب وأخيراً التشرذم.

ذلك العالم الذي يعيش فيه الأخوة مشتّتين مدفوعين خارجًا بخوف من الحرب، أتت أصداؤه سلبية. وأظهرت، من البداية، صدامًا ساخنًا أكثر من الحقائق (الحرب) وأقلّ من القيم (دفء العائلة).

هذا هو لبنان، القتل والتهجير والتدمير، قضى على شبابه في الحرب، وهجَّر مَن تبقى منهم في ما يسمّونه السلم. هذا هو لبنان، لمن ليس محميًّا من حزب أو طائفة أو مرجعيّة سياسيّة. والهجرة هي مصير مَن ليست لديه واسطة في البلد الذي لا تفيد فيه لا الشهادات ولا الكفايات العلميّة. لكنّ الأخطر، هو أنّ الحرب أقل وطأة من شعور الانسلاخ الذي يعاني منه، والضياع الذي يعيش في ظلّه.

صحيفة الحياة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى