شيرين أبو النجا ترصد تجدّد الهويّة النسويّة في مصر الثورة

الأرجح، أن أول ما يلفت في كتاب الباحثة شيرين أبو النجا «نساء في مصر الثوريّة – الجندر والجغرافيّات الجديدة للهويّة» (صدر بالإنكليزيّة في «منشورات الجامعة الأميركيّة – القاهرة» -Women in Revolutionary Egypt )، هو صورة الغلاف المأخوذة عن جداريّة في القاهرة. وتظهر في اللوحة كلمة «ما تصنفنيش» (= لا تصنّفني) تحت ثلاثة وجوه نسائية بحجاب، وبرقع، وشعر مفرود.

أبو النجا هي بروفسورة تدرس الأدب الإنكليزيّ والأدب المقارن في جامعة القاهرة. ووضعت كتابات كثيرة بالإنكليزيّة والعربيّة عن الأدب والثقافة، مع تركيز خاص على مواضيع الهويّة الجنسيّة («الجندر» Gender).

في تقديم على غلاف الكتاب الخارجي، تلفت الباحثة العراقية نادية العلي، وهي من «كلية الدراسات الأفريقيّة والشرق أوسطيّة – لندن»، إلى أن كتاب «نساء في مصر الثوريّة» ينجح في تجاوز التحليلات السائدة عن البعد الجندري للحراك الثوري المصري. ورأت أنّه يتقصى العلاقة المعقّدة بين الجندر، والفن، والسياسة في مصر المعاصرة، مشيرة إلى أنّ سياسات الجسد والذاكرة هي في مركز تحليل أبو النجا لصعود قوّة المرأة في مصر ما بعد «ثورة 25 يناير».

رفض التصنيف الذكوري

يتوزّع الكتاب على مقدمة وخمسة فصول تتناول البُعد الجندري في «ثورة يناير»، والجندر في «النص» الجديد، وأصوات شاعرات محرّضات (هنّ: سارة سالم، مروة أبو ضيف، صابرين مهران، وسارة عابدين)، ونُظُم أبويّة متعدّدة لجسد واحد، وسياسات الذاكرة. وصدّرت أبو النجا كتابها بسطرين للكاتبة الأفريقيّة الأميركيّة أودري لوردي، وهي من الناشطات نسويّاً، ترد فيهما الكلمات الآتية: «إذا لم أُعرّف نفسي لنفسي، فسوف أُسحَق في فانتازمات الآخرين، بل لأُكِلْتُ حيّة». وتذكّر كلمات لوردي بكلمة «ما تصنفنيش» المكتوبة رذاذاً تحت الوجوه الثلاثة للجداريّة القاهريّة التي جُعِلَت صورة للغلاف. ما هو التصنيف المرفوض في الفكر النسوي الجديد الذي تقدّمه أبو النجا، مع ملاحظة كونه فكراً يرفع المطالبة بالتعريف إلى حدّ جعله سلاحاً ضد الانسحاق والالتهام على طريقة آكلي لحوم البشر؟ ما هي دلالة أن يتعارض ذلك التعريف المُصِرّ على إبراز الهويّة النسويّة مع رفض التصنيف، على رغم تداخل عمليّتي التصنيف والتعريف فكريّاً؟

الأرجح، أن أبو النجا تترسّم فكراً نسويّاً يرفض تصنيفاً من نوع خاص (ذكوري وأبوي ومتخلّف)، لمصلحة التجديد النسوي في تعريف الجندر والمرأة العربيّة والمصريّة. وتلتقط أبو النجا لحظة «ثورة 25 يناير» (بل حتى ما تلاها)، فتقرأ فيها حدوث ذلك التجديد وما يرافقه من تجدّد في الوعي النسوي، عبر نضال يومي للمرأة المصريّة (بل العربيّة أيضاً، على امتداد «الربيع العربي»)، لنيل حقوقها ومساواتها. وتلاحظ أبو النجا أن النساء المصريات والعربيات أنجزن ذلك التجدّد على رغم صعاب لا حصر لها (خصوصاً تخبّط مسارات «الربيع العربي» وتخشّب البنى الثقافيّة العربيّة)، عبر تغييرات يوميّة تبدو هيّنة، لكنها أحدثت انعطافة ما عاد من الممكن العودة إلى الوراء بعدها. وبقول آخر، ترى أبو النجا أن امرأة «الربيع العربي»، إذا جازت النسبة، نجحت في فرض سرديتها وثقافتها ورؤيتها للمرأة والرجل والمجتمع والسياسة والتاريخ، ورسمت صورة للهويّة النسويّة تستند إلى التعدّد والتبدّل والسيولة والانفتاح، وهي نقيض لصورة واحدة منمّطة (ومتخلّفة بالضرورة) فُرِضَت طويلاً على النساء في العالم العربي.

عبر متابعة لمجريات دقيقة وصغيرة، تلاحظ أبو النجا أن النساء جَعَلْنَ من أمور الحياة اليوميّة البسيطة (الملابس، الزي، الجسد، الطعام، الحضور في المساحات العامة وغيرها) مساحات للتغيير والنضال ضد ثقافة عربيّة متأصّل فيها تهميش المرأة وتهشيمها وسحقها في صورة التابع الذي يجب ألا ينهض أبداً! واستطراداً، يعني ذلك إبراز نسويّة تخرج من الخطوط التقليديّة للنقاش، متحدّية التفكير الذي يضخّم خطوط الفصل بين الهويّات (بمعنى النظر إلى كل هويّة باعتبارها مساحة منسجمة ومنفصلة كليّاً عن الأخرى، وتالياً يؤسّس النقاش على الفوارق وحدها)، لمصلحة نسويّة متمازجة تحطّم خطوط الفصل، بما فيها تلك التي درجت الحركة النسويّة التقليديّة على تبنّيها.

واستطراداً، لا تقدّم أبو النجا ذلك النضال في صورة زاهية ورديّة، بل هي تشدّد على الإحباطات المتوالية التي حاقت بذلك النهوض النسوي الذي تألّق ذات لحظة في «ساحة التحرير»، ثم ضربته غيوم متنوّعة جاء بعضها متساوقاً مع مجمل مسار «الربيع العربي» الذي لم يزهر تماماً (حسناً: ليس بعد)، لكنّ شيئاً ما تحرّك في قلب المنطقة العربيّة ودولها وثقافتها، أطلق تغييراً ربما لم يصل إلى غاياته، لكن لم يعد ممكناً ردّه إلى القمقم مجدداً.

وفي ذلك المعنى، يتّصل تجدّد النسويّة بقدرتها على «تفجير» الفوارق الذكوريّة المنشأ عمليّاً، عبر عملية يتداخل فيها إبراز الفوارق من جهة، والعمل على صوغ حدود جديدة تتجاوزها. والأرجح، أن تلك الآلية المزدوجة والمتداخلة من التجدّد في الفكر النسوي، هي التي تشير إليها الباحثة بوصفها إعادة رسم جغرافيا الهويّة، بل جغرافيّاتها وخرائطها المتعددة والمتشابكة أيضاً. واستطراداً، يعني ذلك أيضاً أنّ النساء استطعن عبر مقاربات متنوّعة ومتضاربة أحياناً أن يفرضن النقاش عن تجديد هويّة المرأة وقضية الجندر، على نقاشات الهويّة التي ملأت الفضاء العام في خضم «الربيع العربي» وتوالياته التي ما زالت مستمرة.

تمزيق «عباءة» الوطنيّة

في سياق تجدّد النسويّة، تلاحظ الباحثة أبو النجا أن النساء فرضن على نقاش الهويّة عربيّاً ومصريّاً، كسر قوالب الجوهرانيّة والثبات والجمود، وكذلك تحدّي المصادرة من جانب ثقافات السلطات القمعيّة الذكوريّة والأبويّة المختلفة، بما فيها تلك المختزنة في كثير من قوى المعارضة!

يبقى السؤال معلّقاً الى حد الآن عن مدى نجاح ذلك الحراك النسوي الذي ما زال متناثراً ومتقلقلاً (والأهم أن بعض أقسامه ما زال وعيها متلكئاً أو متأخراً)، في جعل المسار العام لنقاشات الهويّة متبنيّاً نظرة تتصف بالسيولة والتغيير والنظرة التاريخيّة المتفاعلة. وتلاحظ أبو النجا أن ما حدث الى حد الآن يتّصف بالتمازج، بل إنه مثقل بالكثير من الإحباط الذي لا يدعو إلى اليأس أبداً.

وتصف أبو النجا مقاربتها بأنّها جاءت عبر ممازجة ذائقات ثقافيّة متنوّعة تشمل النسويّة، والتعدديّة الثقافيّة، وما بعد البنيويّة، وما بعد الكولونياليّة، والدراسات الأدبيّة والثقافيّة. وتشدّد على استلهامها أفكار الأميركيّة سوزان ستانفورد فريدمان (خصوصاً كتابها «رسم الخرائط» – 1998) المعروفة بمعارضتها التفكير الجوهراني المطلق في شأن النسويّة، وتأييدها النسوية المتخالطة التي ترسم للنقاش عن المرأة خطوطاً جغرافيّة متجاوزة الانفصالات المقيمة في الفكر التقليدي وكذلك في ضروب الحداثة، لتصل إلى رؤية ما بعد حداثيّة فوّارة وتعدّدية.

والأرجح، أن العلاقة بين القوميّة والحركة النسويّة في مصر، تصلح أن تكون مثلاً عن مساحة اعتادت الثقافة العربيّة أن تمارس فيها مصادرة كبرى للمرأة وحقوقها، إضافة إلى تجميد هويّتها وتنميطها. واستطراداً، يتّصل ذلك النقاش بالحداثة في الدول والأوطان من جهة، والعلاقة مع الغرب من الناحية الثانيّة. وتستند أبو النجا إلى العمل المرجعي للمفكّرة السيرلانكيّة كوماري جاياوادينا «النسوية والقوميّة في العالم الثالث» (1986)، لتنفي «استيراد» النسويّة من الغرب، على رغم التسليم بعلاقتها مع الحداثة. وتشير أبو النجا إلى أن الحركة النسويّة استهلت مصريّاً مع كتابي قاسم أمين «تحرير المرأة» و»المرأة الجديدة»، وبرزت مع الناشطة المعروفة هدى الشعراوي في سياق انخراطها في ثورة 1919. وحينها، تسيدت نظرة ذكوريّة وضعت حقوق المرأة تحت جناح القوميّة، بل إنها تجاهلت الاعتراف باستقلالية النسويّة كملمح مميّز في رسم الهويّة. ولم تقر الدساتير المتوالية حقوقاً متمايزة للمرأة. وحتى بعد «ثورة يناير»، لم تنجح المرأة في جعل هويتها حدوداً مميّزة في جغرافيا الهويّة القوميّة. وفي المقابل، ولد مع الثورة جيل شبابيّ يصر بأساليب يوميّة، ربما على غرار الـ»غرافيتي» في غلاف الكتاب، على جعل النسويّة جزءاً من نسيج نقاشات الهويّة الوطنية والقوميّة، ما يعني أن كلمة النهاية لم تكتب في ذلك الصراع… ليس بعد!

صحيفة الحياة اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى