طه حسين «مِن بَعيد» قريب من معاناة العرب (صبحي موسى)

صبحي موسى

 

من يقرأ كتاب طه حسين «مِن بَعيد» (الصادر حديثاً في سلسلة «ذاكرة الكتابة»، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة)، يجد أن الثقافة العربية لم تحسم بعدُ كثيراً من قضاياها المثارة في هذا الكتاب، الذي يرجع تاريخ صدور طبعته الأولى إلى ثلاثينات القرن الماضي. مقدمة هذا الكتاب، غير الشهير ضمن منظومة طه حسين الفكرية والإبداعية، حملت تاريخ حزيران (يونيو) 1935، وكُتبت مقالاته بدءاً من 1923، وتوزعت على ستة أقسام، هي: «من باريس»، «أسبوع في بلجيكا»، «خواطر سائح»، «بين العلم والدين»، «بين الجد والهزل» و «شك ويقين»، ووُضع لها تصنيف مكاني هو «من بعيد»، انطلاقاً من كون صاحبها قد كتبها أثناء رحلات علمية أو ترفيهية خارج مصر. في هذه الرحلات، انشغل طه حسين (1889 – 1973) بمقارنة ما يراه من ثقافات عالمية وما يعيشه أبناء وطنه من قضايا ومشكلات لم تكن حُسمت في وقته، وهي كذلك لم تُحسم حتى يومنا هذا، وفي مقدمها إشكاليات الديموقراطية والحرية والعلاقة بين العلم والدين، وكيف يتسبب التهاون في وضع مواد الدساتير بكوارث، على نحو ما حدث في دستور 1923، حين رأى واضعوه أن مادة «دين الدولة الإسلام» هي من باب إقرار الواقع، فاستقوى مشايخ الأزهر على باقي طوائف الشعب، وشعروا بقدرتهم على محاكمة كل ما ينتجه سواهم وفقاً لفهمهم الديني، وذلك على نحو ما حدث مع كتابَيْ «الإسلام وأصول الحكم» للشيخ علي عبدالرازق، وكتاب طه حسين نفسه «في الشعر الجاهلي»، فاتحين بذلك سلسلة لم تنته بعدُ من محاكمات الفكر والإبداع والحرية والاعتقاد.

فكر نقدي
لا تقلّ الرؤى التي اشتمل عليها كتاب «مِن بعيد» أهميةً عما طرحه عميد الأدب العربي في كتبه الشهيرة، سواء «في الشعر الجاهلي»، أو «الفتنة الكبرى»، أو «مستقبل الثقافة في مصر»، إذ انتقد في مقاله «شك ويقين» أدوات الفكر الراديكالي وآلياته في التعامل مع العلوم والفنون، ضارباً المثل بما ذهب إليه أحد العلماء الغربيين حين شكك في دوران الأرض، فخرج أحد المشايخ ليثبت من خلال آيات القرآن كروية الأرض ودورانها حول الشمس، وهو الأمر الذي فعله من قبل شيوخ وأئمة كثيرون، من بينهم محمد عبده، وفق ما ذكر طه حسين، الذي أوضح أن هذه المحاولات تعجب الشرقيين، لأنها تشعرهم أنهم على القدر نفسه من الحضارة مع الأوروبيين الذين اخترعوا العلم الحديث، لكنها تنطوي على غلو كبير في تأويل النصوص المقدسة وتفسيرها. وهنا يتساءل طه حسين عن مآل هذه الجهود إذا أثبت العلم من جديد أن الأرض لا تدور؟ وما الذي سيفعله شيوخنا بمن يقول خلاف ما يقولونه؟ موضحاً قدر ما عانته أوروبا في العصور الوسطى حين كانت الكنيسة وفكرها قائمَيْن على أن الأرض مركز الكون، وأن الشمس هي التي تدور حولها، مذكراً بقدر الدماء التي سالت والعلماء الذين تم قتلهم أو تكفيرهم وحرق كتبهم.
في حديثه عن الديموقراطية والعلم، رصد طه حسين ما دار في «مؤتمر العلوم التاريخية»، الذي شارك فيه أكثر من ألف عالم وباحث العام 1923 في بلجيكا، وكيف قدم ملكها رعايته للعلماء والمفكرين، وكيف دعم مؤتمراً لا يبدو للعامة أنه ذو جدوى على المدى القريب أو البعيد، وأصر على حضور الافتتاح ودعوة العلماء إلى قصره لتناول العشاء معه، وكيف تعامل هو وأسرته بإجلال كبير للحاضرين، راصداً مشهد تحرك الملك وولي العهد وباقي أبناء الأسرة الحاكمة بين الناس على أنهم مواطنون مثلهم وليسوا حكاماً عليهم، وهو المشهد الذي تمنى طه حسين أن يراه في بلادنا يوماً ما لنعرف أن الديموقراطية فعل لا قول.
في هذا الكتاب انتقد طه حسين ما قامت به الحكومة المصرية حينئذ من التنازل عن لقب «ملك مصر والسودان»، إذ نص دستور 1923 على أن يتم تعيين لقب الملك بعد أن يقرر المندوبون المفوضون نظام الحكم النهائي في السودان. وبتدخل من المندوب البريطاني، انصاعت الحكومة المصرية للرغبة الإنكليزية بفصل مصر عن السودان، وهو ما اعتبره طه حسين تنازلاً منها عن حق شرعي لمصر، ولو أنه كان اسمياً فقط.
ربما كان ما ناقشه طه حسين عن إشكاليات دستور 23 هو ما تعانيه مصر الآن في صياغتها دستورَها الجديد، فحذْفُ كلمة تبدو بلا قيمة، ربما يضيِّع حقوقاً قانونية ووطنية كبرى، على نحو ما حدث مع السودان، وإضافة عبارة تبدو من قبيل إقرار الواقع، قد تمنح جماعةً القدرة على رقابة الفكر والإبداع والحريات في المجتمع ومحاكمتها، على نحو «دين الدولة الإسلام»، وهي الجملة التي نالت كثيراً من حقوق أصحاب الديانات الأخرى، وأعطت شيوخ الأزهر أحقية ضبط المجتمع وفقاً لقياسهم الفكري، فإذا كان هذا ما كتبه طه حسين في ظل إضافة هذه الجملة إلى دستور 23، فما الذي كان سيكتبه لو علم بأن مسوّدة دستور 2012 تحتوي على مادة خاصة بالأزهر توفر له الحماية وتجعل من شيوخه المرجعية الدينية، فضلاً عن مادة «مبادئ الشريعة المصدر الرئيسي للتشريع»، ومادة ثالثة تلزم الدولة والمجتمع بـ «الحفاظ على التقاليد والعادات والقيم الأصيلة»، بينما تبقى جملة «بما لا يخالف شرع الله» تطارد المرأة في غالبية النصوص.

صحيفة الحياة اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى