عندما تفشل العولمة‮ .. ‬صعود وهبوط السلام الأمريكي‬

عرض : سارة خليل باحثة في العلوم السياسية

James Macdonald, When Globalization Fails: The Rise and Fall of Pax Americana, )New York: Farrar, Straus and Giroux, 2015).

انطلاقا من عرضه لرؤية الكثير من المفكرين والسياسيين، بشأن استحالة اندلاع حروب عالمية بين القوي الكبري، إذا كان هناك ارتباط بين تلك القوي من خلال الاقتصاد العالمي، يفسر جيمس ماكدونالد في كتابه هذا الروابط بين الحرب،‮ ‬والسلام،‮ ‬والتجارة علي مدي القرنين الماضيين، وكيف أن استمرار النزاعات والعنف أدي إلي تلاشي الاقتناع القائم علي أن التجارة الحرة تجلب السلام بين الأمم، مؤكدا أهمية وجود الدولة‮ “‬الحارس‮” ‬لضمان الاستقرار،‮ ‬استنادا إلي بعض الأمثلة التاريخية، وضرورة الأخذ في الحسبان دروس التاريخ، والتي‮ ‬غالبا ما يتم نسيانها، علي حد قول الكاتب‮.‬‬‬‬‬‬‬‬

تكمن الفكرة الرئيسية للكتاب في أن التجارة الحرة والسلام لا يمكن ازدهارهما سوي في ظل حماية دولة قوية ومهيمنة‮. ‬ويتألف الكتاب من جزأين، يعيد الجزء الأول النظر إلي فترة‮ “‬السلام البريطاني‮”‬، وقيام الحرب العالمية الأولي، وفشل معاهدة فرساي في منع وقوع حرب عالمية ثانية، والصراع علي الموارد، ولجوء ألمانيا إلي العزلة،‮ ‬ثم الغزو الألماني للاتحاد السوفيتي،‮ ‬خلال الحرب العالمية الثانية‮. ‬في حين يسلط الجزء الثاني من الكتاب الضوء علي‮ “‬السلام الأمريكي‮”‬، وكيف حققته الولايات المتحدة الأمريكية، وكيف أسهمت الأحداث القائمة علي الساحة الدولية في تراجعه‮.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

تحولات عالمية‮:‬‬

يبدأ ماكدونالد كتابه بتسليط الضوء علي القرن التاسع عشر، خاصة ما عرف بـ‮ “‬السلام البريطاني‮”‬Pax Britannica، والذي يعني سيادة السلام والاستقرار في ظل الإمبراطورية البريطانية، حيث كانت بريطانيا هي القوة الكبري الرئيسية آنذاك، وكانت تستحوذ في أوج عظمتها عام‮ ‬1860‮ ‬علي ما يقرب من‮ ‬35٪‮ ‬من إجمالي القدرة التصنيعية العالمية‮.‬ ولكن حركة التاريخ لم تكن ساكنة،‮ ‬وأصبح التفوق البريطاني علي المحك، وبدأت القدرة التصنيعية لدي بريطانيا تنحدر تدريجيا في القرن التاسع عشر لتنافسها قوي أخري في التفوق الصناعي‮. ‬وبحلول القرن العشرين، بدأت القوة الألمانية في الصعود اقتصاديا وعسكريا لتبدأ مرحلة التحول في هيكل النظام الدولي،‮ ‬والسعي إلي السيطرة العالمية، وهو الأمر الذي دفع الكاتب إلي إثارة تساؤل مفاده‮: ‬هل أدي صعود ألمانيا إلي نشوب الحرب العالمية الأولي؟‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

ألقي الكاتب الضوء علي التحولات العالمية في أواخر القرن العشرين، مشيرا إلي تحول النظام الدولي إلي نظام أحادي القطبية بعد الحرب الباردة، لما شهده من تحولات جيوسياسية وجيواقتصادية‮. ‬وفي نظرة استشرافية، رجح الكاتب أنه بعد فترة من الهيمنة الأمريكية علي الشئون العالمية دون منازع لفترة زمنية طويلة، فإن النظام الدولي سيصبح ثنائي القطبية في وقت قريب،‮ ‬بعدما أصبحت الصين منافسا للولايات المتحدة علي الساحة الدولية‮.‬‬‬‬ واستدل الكاتب علي ذلك ببعض الإحصاءات الاقتصادية التي تشير إلي أنه علي الرغم من أن الولايات المتحدة لا تزال أكبر اقتصاد في العالم من الناحية التقنية، فإن الصين حلت محلها من حيث القوة الشرائية، حيث أوضحت معظم الإحصاءات المعنية أن الاقتصاد الصيني سيصبح أكثر قوة في وقت قصير للغاية‮.‬‬

وهكذا،‮ ‬فمن خلال تناول الكاتب للاقتصاد السياسي خلال القرنين الماضيين، وصل إلي نتيجة مفادها أن الصين في عام‮ 5012‮ ‬تتصرف مثل ألمانيا في عام‮ 4191 ‬كدولة متضررة ومظلومة لتصل في وقت مناسب للمطالبة بغنائم السلطة،‮ ‬وتشارك في سباق التسلح ذي التكلفة الباهظة مع القوي العالمية المنافسة‮. ‬وأشار إلي أنه بالنسبة لألمانيا،‮ ‬كانت بريطانيا العظمي آنذاك هي القوة المنافسة لها‮.‬ وبالنسبة للصين حاليا،‮ ‬تعد الولايات المتحدة الأمريكية منافسا قويا لها،‮ ‬خصوصا أنها تتمتع بالكثير من النفوذ‮.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

العولمة مقابل سياسة‮ “‬الحمائية‮”:‬‬‬

يعتقد كثيرون خاصة‮ “‬الليبراليين الجدد‮” ‬الداعمين للتجارة الحرة أن العولمة تسهم بشكل كبير في حل الأزمات العالمية، وأنه من‮ ‬غير المحتمل نشوب صراع في العالم الذي تقوم اقتصاداته علي الاعتماد المتبادل‮. ‬لكن هذا الكتاب يدحض تلك الفكرة السائدة، فهو يري أن العولمة ليست أداة لحل جميع المشكلات‮.‬‬‬‬‬‬

وفي هذا السياق، تطرق الكاتب إلي التحول الكبير في القوة الاقتصادية والسياسية في عقود ما قبل الحرب العالمية الأولي، مستنتجا أن القرن التاسع عشر كان الحقبة الأولي للعولمة، وكانت بريطانيا هي القوة العظمي السائدة في بداية تلك الحقبة‮. ‬وبفضل سياسات التجارة الحرة والبحرية الملكية البريطانية القوية، شهد الاقتصاد العالمي توسعا كبيرا لم يسبق له مثيل، في حين كان الصراع العسكري في أدني معدل له‮. ‬ولكن في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولي، ذكر الكاتب أن اعتماد الدول علي التجارة الحرة بدأ يتضاءل بشكل ملحوظ، وتحولت الدول‮ -‬وعلي رأسها ألمانيا‮- ‬نحو سياسة‮ “‬الحمائية‮” ‬بتطبيق نموذج‮ “‬الاكتفاء الذاتي‮” ‬الذي يعتمد علي سياسة العزلة بشكل كبير، وقد أيده النازيون بقوة،‮ ‬حيث أسهم في التقدم الاقتصادي والعسكري لألمانيا بصورة كبيرة‮. ‬وفي سياق متصل، استبعد الكاتب دخول أي من الدول مرحلة جديدة من العزلة في العصر الحالي‮.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

أهمية القوة‮ “‬الحارسة‮”:‬‬‬

ذكر الكاتب أنه خلافا للأفكار‮ “‬الليبرالية الجديدة‮”‬، لا تؤدي العولمة إلي إحلال السلام العالمي،‮ ‬ولكن إلي تمزق العالم،‮ ‬إذا لم تطبق بشكل سليم، مشيرا إلي بلوغ‮ ‬العولمة ذروتها في عام‮‬1913 ‭.‬‮ ‬وبعدها بعام،‮ ‬خاض العالم حربا ضارية‮. ‬ولهذا،‮ ‬أوضح الكاتب أنه مع تزايد الصراع العالمي، بدأت الولايات المتحدة الاعتماد علي المنطق الذي يميل إليه الكاتب،‮ ‬والذي يقوم علي‮ “‬أنه لا يسود السلام العالمي في حالة عدم وجود دولة حارسة للعالم تعمل علي الحفاظ علي استقراره‮”.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

وفي سياق متصل، أشار الكاتب إلي أن الولايات المتحدة أصبحت قوة مهيمنة عالميا بعد التراجع البريطاني،‮ ‬وكانت بمنزلة الحارس للسلام العالمي خلال القرن الحالي‮. ‬ومع الصعود الصيني والروسي علي الساحة الدولية لمنافسة الولايات المتحدة،‮ ‬وصف الكاتب الدولتين بـ‮ “‬الرجعية وعدم المسئولية‮”‬، ليؤكد أنه علي الرغم من تقدم بعض الدول،‮ ‬والمخاوف من الصعود الصيني أو الروسي،‮ ‬في ظل تراجع القيادة الأمريكية،‮ ‬فإنهما ليس لديهما القدرة علي الحفاظ علي الاستقرار العالمي‮.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

وأرجع الكاتب السبب وراء الإدارة الجيدة للقيادة الأمريكية للعالم،‮ ‬وازدهار نظام التجارة الحرة،‮ ‬إلي أن حلفاء الولايات المتحدة كانوا وراء قبول الحقيقة الفعلية للهيمنة الأمريكية لرؤيتهم أن تلك القوة الأمريكية الجديدة لن تسبب أي ضرر لهؤلاء الحلفاء،‮ ‬من خلال قوتها العسكرية والاقتصادية،‮ ‬لاستبعادهم من السوق العالمية‮.‬‬‬‬‬‬

وألمح الكاتب إلي نظرية حل النزاعات، التي تنص علي أنه عندما يكون هناك تبادل تجاري بين الدول،‮ ‬فلن يحدث بينها أي صراع، محذرا من الاعتماد علي تلك النظرية،‮ ‬وضرورة الاستفادة من دروس التاريخ،‮ ‬وقيام الحرب العالمية الأولي‮ -‬بين دول كانت تربطها علاقات اقتصادية‮- ‬ومواءمتها مع التحولات العالمية الراهنة‮.‬‬‬‬‬‬‬

واختتم الكاتب بالإشارة إلي أنه إذا كانت القوي الرئيسية الكبري في العالم والقوي الصاعدة تسعي لتجنب الانزلاق إلي الصراعات، فإن تحقيق ذلك يتطلب جهودا حثيثة،‮ ‬وليس مجرد الاعتماد علي التعاون الاقتصادي‮.‬ وأشار في ذلك إلي عدد من المتغيرات العالمية التي أسهمت بشكل أو آخر في إحلال السلام بين القوي الرئيسية الكبري في العالم بعد الحرب العالمية الثانية، من بينها إنهاء سياسة الاستعمار،‮ ‬ومنظمة الأمم المتحدة،‮ ‬وانتشار السلاح النووي‮.‬‬‬‬‬‬

مجلة السياسة الدولية (تصدر عن مؤسسة الأهرام المصرية)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى