كاتبة جريئة في مواجهة استلاب المرأة بصفتها كائناً

في أكثر من حوار لها، لم تُخفِ الكاتبة الجزائرية الراحلة آسيا جبّار قولَها «إنّ اللغة الفرنسية هي الإيقاع الذي ينتظِمُ تنفُّسي اليوميَّ»، وهو إيقاع فرضته عليها ظروف تعليمها التي تنامت فيها ثقافة «الفَرْنَسَة» بالمؤسّسات الجزائرية إبّان الاستعمار، ودعَّمَتْه رحلتُها الدراسية إلى باريس. غير أن هذه الكاتبة التي تلحّ على أنّ «الدّم لا يجفُّ في اللغة» لاذت بهذا الإيقاع سبيلاً إلى دَوْزَنةِ جريان دمها الجزائري في كتاباتها وهو يفيض بتاريخ البلاد وثقافة ناسِها. وفي هذا الشأن، لا يعدم قارئُ رواياتها وقصصها حضورَ «المرأة الجزائرية» ثيمةً حكائيةً أثيرةً لديها، وهو أمر حرصت فيه جبّار على تمكين هذه المرأة من أدوار البطولة في غالبية مرويّاتها حتى تكشفَ عن كثرة آلامها وتُومئَ إلى وفرة أحلامها عبر جملةٍ سرديةٍ لا تبوح بمعنى مّا إلا لتُخفي به غيرَه.

ويبدو أن المشتَرَكَ العامَّ بين نساء مرويّات آسيا جبّار هو قلقهنّ من أوضاعهنّ الحياتية، وخوفهنّ من الامّحاء تحت سياط إكراهات المجتمع، وإحساسهنّ بضَيْمِ القبوع في منطقة الصمت طيلة أزمنة عدة، ورغبتهنّ في تحرير ألسنتهنّ من عقال المحاذير الاجتماعية والأخلاقية والدّينية ليصير بإمكانهن رواية سيرة الأنثى ومصيرَ كيانها في مجتمع يحكمه الرجال، والكشف عن أدوارها الفاعلة في دحر المستعمِر وصيانة تراث مجموعتها الاجتماعية. ذلك أنّ المرأة الجزائرية، وفقَ ما يظهر منها في كتابات آسيا جبّار، هي القناة الشفويّة التي انتقل منها تاريخ البلاد من أزمنتها الغابرة إلى أجيالها الجديدة، وهي وإن ظلّت مُقيمةً في «الثانويّ» و»المنبوذ» و»المهمَّشِ» من وقائع مجتمعها فإنّها مثّلت الذاكرة التي صدَّت بصمودها عاتياتِ رياح الغزاة وثبَّتَتْ أقدام الناس في لغتهم وثقافتهم. ولعلّ في وعي الكاتبة بفضل نساء الجزائر الحضاريّ ما حَفَزَها لإخراجهن من خانة «المُغَيَّبِ» في الثقافة إلى خانة «الموجود» في السَّرد، ومنحتهنّ حقّ التعبير عن تكسّراتهن وخيباتهن وإنْ بلسان فرنسيّ.

ترسم آسيا جبّار في مجموعتها القصصية «نساء الجزائر في شُقَّتِهن» لوحات لعنف ماضي المرأة الجزائرية وقلق حاضرها عبر سِتِّ قصص متّصلة دلالياً في ما بينها. ففي مشهد أوّل تصوّر الكاتبة مأساة المرأة وهي تتحمّل تبعات أنوثتها في مجتمع ذكوريّ يجهل فيه الرجل جسد زوجته على غرار فشل الطبيب «علي» في تعرُّف جسد زوجته «سارة» أثناء إجرائه لها عملية جراحية بالمشفى، وهو ما يُحيل إلى فعل الامّحاء الذي بات يتهدّد واقع المرأة وينبئ بانسداد آفاق خروجها من الهامش. كما لاذت الكاتبة «بالحمَّام العمومي» فضاءً ممكناً لحكي النساء بعيداً من آذان الرجال، ومكّنت فيه ذاكرة «سارة» وصديقاتها الأخريات من الكشف عن الوجه الخفيّ للمرأة واستحضار مرارة ماضيها الاجتماعي والعاطفيّ. وفي هذا الفضاء تسرد كل واحدة منهنّ تاريخًا من الحرمان والخضوع للأعراف والتقاليد، وتفصح عن رغبتها في التحرّر من الدونية والسكون الغامض، وهو ما نُلفي له صورة في قول إحداهن واصفةً الماء الساخن بالحمّام: «الحُرية تخرج من الغرفة الساخنة، حيث ثمّة المياهُ الجارية، المياه التي تٌغنّي، المياه التي تَضِيع، المياه التي تُحَرِّرُ».

وفي رواية «لا مكان في بيت والدي»، وقد عرّبها الدكتور محمد يحياتن واختار لها عنوان «بوّابة الذكريات»، تضع آسيا جبّار بطلتَها «فاطمة» في مواجهة مع السلطة الأبويّة وإكراهات مجتمعها القِيَمية. حيث ظلّ أبوها، وهو من المتعلّمين والمطّلعين على الثقافة الفرنسية، يبالغ في محاصرتها بمجموعة من النواهي والمحظورات من قبيل تحكّمه في طبيعة لباسها واختيار أصدقائها ومراقبة سلوكها بالبيت والشارع مع إلزامها بخفض الصوت حين تتكلّم لأن صوت المرأة شبيه بالعورة. وهو أمر فيه من الامّحاء لشخصيتها ما لم تجد له من حلّ سوى بالتمرّد عليه وإعلان عصيانها لكلّ مظاهر السلطة البطرياركية عبر بناء علاقات خفية مع بعض الشبّان والتجوّل معهم في أحياء المدينة بعد ساعات الدرس تشبّهاً بزميلاتها الفرنسيات اللواتي يدرسن معها. غير أنّ تنامي ضاغطات عائلتها دفعت بها إلى محاولة الانتحار بعد أن تيقّنت بأنه لم يعد لها مكان في بيت والدها.

وتبلغ ظاهرة الامّحاء التي تهدّد نساء آسيا جبّار ذروتَها في روايتها «المرأة التي لم تُدفَن» حيث ينهض السرد فيها على دعامة حكاية «زليخة» تلك المرأة المناضلة التي ترى أن «التحدّي شبيه بحالة السُّكرِ، لا، بل هو فرح صعبٌ». وظلّت تدعم في السرّ همّة الثوّار الجزائرين وتوفّر لهم المأكل والدواء إيماناً منها بعدالة قضيتها الوطنية وبواجب مكافحة المستعمر الفرنسي إلى أن تمّ إلقاء القبض عليها وتعذيبها حتى الموت من دون تمكين عائلتها من دفنها كبقية الأموات، ما جعلها تتحوّل بالنسبة إلى أبنائها الثلاثة إلى أسطورة تُشجِّع على الحكي وتبعث على الافتخار.

إنّ ما مرّ معنا من مصائر النساء في كتابات آسيا جبّار، وقد وقفنا فيه على ظاهرة الامّحاء في بعديْه الماديّ والرمزيّ، يحفزنا على تأكيد انتصار الكاتبة لقضية المرأة الجزائرية، وحرصها على كشف ما يعتور كيانَها الاجتماعي من آلام تعود في غالبيتها إلى ترسّبات ثقافية لا ترى في المرأة إلا كائناً مستلَب الشخصية ومنقوصَ الوعي ومحتاجاً إلى الحماية والصون.

صحيفة الحياة اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى