لعبة الزمن تتجلى في «خمس دقائق» للمصرية زينب عفيفي

سعت الكاتبة المصرية زينب عفيفي في مجموعتها القصصية «خمس دقائق» (الدار المصرية اللبنانية) الى اختصار فكرة اللعب مع الزمن، سواء الحاضر أو الماضي أو ما يمكن تسميته الماضي المستمر، ذلك الذي جرت وقائعه في سنوات بعيدة وظلت تأثيراتها حاضرة في المخيلة، لكنّ هذه المنظومة الزمنية لا تشتمل على أفق المستقبل، ذلك الذي يصعب التنبؤ فيه بما يمكن أن يكون عليه شكل الحياة.

في هذه المجموعة التي لا تزيد على مئة وعشر صفحات من القطع المتوسط تتواتر مشاهد الطفولة في شكل واضح، ليس رغبة في الحكي عن الماضي ولكن سعياً إلى فهم ما حدث من تغيرات بين الزمنين. ففي قصة «الكعب المكسور» تقارن بين «عاشور» الذي كان يصلح كعب حذائها في الطفولة وبين باترك الإرلندي الذي ذهبت إليه ليصلح كعب حذائها في إنكلترا. وفي قصة «نصفي الآخر» نجدها أمام توأمها التي توفيت عقب ولادتها، لكنها لم تستطع أن تنسى أنها نصف بويضة، بينما توأمها كانت النصف الآخر. وظلت تعيش بهذا الإحساس من دون أن تدري أياًّ من النصفين هو الذي رحل حتى التقت زميلة في الجامعة تشبهها في كل شيء، لولا أنها أجرأ في سلوكها وملابسها. وحين تقرر التأكد من حقيقة وجودها كطالبة معها في الجامعة تجد موظفة شؤون الطلاب بالهيئة نفسها، فتخرج من المكان من دون أن تعرف إن كانت تحلم أم تعيش الواقع. وفي قصة «سيد الحلم» تضعنا الكاتبة أمام زمنين تختصرهما في حلم واحد، زمن تعيش فيه وآخر مضى منذ سنوات، لكن الماضي لا ينتهي، خصوصاً أنه ترك أوراقاً وذكريات وأسراراً رغبت الكاتبة في نشرها في كتاب. لكن صاحب الذكريات لم يكن مرحباً بالفكرة حتى بعد رحيله بسنوات، ولم يكن هناك سوى الحلم كي ينطوي الحاضر ليلتقي بالماضي ليحسم في ثوان بسيطة أمراً لا يزيد على كونه حياة طويلة بين اثنين.

يهيمن حضور الماضي وذكريات الطفولة على مناخ المجموعة ككل، لكن هذا الحضور لا يمكنه أن يكون ببطولة النص وحده، فثمة راوٍ في زمن راهن يستعيد وقائع هذا الماضي من أعماقه أو من عقله الباطن، لا لشيء إلا لظهور مثير مشابه لهذا الماضي، ما يجعل الكاتبة ترصد ما يجري في الحاضر بموازاة رصدها لما كان يجري في الماضي، مقارنة بين الواقع والمثال المرتبط بالطفولة.

جاءت مجموعة «خمس دقائق» متوافقة مع ما طرحه كُتَّاب ما بعد الحداثة عن الزمن وتقسيماته، فنجد حاضراً وماضياً، وما يمكن تسميته بالماضي التام المستمر، هذا الذي مازال مؤثراً في الأحداث على رغم أن وقائعه تمت منذ سنوات بعيدة. ولا ندري هل خططت زينب عفيفي لمجموعتها كي تجيء على هذا النحو أم أنها طبيعة راوٍ مراوحٍ طيلة الوقت ما بين الماضي والحاضر، ما أنتج تنويعات زمنية داخل النصوص، وكأننا أمام أكثر من خيط سردي في قصة واحدة، كما حدث في نص «خمس دقائق» الذي حملت المجموعة عنوانه، وفيه ترصد الكاتبة تأخر حفيدها في مدينة الأطفال في أحد «المولات» الشهيرة لمدة خمس دقائق عن موعده. كانت هي فعلياً في انتظاره خلال هذه الدقائق الخمس، لكنها روحياً كانت تتجول بين أكثر من زمن بدءاً من عالم نموذج مدينة الأطفال الذي يحاكي مدن الكبار، والذي يقوم فيه الأطفال بوصفهم كباراً بالمشاركة في إطفاء الحرائق وملاحقة اللصوص وغيرها، وصولاً إلى عالم الشباب المندمجين في حال أقرب إلى التصوف مع فتيات في مثل سنهم أو أصغر، مروراً بأصداء تلك الموسيقى التي أعادتها إلى صورة «عم محروس» صاحب «البيانولا» ذات الصندوق المستطيل وصورة الفنان الشهير، و»المنافيلا» التي كلما أدار «محروس» ذراعها صدحت منها موسيقى أكثر عذوبة وجمالاً مما تسمعه وتراه في مدينة الأطفال الآن. هكذا وضعتنا الكاتبة أمام أزمنة وعوالم متباينة في لحظة واحدة، حيث الحاضر والماضي والمعاش والمتخيل، وحيث الزمن الجميل الذي يعد كل ما فيه هو مقياس عذوبة وجمال الأشياء في الواقع الحالي.

في الأفق دائماً ثمة سؤال بالنسبة إلى الكاتبة عن المستقبل، سؤال لم تطرحه لكنه يظل موجوداً في ذهن القارئ، وكأنه يتساءل معها عما سيكون عليه شكل العالم حين يكون الحفيد جِداً. ربما تهربت الكاتبة من وضع هذا الأفق في منظومتها الزمنية لأن الإجابة عنه ربما تكون أكبر من القدرة على التخيل، فما قطعته البشرية في السنوات الأخيرة يجعلنا لا نستطيع تخيل منجزاتها خلال مدى زمني موازٍ لعمر الكاتبة. ومن ثم لم تستطع المغامرة بوضع شكل للمستقبل في حضور الماضي البسيط وربما الماضي التام أيضاً، تاركة ذلك الأمر لقدرة القارئ على تخيل سرعة الزمن ومعدل التطور الحضاري الذي ستقطعه البشرية خلاله.

ويلاحظ تخصيص الكاتبة نحو عشرين قصة للعب فيها على مفهوم الزمن وتنويعاته، ساعية إلى المزج بين الحلم والواقع مثلما مزجت بين الماضي والحاضر، وبين الجِد والحفيد، و«جيلاتي العم محروس»، و«آيس كريم» البائع الذي يتخذ هيئة أميركية، و»عم حسين» صانع الأحذية، و»باتريك» الإرلندي الذي يحلم بزيارة الأهرامات ومعبد أبو سمبل. ما بين نصف البويضة الميت ونصفها الحي، ما بين المضارع البسيط الذي يتسرب من بين أيدينا كل دقيقة وما بين الماضي الذي يفاجئنا بحضوره، من دون أن نعرف أن زمناً طويلاً مرَّ علينا ولم نتنبه. ربما كانت هذه لعبة زينب عفيفي الأساسية في مجموعتها، وهذا ما استطاعت أن تحفره بدقة في عقل قارئها الافتراضي.

صحيفة الحياة اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى