محمد المنسي قنديل في تحيّة «أليمة» إلى جيش مصر القرن 19

أدّى الروائي المصري محمد المنسي قنديل، في روايته الجديدة «كتيبة سوداء» (دار الشروق)، تحية إلى جيش مصر، عبر سرد واحدة من بطولاته المجهولة، التي جرت وقائعها قبل مئة وخمسين عاماً على الأقل.

تعود الحكاية إلى القرن التاسع عشر، بحيث اختار الكاتب أن ينتهز الفرصة ليلمس وتراً حساساً في شأن علاقة الشرق بالغرب. فبدا كأنه يؤسّس لانتصارٍ تاريخي «محدود»، دُوِّنت سطوره ساعة وقوعه في عجالة، حتى كاد أن ينساها التاريخ. لكنّ المنسي قنديل أراد أن يحفره عميقاً في الذاكرة العربية، بوصفه لحظة انتصار «موقت» لهذا الشرق المليء بالغلابة والكادحين، على ذاك «الغرب»، الذي احتلّه عقوداً طويلة.

اختار الكاتب أن يوجّه التحيّة إلى الجيش المصري، الذي أثارت بسالة جنوده إعجاب الأمم، على مدار التاريخ، تماماً مثلما تثيرها اليوم، موجّهاً خطوط روايته الجديدة، باتجاه «حكاية الأورطة المصرية»، التي أرسلها الخديوي سعيد باشا إلى المكسيك عام 1863، لتقف إلى جوار جيوش فرنسية وأوروبية، بغية دعم صديقه الأمبراطور ماكسيميليان الأول، وهي واقعة شبه مجهولة في التاريخ المصري، حيث تمّ إرسال جنود «الأورطة السوداء» إلى المكسيك، للمحاربة في صفّ فرنسا.

العارفون بأدب المنسي قنديل، يظنون أن «كتيبة سوداء»، رواية استثنائية، في مسيرة صاحبها الروائية من ناحية، وفي مسيرة الرواية المصرية من ناحية أخرى. فهي ذهبت إلى مناطق جديدة وشائكة من التاريخ غير البعيد، بحيث تدور أحداثها بعد عام 1863، ونصف وقائعها تحصل في المكسيك. وإن كانت تحمل السمات الروائية نفسها، اللغة الشعرية والتداخل في مسارات الأحداث، كما عادة الكاتب في كل عمل جديد، غير أنها مختلفة في أنّ أحداث روايته الجديدة تدور بين ثلاث قارات على الأقل.

يبدأ المنسي قنديل حكايته، هذه المرة، من أبعد نقطة يمكن أن تبدأ منها الحكاية، في الزمان والمكان أيضاً، أبعد بكثير من مسارات حكاياته السابقة، التي شكَّل الترحال فيها متغيِّراً مهماً. فبعدما كانت الذات محوراً لروايته الأولى، «انكسار الروح» (1988) باتت الذات تجد نفسها في شخوص آخرين. وكما في روايته الأخيرة، تذوب الذات، بحثاً عن نقطة غامضة في الذاكرة الوطنية، إذ يعمل الروائي هنا بوصفه محققاً للتاريخ، قادراً على إقناعنا بعذوبة شخصياته.

من كوكو سودان وعبدالخير إدريس إلى محمد أفندي ألماس، الشخصية الحقيقية المُتعيّنة في كتب التاريخ، هم جميعهم بشر لم يكن ينقصهم في حكاية المنسي قنديل أيّ شيء، فقد باتوا يعيشون ويتنفّسون ويحبون ويكرهون، وحتى حين يقتلون، يكونون بشراً مثلنا.

كعادته، يبرع صاحب روايات «انكسار الروح»، «قمر على سمرقند»، و «أنا عشقت»، في كتابة المدخل إلى روايته الجديدة. براعته المعتادة في اصطياد قارئه إلى السودان، وتحديداً إلى منطقة «بحر الغزال»، بادئاً من قصة تاجر العبيد «ود الزبير»، الذي يبدأ دوماً المساومات التي لا تنتهي، من مركبه الراسية على ضفة النيل.

تبدأ الرواية بطلقة، إذاً، يتردد صداها في مصر وأوروبا والمكسيك، حيث تتشعّب خيوطها كقصص «ألف ليلة وليلة»، وسرعان ما تلتئم على قصص الحب في نهاية الطريق، فلا قصة حرب – بكل أسف – في هذه الحكاية، ولا ردّ فعل صاخب ودموي، على قصّةِ حُب.

الحب والقتل يتمدّدان على جدران هذه الرواية كالفِطر، يتراكمان بمرور الحكاية. ففي كل حرب عشيقة، والرواية مليئة بقصص العشق العابر بين الحروب، بدءاً من المرأة الفرنسية التي يسميها الأفارقة «السنيورة»، التي تستخدم العبيد السود في اللحظات الحميمة، وتطلب من جلاب العبيد أن يبيعها رأس حيوان نادر، في بداية الرواية، مروراً بالملكة «كارلوتا» التي سقطت في علاقة محرّمة مع أحد الجنود السود، في المكسيك، بعدما تأكدت من فقدانها العرش، مروراً بقصص الحب التي عاشها الجنود مع مكسيكيات، قبل أن تلقي الحرب أوزارها.

يقفز بطل المنسي قنديل – الذي سقط في علاقة غرامية مع «ملكة» سليلة ملوك الغرب – فوق تاريخ الرواية العربية كلها تقريباً، من حيث علاقة الشرق بالغرب، قفزة أكبر من تلك التي حققها مصطفى السعيد، بطل رواية «موسم الهجرة إلى الشمال»، للسوداني الراحل الطيّب صالح. لقد كان السعيد، يعيش حياة مثقف مترف في لندن، يقيم علاقات مع أوروبيات عاديات، على سبيل الانتقام من الغرب، الذي احتلّ بلاده «العربية»، لأكثر من نصف قرن، رافعاً شعار «جئتكم غازياً بسيفي. بينما تقيم رواية المنسي قنديل علاقة صريحة بين ملكة المكسيك، وأحد جنود «الكتيبة المصرية» البسطاء – ملح الأرض – بعدما عيّنته الملكة حارساً شخصياً لها، يحافظ عليها ويحميها، حتى وهي بين أهلها وذويها.

ومثلما في كل رواياته وقصصه، تتمتع رواية «كتيبة سوداء» بلغة شاعرية موجعة، يســـتخدمها للحديث عن جنود يتم إلقاؤهم في الصـــحراء بلا طعــــام عشرين يوماً أو ما يزيد، على سبيل التدريب الشاق، عن الروح التي تدبّ في أوصال هؤلاء، الذين يعود منهم أحياء إلى «الكتيبة»، ليكتشفوا أن أنبل زملائهم رحلوا في صراع مع الطبيعة لا مع الأعداء، الذين اعترفوا مراراً وتكراراً بأن جنود «الأورطة المصرية»، كانوا مثالاً يُحتذى في الحياة العسكرية.

استفادت الرواية «كتيبة سوداء» من الثقافة الواسعة لكاتبها، بالأمكنة والتواريخ والحكايات، فالكاتب أحد الرحّالة الذين تركوا انطباعات هائلة عن مدن كثيرة زاروها، بينما كان يعمل سنوات محرراً للاستطلاعات في مجلة «العربي» الكويتية، وهو أحد أبرز كتاب جيل السبعينات في الرواية المصرية.

صحيفة الحياة اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى